ليس أكثر سلباً للعقل من الشعارات. ولا أضر على العلم من معالجته بأدوات السحر. ولا أسوء من توظيف الدين للأيديولوجيا. ولا حماقة أكبر من الحماس لفكرة الإعجاز العلمي في القرآن. ولم يكن القرآن يوماً كتاب فيزياء بل منبر هداية. ولم تذكر السنن في القرآن ويقصد بها المعادلات الكيميائية بل السنن النفسية الاجتماعية.
وفكرة (أسلمة العلوم) مثل اختصار كل الألوان إلى اللون الرمادي وانكماش الأبعاد إلى نقطة رياضية. وهو يناقض روح القرآن وتركيب الكون وجدل العقل.
ومجال (الدين) غير مجال (العلم) وإن كان بينهما تقاطع. ولكن تقاطع خطين مستقيمين في نقطة لا يعني أنهما واحد.
وبقدر ما يقدم (الدين) إجابات نهائية محددة على قضايا غير محدودة ولا نهائية. بقدر ما تفتح الفلسفة الباب بعد كل جواب بسؤالين جدد. وليس هناك أشد إزعاجا وقلقا من ركوب سفينة الفلسفة كما يقول (نيتشه) فمن أراد أن يرتاح فليعتقد ومن أراد أن يكون من حواري الحقيقة فليسأل؟
وفي يوم حاول الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) نقل الوثاقة واليقين من الرياضيات إلى الدين والعلوم الإنسانية فلم يوفق. والسبب هو تباين الأدوات المعرفية في كلا الحقلين.
ويبدو أن هناك معادلات نوعية ومعقدة لكل فرع معرفي.
وهذا الشغف استولى على كل من (غاليلو) و(سبينوزا) و(فيثاغورس) من قبل. فأما غاليلو فقال إن الكون كله مسطر بلغة رياضية فإذا أردنا استنطاق الكون فليس علينا سوى إعادة صياغته في معادلات.
وأما (باروخ سبينوزا) الهولندي فقد وضع كتاباً كاملاً يربط فيها بين الأخلاق والرياضيات بعنوان مثير (الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي). وأما (فيثاغورس) فقد كوَّن نحلة غامضة تعتمد سر الأرقام.
ورقم 19 سحر عقل عالم مصري في الكمبيوتر فذهب إلى أن القرآن كله يقوم على هذا الرقم السحري. وهو مدهش لولا أن مفجري أبراج نيويورك في خريف 2001م وعناصر تفجيرات الرياض في ربيع 2003م كانوا تسعة عشر؟ وما أدراك ما سقر؟
وإدعاء (أسلمة) العلوم يمكن أن تقابل بـ (تهويد) أو (نصرنة) و(بوذذة) العلوم؟ وهو إدعاء لم يدعو له أتباع بقية الديانات لحسن الحظ ومن تحمس له كان من يدير مركزا إسلامياً معتبرا على احتكاك بأحدث مصادر الإنتاج المعرفي في قمة العالم.
وفي الإنجيل إذا كان النور الذي فيك ظلاماً فكم يكون الظلام؟
ويبدو أن هذا الاتجاه له أرضية (نفسية) من الهزيمة العلمية الساحقة التي ينوء تحت ثقلها العالم الإسلامي. فهو يستورد المعرفة مع السيارات والأفكار مع مساحيق التجميل. وأما الأحزاب والبرلمانات والديموقراطية فتخرج في نسخ مزيفة تماماً. مثل بناء البيوت على يد مهندس عربي وشركة فرنسية. ففي الأول تتحول البيوت في الصيف إلى جهنم تتلظى لا تسكنها العقارب والأفاعي. وفي الشتاء إلى بيوت من الاسكيمو يهرب منها الدب القطبي والفقمة. فهذا هو الفرق بين العالم الإسلامي والحداثة؟
وفي كندا يعيش الناس في درجة حرارة أربعين تحت الصفر فلا يشعرون بالبرد الذي يعض مفاصل العربان في شتاء الشرق الدافيء.
ولو بقينا نبني بيوتنا بالطين كما فعل أجدادنا من قبل لكان أصح وأوفر وأقرب للطبيعة وأبعد عن الاستيراد. ولكن سر الحداثة ما زال في يد ملك الجن الأزرق فنحن ندفع ثمن التقليد مالاً يهدر وعرقا يتصبب.
وفي عام 1800 م كان الألماني (فون هومبولدت) يعس في غابات الأمازون لمدة خمس سنوات يجمع فيها غرائب النبات وعجائب الطير ثم يرجع إلى برلين فيعمل خمسين سنة على تصنيف ما وقع تحت يده في خمس مجلدات. فهذه هي (الأسلمة) الفعلية. أي دراسة الوجود كما خلقه الله. فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
ونحن في تعبير (أسلمة) العلوم ننزع إلى خلع (الأيديولوجيا) التي نحملها على الوجود فنمارس التزوير من أوسع أبوابه. وفكرة (الأسلمة) خدّاعة غير أنها بعيدة عن الصواب. وهي لا تزيد عن تصوراتنا. وفكرة (النسخ الإسلامية) يجب أن تكون نصب أعيننا وهناك (إسلام ضد الإسلام) وهناك إسلام بن لادن والترابي وبيجوفيتش البوسني وشحرور الشامي. وهو طيف يصل إلى حواف التناقض والتضارب والفوضى.
وفي كتاب (وجهة العالم الإسلامي) كتب مالك بن نبي فصلاً بعنوان (فوضى العالم الإسلامي).
وفي شوارع دمشق تلاحظ ملابس النساء من (الملايا الزم) إلى (معاطف المطر) مع سيقان بجوارب في درجة حرارة 45 بألوان شتى مثل رتب الضباط في الجيش إلى (الجلباب الأسود) وانتهاء (بالألبسة الفاحشة) مما يوحي بأن المجتمع مجتمعات وان كل امرأة تعيش زمنا مختلفاً من العصر المملوكي أو العثماني أو الشانزيلزيه في باريس.
وعندما نختلف يجب أن العودة إلى الطبيعة واستنطاق اللغة الأساسية التي كتب بها الكون فهي أصلية وغير مزورة وثابتة ومتكررة. ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وهذا المصطلح (أسلمة العلوم) لم يعتمده علماؤنا قديما لسبب وجيه أن الكون كله أسلم لله. وكل كشف لحقيقة علمية هي قراءة مختلفة لآية غير قرآنية.
وهناك من حاول توظيف القرآن لصالح الأيديولوجيا فزعم أن سرعة الضوء موجودة في القرآن. ولكن الغريب أن هذه الحقيقة لم يقل بها أحد قبل أن يعلنها عالم غربي. و(فيزو) الذي قاس الضوء بحوالي 300 ألف كم في الثانية لم يرجع إلى نص من كتاب مقدس بل قرأ الآية من الكتاب الأصلي (التكويني).
وبهذه الطريقة نتخلص من مرض (الانتقائية) التي تذكر بكتاب الجاحظ عن البرص والعرج والعميان.
وصخرة في مكانها أدل على نفسها من كل ما كتب حولها ولو كان نصاً منزلاً. لأنها اللغة الأساسية. وهذا هو السر أن القرآن امرنا أن نسير خارج القرآن فقال: قل سيروا في الأرض. ولم يقل سيروا في القرآن. لأن الأرض هي اللغة الأساسية والأصلية غير المحدودة ولا يختلف الناس حولها. والقرآن اللغة المكتوبة المحددة ويتصارع الناس حول فهمها ويقتتلون ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد. والنص أي نص يعمد إلى وصف زاوية معرفية من الصخرة. أما وجودها الأصلي فهو منبع لا ينتهي للحقائق. ومن خلال انحنائي التماس يمكن استنطاق الصخرة بحقائق علمية لا نهائية في الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والآركيولوجيا وسواها. والإنسان هو مجموعة مضغوطة من العناصر على شكل ديسك كوني في حقائق تشريحية وفيزيولوجية ونفسية واجتماعية وتاريخية وجنسية وثقافية ودينية. ولذلك خلقهم.
إن (أسلمة العلوم) و(الإعجاز العلمي) في القرآن محاولات طفولية لإضفاء عظمة على مسلمين تحولوا إلى عظام. ويحاول أطباء الصحوة الإسلامية معالجة قصر القامة بلبس بدلة طويلة. وملء خزائن المفلسين بقصص ألف ليلة وليلة.
والإسلام غير المسلمين. وهو ينتشر في العالم بقوة دفع ذاتية. ومن يعتنقه يفكه عن العرب العاجزين. وبغداد اليوم غارقة في النفايات. ويمكن لدبابة أمريكية أن تهرس سيارة لا تمشي على الدور أمام محطات البنزين. ومن ينس التاريخ عقوبته أن يتجاهله الواقع. وعلى المسلمين أن يتعلموا التواضع ويبدأوا في التتلمذ وأن يستوعبوا أن العالم أكبر من خيالاتهم. وإذا كان العالم قد كبر فإن المسلمين نسوا أن يكبروا. وما زالوا يعيشون على ضوء قنديل علاء الدين السحري.
وصف لجحا يوماً امرأة ذات عيون تسحر الألباب فطار قلبه ووقع في غرامها ولم يصبر حتى تزوج بها فاكتشف أنها حولاء. وفي يوم العرس قدم لها طبقا من قشطة وعسل فقالت على استحياء لماذا أحضرت طبقين ونحن اثنين. وفي الليلة التالية أطرقت بخجل وقالت يا جحا لم تخبرني عن الزائر الذي بجانبك؟ قال جحا: أما أن يكون الصحن اثنين فهو علامة كرم ولكن وجود رجلين بجانب امرأة واحدة خطير ولا علاج له إلا الطلاق.
ونحن في (أسلمة العلوم) نتأمل العالم بعين حولاء فنتخيل العلم بدون وجود علم.
- آخر تحديث :
التعليقات