لم يبق فيلم جوراسيك بارك عند جزئه الأول، بل تعداه إلى الجزء الثالث، ولكن طرافته وروعته كانت في الجزء الأول، بل لعل إشراق الجزء الأول خف مع بقية الجزئين التاليين، تماما كما في فيلم راش آور(RUSH HOUR)، أو سبيد، أو ياماكازي الذي تحول من لعبة مرحة إلى جرائم قتل؟!
وهي حكمة بديعة أن يقف الإنسان عند نقطة الروعة فتبقى في أجمل ذكرى، ولو بقي فيلم الياماكازي وجوراسيك بارك عند جزئه الأول، لكان أجمل وأفضل وأبقى في الذاكرة، ولكنها هوليوود سيد العنف وربة الجنس؟!
وبقدر ما كانت افتتاحية فيلم (جوراسيك ـ بارك JURASIC PARK) مثيرة ومسلية (1) عندما أطلت هذه الأوابد (الديناصورات) التي انقرضت قبل خمس وستين مليون سنة من ظهر اليابسة، وكأنها البناية الكبيرة المتحركة، تهز الأرض بوزن يزيد عن خمسين طن، وبطول يتجاوز العشرة أمتار، بقدر ما كانت خاتمته كارثة كاملة، وفاجعة تدعو للتأمل، في وجود حيوانات خطيرة من هذا النوع، حينما تنفلت من أقفاصها بين الناس، تبطش ببعضها البعض وتفترس الناس، ذات هيكل مرعب ودماغ صغير قاصر، بأنياب بطول (18) سم، وأظلاف أحدَّ من مشارط الجراحين، وبوثبات تذكر بحيوان الكنغارو الاسترالي، فمخرج الفيلم ستيفن شبيلبيرج (STEVEN SPIELBERG) راعته الحكاية الجديدة والإمكانيات التي تفوق الخيال في قصة الجينات (البروجرام الوراثي) في خلية كل كائن حي، والتي تشبه البذرة في الثمرة، فأقام العمود الفقري للفيلم على هذه الفكرة، مثل فيلم ما بعد الغد في اجتياح الثلوج النصف العلوي للكرة الأرضية ونهاية الإمبراطورية الأمريكية وهرب الأمريكيين شحاذين إلى المكسيك، ولكن قبل الوصول الى طرافة عقدة الفلم والعتبة الجديدة التي يخترقها علم الجينات، علينا أن نعرف ما هي الجينات أولاً؟

لغة الجينات السرية تقوم على أربعة حروف فقط:
في الستينات من هذا القرن استطاع الثنائي العلمي (واطسون ـ كريك) أن يصلا الى كشف يعتبر ـ لعله الكشف البيولوجي الأهم في القرن العشرين ـ الى أن الكائنات الحية ومنها الإنسان تحافظ على نفسها، وتكرر وجودها من خلال خريطة هندسية سرية في غاية الدقة والتعقيد، قد حُفظت في خزانة أمينة مقاومة، لاتصل إليها أيدي اللصوص والعابثين ولا تحتاج إلى نظام أمن مخابراتي مشدد؟؟.
فأما الخزانة فهي نواة كل خلية، وأما هذه الشفرة السرية للخلق (CODE) فهي وثيقة مكتوبة بلغة لا تشابهها أي لغة في العالم، ولا تقترب منها لا النقوش المسمارية، ولا اللغة الهيروغليفية لقدماء المصريين؟!
والحروف المستخدمة لهذه اللغة السرية مكونة من أربعة حروف فقط، ومن هذه الحروف الأربعة تكتب اللغة الجديدة.
وهذه الحروف الأربعة هي تراكيب عضوية لأربعة أحماض أمينية هي (السيتوزين والغوانين والثيميدين والادينين ACTG) فإذا أردنا ترميز هذه الأحماض الأمينية الأربعة بأربعة حروف كانت: (الألف والسين والجيم والتاء ـ أ.. س.. ج.. ت..).
ومن تتابع هذه الحروف تتشكل كلمات الخلق الجديدة، ففي نواة الخلية يوجد مجلد ضخم مكون من (500) خمسمائة صفحة من تتابع هذه الحروف المبهمة (ا ا س ت ج ت ت ت ج س س ا ج ج س س ت س ا) التي تشكل لغة الخلق الكاملة، فبواسطتها تتشكل كل تراكيب البدن؛ من لون القزحية في العين، ولعاب الفم، وتراكيب الهورمونات، وتنوع مكونات بلاسما الدم، والسقالة العجيبة للهيموغلوبين للكرية الحمراء من 574 حمضا أمينيا بذرة حديد مثل الأسمنت المسلح، أو ذرة الأنسولين بسلسلتين من الأحماض الأمينية بينها جسور كبريتية مضاعفة كما كشفها ساندر؟ كذلك تباين الأنسجة، وإفراز الأنزيمات وهكذا..
وبالنسبة لنا فإننا لا نفقه شيئا من هذه اللغة التي تنساب بدون فاصلة وهمزة أو إشارة تعجب، ولكن الخلق المستمر يمشي على هذا التتابع والنظم، وكل شيء يتشكل في جسم الكائنات سواء كانت تفاحة أو ذبابة، يعسوب أو نحلة، بعوضة أو جرثوم، إنسان أم حيوان، فان خريطة تكوين كل شيء فيه يرجع الى اللوح المحفوظ الداخلي، الذي يملي أوامره حسب الحاجة في إصلاح أي عطب، أو انجاز أي تركيب، أو ترميم أي نقص.
هذه الخريطة السرية المحفوظة بعناية فائقة داخل نواة كل خلية (وعدد خلايا الجسم في المتوسط 60 ـ 100 مليون مليون خلية) قد لُفِّفَت ووضعت على شكل خيط رفيع ملفوف بشكل (كبة)؟!.
ونفس هذا الخيط الرفيع إذا نظر إليه تحت الجهر المكبر يبدو بشكل خيطين متجاورين ممتدان بنفس الطول والاستقامة، بجانب بعضهما البعض، فهما مثل عمودا السلم الذي يمسكه في الوسط (الدرجات)، ولكنه قد لُفَّ بشكل حلزوني، مثل مصاعد وسلالم البنايات العالية الداخلية.
هذا السلم هو في الواقع أشبه بعمود نبات سكر القصب، أي الحلقات المتصلة ببعضها البعض، وهي في الخلية كل حلقة مقابل حمض أميني.
وهكذا يتتابع ترابط وتسلسل الأحماض الأمينية ليمتد الى حوالي ثلاثة مليارات، هي كامل الخريطة الهندسية السرية المحفوظة للإنسان.
وهي في بقية الكائنات أقل فقد تصل في البكتريا الى بضع آلاف فقط، ومثلا فمن آخر ما كشف عنه فك الشيفرة الكاملة لجرثومة الأنفلونزا الدموية ـ BACTERIUM HAEMOPHILUS INFLENZA ـ وتبين أنها تتكون من (1,8) مليون حامض أميني وتتكون من (1743) جين (كلمة كاملة) ولم تتم قراءة النص الكامل بعد للوح هذا الجرثوم، فالكثير من الجينات ذات وظيفة مجهولة).
والآن إذا نظرنا الى التكوين الكامل للكائن الحي فانه خليط مرعب من التراكيب، معقد في غاية التعقيد، ولكن المسئول عن تكوين كل شيء، أو تعويض أي نقص، أو إصلاح أي عطب من عضلة أو عصب أو هورمون، فإن أمره يعود الى الخريطة الهندسية الأولى الموجودة في نواة الخلية التي تتربع على العرش تعطي الأوامر. ويحدث كل هذا وفق اللوح المحفوظ أي التركيب الكامل لكل شيء في البدن، فالمليارات الثلاث من الأحماض النووية أو 140 ألف جين هي كلمات الخلق الأساسية، وكل مجموعة من عدد محدد من الأحماض الأمينية الأربعة التي ذكرناها هي شفرة خاصة بانجاز محدد؛ فقد نرى (ا ا ا ت ت س ج س ج س ج س ت ت ت ج س س س) وتعني هورمونا ما مثل الأنسولين المسئول عن حرق السكر، أو التستستيرون الهورمون المسئول عن الذكورة في الرجال، أو تركيب الكولسترول (شحم الدم) وهكذا، فلو فرضنا أن الحروف آنفة الذكر تعني (ركب أيها الجسم هورمون الأنسولين) ونستطيع أن نقرب التصور فيما لو فككنا حروف الجملة السابقة (ر ك ب ا ي ه ا ا ل ج س م.....) فنحن لا ندركها ما لم نضمها الى بعض، فكيف إذا كانت مرتبطة بشيفرة سرية خاصة، هي أعقد بعشرات المرات من أصعب شيفرات مفاتيح خزانات النقد العالمية!!
إذا فهذا الشريط الممتد والمزدوج هو نص كامل من تتابع كلمات وأسطر وجمل، فيه من الشعر والفكر ما لا حد له من أوامر الخلق الإلهية لإنتاج كل تراكيب البدن العجيبة.
إذا فهمنا هذه الحقيقة الأولى فإننا نكون قد كررنا معلومات مضى عليها ربع قرن من الزمان واستقرت، ولكن لابد منها لترويض البحث أمام القارئ الذي لم يتمرس بعد مع هذه المصطلحات العلمية.
وأما الانعطاف الجديد فقد كانت بداياته حين عرضت المجلة العلمية (الطبيعة NATURE) بحثا لشاب غامض سويدي الجنسية من أصل كوبي اسمه (سفانتي بيبو ـ SVANTE PAEAEB) فيه اختراق معرفي جديد، فما الجديد الذي جاء به هذا البحاثة من برد السويد القاتل؟؟ (أصبح الآن أستاذ كرسي في ألمانيا)

الاختراق المعرفي الجديد يشق الطريق الى علم (الاركيولوجيا الجزيئية أو ـ البالنتيولوجيا الجينية) ـ مزج علمي الحفريات والصبغيات:
استطاع هذا الشاب السويدي الديناميكي النبيه أخذ عينة بحجم رأس الدبوس من مومياء مصرية قد ماتت قبل 2400 سنة (2) قام بعدها بتحليل خلايا الخزعة وأمكن له تحليل التركيب الجيني فيها، حيث استطاع معرفة ومقارنة الحامض النووي الموجود في مومياء رمسيس الثاني مع أي إنسان يعيش على ظهر الأرض اليوم، وهذا الاكتشاف لم يكن إلا رأس جبل الجليد لعلمٍ يزحف اليوم لكشوفات في غاية الأهمية كما سنبين بعد قليل. وبهذه الفكرة الصغيرة اقتربنا من عقدة فلم جوراسيك بارك قليلاً، والاكتشاف الأخير بدأ يحول الأفكار التي جاءت في فيلم جوراسيك بارك ربما الى حقيقة مع الزمن، كما حصل سابقا مع (فريدريك فوهلر) الألماني عام 1828 م (FRIEDRICH FUEHLER) ومع ستانلي ميللر (STANLEY MILLER) الأمريكي عام 1953 عندما توصل الأول الى تركيب البولينا (اليوريا)، والثاني الى تركيب بعض الأحماض الأمينية من مزيج من الميتان والهيدروجين والأكسجين والامونيا، بعد أن عرَّض المزيج الى الحرارة ولمعات من الكهرباء بين الحين والآخر ولعدة أيام، وكان من نتيجة هذين الاكتشافين البسيطين إحداث هزة علمية فلسفية، ذلك أن نظرة العلماء القديمة لم تكن تؤمن أن المواد العضوية يمكن إنتاجها بغير العضوية بالذات، فتم هزها والتقدم باختراعات علمية، وشق الطريق الى علم جديد هو (الكيمياء العضوية) ليس إنتاج الكاوتشوك الصناعي آخرها، والذي هو أجود من الكاوتشوك الطبيعي، فالفكرة التي فجَّرها (سفانتي بيبو) هي إمكانية الحصول على حامض نووي من كائنات اندثرت منذ فترة طويلة، ولكنها بقيت محفوظة في برَّاد الطبيعة، وبقي بيبو يبحث عبثاً عن كائنات عضوية أكثر من المومياء المصرية، ويمكن عزل الحامض النووي منها، ولكن الفضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، فتم الاختراق الجديد على يد العالم الأمريكي (راول كانو RAUL CANO) فما هو الجديد والرائع والذي يمثل قفزة نوعية في علم الجينات، بل والدخول الى عتبة علم جديد والذي يعتبر مزيج من علم (المستحاثات الجيولوجية) وعلم (الجينات الخلوية)

المزيج العلمي الجديد وفتح الطريق لعلم المستحاثات الصبغية أو علم الجينات المتحجرة؟
يعتبر العالم جيورج. و. بوينار (GEORG. O. POINAR) من الأوائل الذين أشاروا الى هذا العلم الجديد وكتب عنه قبل فترة كتابا بعنوان (الحياة في حجر الكهرمان (LIFE IN AMBER) يقصد بذلك ظاهرة جديدة تم كشفها جيولوجياً، وهي العثور على كائنات مندثرة منذ ملايين السنين قد حفظت بواسطة صمغ الراتنج، الذي تحول مع الزمن الى حجر قاسي حافظ شفاف، هو حجر الكهرمان الغالي، ويمكن رؤية الحشرة داخله أثناء تسليط الضوء عليه.
هذا التنبؤ العلمي وصل إليه العالم الأمريكي (راول كانو) الذي استطاع عزل نحلة من النوع الذي لا يملك ابره لسع، من حجر الكهرمان تعود الى (25 ـ 40) مليون سنة؟!

الكشف العلمي الجديد المزلزل (نحلة محفوظة منذ أربعين مليون سنة والجراثيم الموجودة في أمعاءها ترجع الى الحياة بعد تغذية اسبوعين):
يعتبر مختبر الدكتور كانو في القسم التقني الطابق الثالث من جامعة سان لويس اوبيسبو (SAN LUIS OBISPO) في كاليفورنيا أقرب الى أمكنة الاختبارات السرية العسكرية منها الى مراكز البحث العلمي اليوم، فالمدخل لا يدخله أي إنسان إلا بعد تفتيش دقيق، وضوء الإنذار الأحمر يلتمع بشكل متواصل، وقفل بحجم قبضة اليد مدلى على الباب الداخلي، والغرفة في الداخل وكأنها البراد، والبحث قائم على ساق وقدم، حيث بدأ تدشين عصر جديد؛ فالنحلة التي تم كشفها في حجر الكهرمان هي من نوع (PROPLEBBIA DOMINICANA) وتم عزل جراثيم من نوع (bacillus sphaericus) في داخل أمعائها.
استطاعت هذه الجراثيم مقاومة الظروف الرهيبة عبر ملايين السنين فتخلصت من الماء وتحولت الى قطعة بروتين جافة، ثم طوقت نفسها بغلاف سميك مقاوم غير قابل للاختراق. وعندما تأملها كانو لم يكد يصدق عينيه أن هذه البكتريا يمكن أن ترقد قابعةً في كهفها الكهرماني كل هذه القرون الخاوية (3) وقام باختبار جريء عليها فقدم لها الحلوى المناسبة للنمو، فإذا بالبكتريا تدب وتتحرك من جديد وتنشط للحياة بعد كل هذه الملايين من السنين من السبات الرهيب.
وزيادة في الاحتياط قام بدراسة التركيب الجيني لهذه البكتريا، فوجد أنها مكونة من نفس العدد من الجينات وهو 1500 جين، وهو نفس الرقم الذي تحمله الجراثيم من نفس النوع والموجودة في الطبيعة حتى اليوم، والفرق هو أن تلك البكتريا التي تم عزلها كانت تعيش قبل أربعين مليون سنة وأن أخواتها تعيش اليوم؟!
في الواقع إن هذه القصة تفتح الطريق أمام أفكار عجيبة، فإذا عاشت هذه الجراثيم كل هذه الفترة فيمكن أن نصل من خلالها الى عدة أمور في غاية الحيوية: منها المزيد من معرفة طبيعة الكون في تلك الأيام (عرف مثلاً أن الغلاف الجوي وقت الديناصورات كان مشبعا بالأكسجين أكثر) ومنها الوصول الى صادات حيوية أكثر فتكا بالفيروسات والبكتريا، كونها تفتك بدون وجود مقاومة لها.
ومنها ما هو أخطر وهي فكرة فيلم جوراسيك بارك: هل يمكن عزل حامض نووي لكائن قديم، ثم زرعه في بيضة لكائن مشابه فيخرج للحياة من جديد حتى لو كان ديناصوراً؟!
ولكن الحياة علمتنا أنها تمشي بشكل تقدمي، فهي طوت الكائنات السابقة وأنتجت ما هو أفضل، فإعادة نبش ملفات العهد القديم لن يكون بدون مخاطر أيضاً، فاتركوا الماضي للماضي كما يقول سفانتي بيبو.
كما أن فكرة الجوراسيك بارك يقف في وجهها عائقان رئيسييان:
ـ أولاً: المادة الوراثية التي تعزل عادة غير كاملة، أي هي أجزاء ممزقة من الحامض النووي برمته، أي هي بقايا كلمات متناثرة وحروف مقطعة من نص كبير (بقايا كتاب مهتريء قد عف عليه الزمن، بالي ممزق الصفحات مأكول الأوراق).
ـ والأمر الثاني هو أن زرع مركب جيني في مركب جيني آخر لا يعني بالضرورة ظهور الكائن الأول ونسخ وحذف المزروع فيه، فزرع الجين لا يفعل مثل تطعيم النبات على النبات، حيث ينمو الطعم الجديد مستفيدا من نسغ الأصل الذي ينمو عليه.
لقد جرب العلماء تجارب رهيبة من هذا القبيل، على الشكل الذي ساقه صاحب كتاب (التنبؤ العلمي)(4) عندما قام فريق علمي بزرع الجينات الإنسانية مع جينات الفأر!! فكانت النتيجة أن الجينات الإنسانية اضمحلت بسبب التكاثر السريع لجينات الفأر، وافترست جينات الفأر جينات الإنسان ولم يبق لها أثر؟!
والعلماء يقومون بتجارب لا تخطر في بال أحد!! إلا أن العلماء لا يستسلمون بسهولة، وهكذا فقد قاموا بتطويرين هامين الأول:
ـ هو جهاز (مضاعف نسخ الحامض النووي P C R)
ـ والثاني: تطوير جراحة الجينات.
فأما الجهاز P C R)) فقد اهتدى الى فكرته كاري مولليس (KARY MULLIS) وهو يقوم بما يشبه نزهة الفيلسوف (5) حيث كان يقوم بجولة في سيارته مع زوجته فاهتدى الى الفكرة، التي كوفي عليها من شركته بعشرة آلاف دولار، ولكن شركته باعت براءة الاختراع فيما بعد بــ (360) مليون دولار الى الشركة السويسرية هوفمان لاروش!!.

فكرة جهاز النسخ والمضاعفة (الجيني PCR = POLYMERASE CHAIN REACTION):
يعتبر هذا الجهاز اليوم في دوائر الأبحاث ما قبل التاريخية (البالينتولوجية) جهاز الكوبي (التصوير) ولكن للجينات، فبواسطة هذا الجهاز الذي يقوم على قاعدة في غاية البساطة، تم دفع ثلاث علوم على الأقل الى الأمام:
ـ البحث في التطور البيولوجي ـ وتصميم البروتينات ـ والطب الشرعي
(كما هو الحال في القضية الشهيرة للاعب كرة القدم الأمريكي ج. و. سمبسون الذي اتُهم في قتل زوجته).
والفكرة التي تألقت تلك الليلة في ذهن كاري موليس وهو ينطلق مع زخم السيارة المندفعة كانت: يشبه الحامض النووي (السحَّاب) للثوب أو البنطال أي من طرفين متماثلين تماماً، وكما يوجد في السحَّاب تلك القطعة التي تلم الطرفين وتبداً الغلق والفتح، كذلك الحال مع طرفي الحامض النووي في نواة الخلية، ويكفي أن نرفع الحرارة الى مادون درجة الغليان (92) كي ينفك عمودا الحامض النووي عن بعضهما بعضاً، فإذا هبطت الحرارة الى (62) وبواسطة الخميرة الخاصة، التي تشبه القطعة التي تلحم طرفي السحاب أمكن مضاعفة الطرفين، أو إيجاد طرف المرآة المقابل، فإذا ارتفعت الحرارة من جديد الى 92 انفك، وهكذا مابين الرفع والتبريد يحصل الانفكاك ومضاعفة الحامض النووي.
وهذا يعني أن قطعة بسيطة ولو كانت خلية واحدة أو قطعة من شعر أو بقايا خثرة دم أو لطخة سائل منوي، أياً من كل هذه البقايا يكفي إدخالها الى هذا الصندوق السحري، لكي نحصل على مضاعفة النسخ الى المليارات فيما لو أردنا، وهذا الذي برأَّ ساحة (سمبسون) لأنه لم يعثر على أي اثر لبقايا (جيناته) في مكان الجريمة، وهذا يقودنا الى بحث في غاية الأهمية في علم الجريمة وهو تفرد شخصية الإنسان، فكما اعتمد الطب الشرعي سابقاً على البصمات الفردية، فان هذا التطور الجديد في تقنية كشف الجريمة شق الطريق الى علم (البصمة الجينية).

بصمة الأصابع والبصمة الجينية وتفرد شخصية الانسان:
يمتاز وجود الإنسان بالتفرد الخاص سواء بصمة الأصابع أو بصمة الصوت أو حتى الرائحة، فضلا ً عن الكشف الجديد الهام أعني البصمة الجينية، ويعود اعتماد البصمات كشاهد يقيني على مرتكبي الجرائم الى نهاية القرن التاسع عشر، ففي عام 1788 أعلن الألماني (ج. س. ماير) أن ترتيب الخطوط البارزة في الكفين والقدمين لا يمكن أن تتطابقا عند شخصين على الإطلاق؟!
وأن هذه البروزات تبقى ثابتة مدى الحياة، وقام بتجربة على نفسه دامت 41 عاما؟!! حيث أخذ انطباعات يده بين الفترتين المذكورتين، ولاحظ ثبات هذه العلامات بدون تغير يذكر، وحصل نفس الشيء مع حاكم البنغال (هرتشل) في نهاية القرن التاسع عشر، عندما قارن بصمات أصابعه بفارق يصل الى 55 سنة، مما دفع العالم البريطاني (غالتون) الى دراسة هذه الظاهرة ليضع بعد ذلك كتابه الخالد (بصمات الأصابع) الذي يعتبر مرجعا في هذا العلم، وجعل الحكومة الأرجنتينية بعد ذلك أن تكون الأولى التي تتبنى البصمات كأثر دامغ لهوية الإنسان في عام 1891 م.
وتمتاز البصمة بأربع خواص رئيسية (عراوي ودوامات ودوائر وتفرعات) وتم التأكد أن احتمال أن تتطابق 12 ميزة من بصمة على أخرى هو احتمال واحد من 64 مليار (6) وهذا يعني بكلمة ثانية استحالة أن تتطابق بصمة إنسان على آخر (7).
أما جهاز مضاعفة الحامض النووي (P C R) فقد حقق اختراقا نوعيا في الكشف المباشر عن أي أثر جيني مهما كان تافها، ومن تطبيقاته الكشف عن مرض (الايدز) الرهيب الجديد، فالطريقة القديمة كانت تقوم على اكتشاف (مضادات الأجسام) وهي تلك الأجسام التي يكونها الجسم بعد تعرضه للمرض في مدى أشهر من الإصابة، في حين أن هذا الجهاز يقوم بالتحري المباشر عن كتلة الحامض النووي التي يحويها الفيروس مباشرة. فيمكن بهذه الطريقة الكشف عن المرض خلال لحظات من الإصابة به طالما دخل الفيروس البدن.
ليس هذا فقط بل أثار (سفانتي بيبو) مرة أخرى، وبواسطة هذا الجهاز وبحسابات رياضية دقيقة ضجة جديدة في دراسات (البالنتيولوجيا) أي علم تاريخ الإنسان على وجه الأرض، فالبحث حسب وجهة نظره يجب أن يتوجه ليس الى الحفريات في الأرض ومحاولة معرفة عمر الكائنات؛ بل دراسة الجينات (المتحجرة) مباشرة، ومن خلال ساعة بيولوجية عجيبة موضوعة فينا!!

الساعة البيولوجية المغروسة فينا (الميتوكوندريا):
لقد ساقت لنا الحفريات التي يقوم بها العالم الأمريكي (تيم وايت) معلومات جديدة أقدم من إنسان لوسي (LUCY) ففي وسط الحبشة في منطقة (أواش) اهتدى الى بقايا هيكل عظمي يعود الى (4.4) مليون سنة وهو أقدم من إنسان لوسي (الذي كشفه في ذلك الحين الانثروبولوجي الأمريكي دونالد جوهانسون ـ DONALD JOHANSON) بحوالي مليون سنة إضافية!!
ولكن (بيبو) يرى أن البحث مجدي أكثر فيما لو دخلنا الى عالم الجينات مباشرة جنبا الى جنب مع عالم المستحاثات، فلا يستطيع علم أن يدعي لنفسه أنه يحيط بالحقيقة النهائية، بل إن البحث المجدي هو تضافر مجموعة من العلوم.
لذلك اقترح دراسة جينية ورسم خريطة للقرابات بين السلالات الإنسانية، وللوصول الى يقين في ذلك قام هو وزميله (آلان ويلسون ـ ALLAN WILSON) بدراسة كل العروق الإنسانية (وهي 38) ودراسة التركيب الجيني فيها، وعرف أن الحامض النووي يمتاز بثبات نسبي عبر الأحقاب الجيولوجية فلا يتعرض لتغير إلا ببطء شديد، خلافا لــ (الميتوكوندريا) المرتبطة فيه فهي أكثر تغيرا بعشر مرات، ومعنى هذا أن علينا حساب هذا التغير ووضع قانون لذلك، وما عداها يبقى سهلاً، فيكفي الكشف عن الميتوكوندريا في أي كائن لنعرف رحلته التطورية بعد ذلك، والزمن الجيولوجي الذي عاش فيه، ومن هذه الدراسة الممتعة وصل العالمان الى نتيجة مفادها أن أصل الجنس البشري يعود الى أفريقيا، وهذا ما يفسر حماس البحث وكثرة الكشوفات الانثروبولوجية في إثيوبيا التي تعتبر أغنى بلد في العالم في علم الحفريات (ومن أفقر الدول اقتصادا في تناقض عجيب) للكشف عن بدايات الفجر الإنساني، بالإضافة الى طبيعة المناخ الحافظة التي تجمع بين الحرارة والجفاف مما يجعلها تحمي بقايا الهياكل العظمية، كما وصلا الى أن الإنسان العاقل العاقل HOMO SAPIENS) SAPIENS) أصبح له يدب على وجه الأرض فقط (270) ألف سنة وليس مليون سنة، كما يذهب الى ذلك علماء البالنتيولوجيا.
بقي أن نسوق في النهاية خبراً مثيراً جديداً عن كشف العلماء المهتمون بـ (جينات الكهرمان) عن العثور على حشرة جديدة من نوع (الخنفساء) محفوظة في حجر الكهرمان منذ (135) مليون سنة، أي أننا وصلنا بذلك الى العصر الذي كان تدب فيه الديناصورات على وجه البسيطة بدروعها الرهيبة وأسنانها القاضمة المرعبة وأدمغتها القاصرة السخيفة، ويبقى البحث قائما عن البعوض الذي لدغ الديناصور وشرب من دمه، ثم حفظ في حجر الكهرمان ومعه جينات الديناصور فلم تنته القصة بعد كما نرى؟!..
طاب صباحكم ومساءكم أيها القراء وشكرا على الصبر للنهاية..


هوامش ومراجع:
(1) عرض فيلم جوراسيك بارك للمرة الأولى في صيف عام 1993 م حيث تم فيه إمكانية عزل الحامض النووي للديناصور من بقايا بعوضة حفظت في حجر الكهرمان كانت قد امتصت من دم الديناصور قبل ما يزيد عن 100 مليون سنة وبزرع الحامض النووي (الديناصوري) في بيضة تمساح أمكن بعث الديناصور الهائل للحياة من جديد، والمثير في الفيلم هو خدعة الكمبيوتر التي استطاعت عرض الديناصور وكأنه يدب بين الناس (2) يراجع في هذا البحث الكامل الذي نشرته مجلة (PETER MOOSLEITNERS) الألمانية العلمية التي أشارت الى هذا الموضوع مرتين الأولى حين ظهر فيلم جوراسيك بارك في عددها السابع شهر يوليو تموز عام 1993م والبحث الآخر الذي دشنه العالم الأمريكي راول كانو في عددها الثامن عام 1995م بالكشف عن النحلة التي حجزت في حجر الكهرمان لمدة أربعين مليون سنة وتم عزل بكتريا من الأمعاء فيها، عادت الى الحياة بعد تغذية استمرت أسبوعين فقط (3) مع هذا فالنموذج الذي بين أيدينا يقرب الى فهمنا أيضا قصة أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم ما يزيد عن ثلاثة قرون، حيث يكشف القرآن عن حفظهم بطرق بيولوجية وكونية من التقليب والحفظ من ضوء الشمس ـ تراجع سورة الكهف (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال...) وعن الشمس (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال)(4) يراجع كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان سلسلة عالم المعرفة عدد 48 تأليف د. عبد المحسن صالح ص 104 (وفي عام 1967 م ظهر نبأ غريب إذ توصلت د. ماري فايس و د. هوارد جرين من جامعة نيويورك الى إدماج خلايا الإنسان بخلايا فئران) (5) كان الفيلسوف كانت يقوم كل يوم بنزهة معروفة في غاية الدقة زمانا ومكانا حتى لتكاد تحصى مواقع أقدامه وكان الناس في كوينيجسبرغ يربطون ساعاتهم على نزهة الفيلسوف (ايمانويل كانت) لشعورهم بأنه لن يغيب عنها مطلقاً (6) علم البصمات ـ العقيد إبراهيم غازي ـ قسم الشرطة الجنائية دمشق (7) ربما كانت الآية القرآنية تشير من بعيد الى هذا الاحتمال بأن بعث الإنسان سيتم بما فيها بصمته الخاصة به (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) والله أعلم وحاليا لم تبق الأصابع فقط بل الرائحة والصوت والشبكية فالتفرد هائل وخاص ومتفرد لكل إنسان.. خلق الإنسان علمه البيان..