ماتت زوجتي ليلى سعيد قبل أربع سنوات في 7 سبتمبر عام 2005م.
ماتت في ساعة من نهار بدون علة.
سقطت إلى وهدة الأرض فأحبتها الأرض، ورحبت بها وضمتها في عناق أبدي. وودعتنا إلى الأبد.
وهنا عرفت معنى الأبدية مع موت ليلى سعيد.
إنه الوداع الخالد؛ فلا حديث ولا رؤية إلا في منام.
إن الكلمات لم يعد لها معنى، ولكن لم يعد لنا إلا الكلمات أيضا.
في 7 سبتمبر يوم الأربعاء صباحاً كانت زوجتي ليلى سعيد داعية اللاعنف على موعد مع ملك الموت بدون إذن وزيارة وتخطيط وإعلام. لم تكن تشكو من شيء. كانت تمشي يوميا أكثر من ساعة مثل الغزال الرشيق. في قمة اللياقة البدنية والعقلية واستيعاب الفكر العالمي والعطاء الأخلاقي والفكري، جسمها بديع، وجمالها قوقازي باهر، وخلقها رفيع، وعطاءها بغير حساب، تخدم كل من حولها، ولا تطلب من أحد خدمة. شخصيتها طاغية، تذكرني بقصة (قرة عين) التي وصفها علي الوردي أنها كانت تجمع أربع خصال لو كانت واحدة في بنات جنسها لكفى: الفصاحة والخطابة، والجمال الباهر، والشخصية الكارزمائية، والذكاء اللامع والثقافة العالمية.
كل هذا كان في ليلى سعيد وأكثر.
كانت نسخة أنثوية عن داعية السلام جودت سعيد.
سقطت إلى الأرض فجأة فلم تنهض إلا إلى فراش الموت، ومضت خفيفة كما كانت خفيفة في كل حياتها، ولكن الفراغ الساحق الذي تركته خلفها كان لنا ثقباً أسوداً يشفطنا إلى وادي الدموع والأحزان.
كانت صدمة الموت مروعة، وفجأة اكتشفنا هوة غير متوقعة بين أقدامنا تهددنا كل حين، واكتشفنا كم الحياة هشة ضعيفة وقصيرة.. لأول مرة أحسسنا على نحو جدي بانعدام الأمن على الأرض وأن الآخرة خير وأبقى يدخلها المؤمنون بسلام.... فلا سلام ولا خلود ولا راحة إلا هناك..
وهنا اكتشفنا القرآن من جديد فكل مظاهر الطبيعة وكل قصص الأنبياء وأقوامهم والصراعات التاريخية كلها كانت تحوم وتخلص وتنتهي بفكرة العودة والخلود لا ريب فيها.. كذلك النشور.. كذلك تخرجون.. كذلك تبعثون..
في الواقع لم يبدأ القرآن في بث أفكاره إلا بعد تخليص الضمير وتصفيته من قضية الموت قبل أن يبدأ رحلة الحياة..
والحزن يأتي من المساحة التي يحتلها العزيز، فقد لا يحزن الإنسان على أمه التي ولدته، كما يحصل في موت صديق عزيز غالي على النفس.. فالعلاقة الثقافية هي التي تحدد كثافة الحزن وعمقه وحدته..
والموت يبقى مسألة ثقافية عاطفية، ويبرز الموت كجدار غير قابل للخرق.. غير قابل للتفسير... ويأتي الدين فيعطي العزاء والجواب النهائي المحدد، أما الفلسفة فتسبح في الشكوك، أما العلم فلا يملك الجواب أصلا عن هذه الظاهرة المدمرة والنكبة الماحقة..
هنا فهمنا لماذا حافظ الصحابة على جثة النبي ثلاثة أيام بدون دفن، مع أن مسألة الخلافة السياسية كانت قد حسمت؛ فلم يستوعب أصحابه أن هذا الرجل النبيل العظيم الذي عاش للفكر، وأشاع السلام، وعمم وربى على الخلق العالي، والفضيلة بدون حدود، وأعطى معنى للحياة لمن حوله، كيف ينتهي هكذا في قمة اللياقة البدينة والعطاء في عمر 63 سنة، وهي نفس السن الذي ماتت فيه ليلى سعيد.. ونفس الشيء حصل لمدام كوري حين دهست عربة طائشة زوجها بيير فوضعته لثلاث أيام تنظر إليه وهي لا تكاد تصدق حتى دفنته في التراب وغرقت هي في بحر من الدموع.. وأردت أن أفعل نفس الشيء مع ليلى فأضعها أمامي الأيام ذوات العدد حتى أستوعب.. حتى أصدق... ولكن حيل بيننا وبين ما أردنا؛ فالموت في كندا تتلقفه أيادي المؤسسات، ثم تغسل الجثة بيدي الجاهلات، ثم تدفن في حراسة متشددين غلاظ ربما لم يكتشفوا كوكب الحب بعد، ولم يمارسوه، ولم يطئوا عتبة معبد الحب بعد ولم يصلوا فيه ويخشعوا، وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، ربما لم يذوقوا معنى الرحمة التي بشر بها رسول الرحمة. وأنا أعذرهم كما جاء في قصة رسل أثينا إلى ملك الفرس حين طلبوا منهما أن يكونا عبيدا للمولى الفارسي فقالوا لهم مشكلتكم أنكم لم تذوقوا الحرية بعد ولو ذقتم لعرفتم وقاتلتم عنها بأظافركم وأسنانكم.
إن هذا المعنى الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله هو الذي كان الصوفيون يقولون عنه من لم يذق لم يعرف. فالحب والحرية وفيض السعادة معاني تتدفق لأناس جاهدوا في الله حق جهاده.
موجة الأصولية التي زحفت إلى أرض الحريات والضمانات في كندا شوهت معاني الإنسانية ومنها عبادة الطقوس حين منعت بناتها من المشاركة في دفنها، بدعوى من أحاديث ما نزل الله بها من سلطان، من ثقافة مشبوهة كتبت في ظروف مشبوهة..
وعندها استوعبت لماذا لقن الأمام ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث ليقول في النهاية إنها كلها كذب في كذب من صندوق باندورا للشرور..
لماذا يا أبت؟؟ لماذا كل هذا التعب في الحفظ؟؟ فيجيب الأمام حتى تعرف فور مطالعة الحديث أنه من مستودع الشيطان..
إنها محنة ثقافة مزورة كما يقول النيهوم.. في صلوات جمعة مصادرة بيدي وعاظ السلاطين والمتشددين الذين يدعون بالهلاك والثبور على تسعة أعشار الجنس البشري أو جماعة النائمين في استراحة فقهاء المماليك أيام سعيد جقمق من المماليك البرجية...
لقد سحقت قلوبنا سحقا، واعتصرت في صدورنا عصرا، وانكوت كيا بنار الحب والفقدان..
وهذا ما ذكرني بصدمة سابقة ليست في شدة الحالية، حينما مات صديقي أبو طه الذي مات أمام عيني قرب فيلا الجولان التي بنيتها وطلبت استشارته مع قوم متخلفين في البناء والأداء وكثرة الطلب، مما حرك عندي القلم فكانت دموعي مدادا أسودا، وأفكارها ممزوجة بزفرات الحزن وآهات التوجع، وأقلامها شظايا من الذكريات.. فالموت هي تلك الظاهرة التي تسبح بين اليقين واللايقين، ففيها اليقين من النهاية الحدية، التي تسلم الانسان الى عالم اللانهاية والأبدية واللاعودة، وفيها اللايقين من عدم إمكانية تصديق انهيار عالم بالكامل، بشكل مطلق ونهائي وفجائي الى الصفر!!
يا الهي ما هذا الموت الذي كتبته علينا، أي جبروت فيه وقهر.
وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون(1)
عندما انتابني هذا الشعور لا أدري ما الذي حرك في ذهني فكرة بعث الموتى على يد المسيح عليه السلام، وعندها بكيت وأدركت أن ليلى قد شبعت موتاً، وجثته تمشي في طريق التعفن والتحلل والتفسخ، وسوف يهرب منه أقرب الناس إليه، ويبقى التراب أفضل ستر، وسالت دموعي مجدداً، فموعدي معها هو في الآخرة فقط.
بكيت في الواقع على نفسي، فعمرها من عمري. هي من جيلي وعاصرت نفس الأحداث التي عشتها، أما هي فقد انتهى حظها منها، وطُوي ملفها من سجل الأحياء، وأما أنا فسألحقها ولو بعد حين.
إن فلسفة إدراك الموت ووعيه الحاد تولدت في الشعور الإنساني من معاصرة ومعاينة فقد الصديق والحبيب. بدأت أنظر الى المارة والناس بغير العين السابقة وأخاطب نفسي: كلكم أشباح تنتظرون الموت.
اسعوا ما تسعون وافرحوا ما شئتم ففي النهاية سيكون ظل الموت الباكي هو الذي سيغلفكم ولو بعد حين.
إن كل لحظة لنا هي توديع للحياة باتجاه نقطة الموت التي نقترب منها.
إننا نكبر مع كل لحظة ونقترب من الموت لحظة مقابلة فنصغر بنسبتها.
قانون التغير يمثل الحقيقة الأولى في الوجود
إن الحقيقة الأولى في الوجود كما قال حكيم من الشرق، هي قانون التغير وعدم الدوام والزوال.
إن كل شيء في الوجود من حيوان الخلد الى الجبل، ومن الفكرة الى الإمبراطورية، يمر خلال دورة الوجود ذاتها، أعني النمو والانحلال ثم الموت. والحياة وحدها هي الشيء المستمر، وهي دائماً تسعى الى الإفصاح عن نفسها في صور جديدة.
والحياة جسر. ومن ثم فلا تبنى البيوت فوق الجسور، والحياة عملية من عمليات التدفق والجريان، فمن يتعلق بأية صورة من الصور مهما تكن جمال هذه الصورة فسوف يقاسي، نتيجةً لمقاومته لهذا التدفق والجريان، والحياة واحدة غير منقسمة وإن كانت أشكالها المتغيرة على الدوام لا حصر لها وهي قابلة للفناء.
وليس هناك في الحقيقة موت وإن كان الموت مصير كل صورة من الصور الحياة.
إن الرحمة وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها. وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين، وأنها التناسق الأبدي، وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه الألم والمكابدة، كما أنه يؤخر من تنويره وتثقيفه (2).
لحظة الوداع الأخيرة
أذكر وخلال ساعات كان صديقي وأخي أبو طه ثم من بعد ليلى سعيد يُصلى عليهم ثم نودعهم الى التراب!!
لم يكن مابين الحديث العذب والاستسلام الكامل للحفرة وحيداً فريداً يذوب عضواً فعضوا، صديقه التراب والدود والتفسخ الكامل أكثر من ساعات قليلة.
وقفت مذهولاً أمام جبروت الموت وضغطه الساحق. وعندما دخلنا المقبرة كان السكون والسلام يطوق عالماً جديداً، قلما ننتبه إليه، حيث تناثرت القبور، وبرزت بعض الحجارة تحمل رموز أصحابها، كانوا مثلنا تماما وعاشوا بكل زخم الحياة.
نحن الآن في إذاً في عالم الأموات ودنيا المغيبين. كانت فوهات قبور جديدة جائعة تطل من بطن الأرض؛ فاغرة فاهها الى مجهول قادم تستعد لالتهامه. تعجبت وسألت لماذا؟ أجاب حفاَّر القبور: السيل قادم من طوابير الموتى ويجب أن نستعد لاستقبال زبائن العالم الآخر!!
وتذكرت سنوات مضت حينما مات صديقي الشاب في الدمام بعاصفة مروعة من مرض عضال أفترسه في أقل من شهر، عندما زرت قبره بعد حين كانت الساحة مفروشة بأعداد جديدة لا تحصى من زوار العالم الآخر. مشينا مسافة طويلة وبصعوبة اهتدينا الى مكانه. كان قد دخل في عالم النسيان والإهمال. ولا أشيء أدعى الى الحزن من النسيان. حتى الأبناء لا يزورون قبور آبائهم إلا في المناسبات. لشعورهم أنهم ليسوا هناك أما أماكنهم فهي فقط في الذاكرة.... فقط.
في بلدتي التي نشأت فيها تناثرت دموعي في المقبرة وأنا أقرأ جملة لأحدى قريباتي. كانت حليمة في غاية الحيوية والجمال والنشاط ففارقت الحياة على موعد مبكر. كانت الفقرة تقول أعرف أن المكان لا يدعوك ولا يشجعك للوقوف الطويل، كل ما أرجوه منك أن تقف لحظات وتتذكرني أنني كنت من عالم الأحياء مثلك.
أيها الزائر إليَّ قف عند قبري شويَّ
واقرأ السبع المثاني رحمة منك إليَّ
في زمان كنت مثلك أقرأ القرآن حيَّ
عن قريب تبقى مثلي ليس بعد الله حي
نحن نُودِع الجثثَ الترابَ ثم ننصرف، وعندما تحركت في المكان كانت قدمي تطأ بقايا البشر من أمثالنا في أعداد لا تحصى. تذكرت رثاء أبي العلاء المعري لصاحبه أبي حمزة:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولاترنم شــــــــــــاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل نـاد
أبكت تلكم الحمامة أم غنـــت على فرع غصنها الميــــــــــاد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عـاد
خفف الوطء ماأظن أديم الأ رض إلا من هذه الأجـــساد
وقبيح بنا وإن قدم العــــهد هوان الآباء والأجـــــــــــــــداد
سر ان اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العبــاد
ربَّ لحدٍ قد صار لحدا مرارا ضاحكٌ من تزاحم الاضــــداد
ودفين على بقايا دفيــــــــــن في طويل الأزمان والآبــــــــاد
إن حزناً في ساعة المــــــــوت أضعاف سرور في ساعة الميلاد
ولكن دموع الدنيا كلها لو تدفقت فتحولت الى أنهار؛ لن تعيد الحياة لميت واحد ممن نحب ليلى أو غير ليلى (أمواتٌ غيرُ أحياء ومايشعرون أيان يبعثون)(3).
الدهشة والغرابة في ظاهرة الموت (الفردية ـ الديموقراطية):
يحمل الموت مزيجاً مدهشاً من الغرابة والتناقض والعجائبية. في الموت تبرز الشخصانية والفردية. فالموت فردي جدا، فلا يوجد موت بالوكالة والنيابة.
ويعاني الموت كل إنسان على حدة. ويدخل محنة الفناء مندثراً وحيدا لا يشاركه فيها أحب الناس إليه حتى ولو حاولت الزوجة حرق نفسها أو دفن نفسها معه؛ فالموت ذو اتجاه واحد فلا رجعة منه ولا مخبر بما حدث:
تفانوا جميعاً فلا مخبـــــر وماتوا جميعا وهذا الخبـــــــر
تروح وتغدو بنات الثرى وتمحو محاسن تلك الصــــور
فيا سائلي عن أناس مضوا أليس لك فيمن مضى معتبر
فهو باب يُفتح فيمتص ويشفط الكائن مثل الثقب الأسود باتجاهه ( فلا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون)(4).
وأعظم ديمقراطية تتحقق على وجه هذه الأرض هي ديمقراطية الموت، حيث تذوب الفروق تماماً، فالموت لا يحابي ولا يرتشي ولا يشفع ولا يفرق بين الجنسين، فهو ديمقراطي صارم الى أبعد الحدود.
وعندما ترتفع الأضرحة والنصب والتماثيل لشخص ما؛ فإن هذا لا يغير في واقعه، أنه يعاني ويذوب ويتفسخ ويتحلل مثل أي صعلوك آخر، ومن هنا تسطع حقيقة إيجابية رائعة للموت، فمع موت الجبارين تتنفس الأرض وترتاح:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم فأودعوا حفرا يا بئسما نزلـــــوا
ناداهم صارخ بعدما قبـــــــــروا أين الأسرة والتيجان والحـــــــلل
أين الوجوه التي كانت منعــمةً من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتـتل(5)
ومع موت الصالحين تبكي الأرض والسماء عليهم.
جاء في الحديث الصحيح (مستريحٌ ومستراحٌ منه. قالوا يارسول الله ما المستريح وما المستراح منه؟ قال العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها الى رحمة الله عز وجل. والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)(6)
الموت: السر الأكبر في الحياة
الحديث عن الموت مزعج وكريه وحافل بالتناقضات، ولكنه مع كل دافع الهرب منه في الشعور أو التفكير؛ قدرٌ مطوق لكل البشر، بل لكل أنواع الحياة، فأوراق الشجر تتهاوى، والنبات يذبل، والعشب يجف، والطير والحيوان يضمر ويستسلم، والإنسان ينهار في لحظة واحدة الى الصفر، في ظل مأساةٍ مروعة، يقف فيها المرء مذهولاً مندهشاً محتاراً في التفسير، لا تصدق عيناه أن هذا الانسان المليء بالحيوية والنشاط، الذي يضج بالتعبير والأفكار، المشحون بالآمال والرغبات والأهداف والبرامج والعمل، الذي يشع بالإنس والوجود؛ قد تم اجتياحه وبشكل كامل ومطلق، يطوقه جبروت السلبية الكامل، وظل الفناء، وعالم الاندثار والتحلل والتعفن، ليرجع الى العدم من حيث خرج منه.
نحن نأتي الى الحياة بغير رغبة وإرادة ووعي منا، من عمق الظلام من حيث لا ندري من العدم، كذلك نودع الحياة بغير رغبة منا ولكن تحت منظر الوعي الكامل، المفعم بالمعاناة والألم، على الأقل لمن حول الانسان ممن يحبه، لنرجع الى جوف العدم الذي سحبنا منه.
أسئلة محيرة في معنى الموت وجدلية الموت والحياة:
إن الفلسفة تجنبت الحديث عن الموت، وفضلت الحديث عن الحياة، فالحياة وجود وحضور، وينفع فيها التأمل والكلام، والموت عدم، والعدم ليس فضاء للكلام، فالعدم يعني العدم والسلبية الكاملتين لا أكثر ولا أقل؛ ولكن ضغط الموت الساحق، والانهيار المريع للوجود الإنساني المطلق يولد في الواقع كل الفلسفة.
فما معنى الموت؟
ولماذا كان الموت؟
ولماذا نخاف من الموت؟
وماذا خلف الموت؟
ومتى تولد وعي الموت عند الانسان؟
بل لماذا جئنا بالأصل من العدم؟ ليدفع بنا الموت في النهاية الى عالم الأبدية واللانهاية؟
فالذي يموت لن نراه مطلقاً، فهو ليس مسافراً سيعود، ولا غائباً فيظهر، كل ما تبقى منه ذكرياته وبقايا صوره المادية الميتة!
كيف نفهم جدلية الموت والحياة؟ وهل أصل الوجود يقوم على الموت أو الحياة؟ وكيف نرى صورة الموت في الحياة، والحياة في الموت؟
وكيف يتجلى التناقض المدهش والمحير بين سحق الطبيعة للفرد، بدون أي رحمة وبين المحافظة على النوع الإنساني بكل إصرار، على حد تعبير الفيلسوف شوبنهاور (SCHOEPPENHAUER) وتدخل الغريزة الجنسية في هذه اللعبة كأداة مسخرة، تضحك فيها الطبيعة على الانسان، بإغراءٍ ملِّح لا يعرف التوقف، من أجل المحافظة على دفعات الإنجاب؛ فمع ظلال الموت الكئيبة، تنكفئ النفس الى الخلف والسلبية، وتزول البهجة وتتوقف دوافع الحياة الأصلية، وتستسلم النفس الى كل مشاعر الإحباط والقنوط والشعور بعبثية الحياة.
الفلسفة الوجودية والعبثية:
إن الفلسفة الوجودية رأت في الموت عبثية الحياة، فما فائدة كل زخم الحياة، وروعة عبقرية الانسان المتألقة؛ إذا كانت نهايته كعشب جاف وحيوان أعجم؟!
ويبقى كل تأمل في ظاهرة الموت حسير عاجز، فهناك شيئان لايمكن التحديق فيهما الشمس والموت.
لقد عبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عن هذا الشعور بكلمات مغموسة بالألم والقنوط فقال:
(ولأن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولة أو أي حدة في التفكير أو الشعور عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولأن يكون الاندثار هو المصير المحتوم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الانسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقاً غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين الى حد يستحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء، وعلى ذلك لايمكن بناء موطن الروح بأمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم)(7)
أسباب الخوف من الموت؟
ولكن لماذا يخاف الانسان من الموت؟
هل هذا الأمر طبيعي هناك ما يبرره؟
لقد انكب علم النفس على هذه الظاهرة فحصرها في أربع مخاوف رئيسية، وأمكن استخراج أربعة أبعاد مستقلة لقلق الموت هي:
1 ـ الخوف من المجهول.
2 ـ الخوف من المعاناة.
3 ـ الخوف من الوحدة.
4 ـ الخوف من التلاشي الشخصي.
واختصر هذه المخاوف الفيلسوف الإسلامي ابن مسكويه في كتابه (تهذيب الأعراق وتطهير الأخلاق) في فقرة متألقة على النحو التالي:
خلاصة مخاوف الموت عند ابن مسكويه:
يعد الموت أعظم غموض وأكبر سر يواجه الانسان، وبديهي أن يصاب الانسان حياله بضرب خفي من القلق الممض الذي لا حل له؛ فذكر الفيلسوف (ابن مسكويه):
(أن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة؟ أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه، بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجوداً وليس هو بموجود فيه، أو لأنه يظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، ولأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يُقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والقنيات: وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها.
أما من جهل الموت ولم يدر ماهو على الحقيقة؛ فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها، وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدناً، كما يترك الصانع استعمال آلاته، وأن النفس جوهر جسماني وليست عرضاً، وأنها غير قابلة للفساد)(8)
حديث موسى مع ملك الموت:
كراهية الموت هذه وعدم الترحيب بها وصلت الى درجة أن نبي الله موسى لم يرحب بملك الموت، بل وجه إليه صفعة أطارت عينه، (ولنفهم الترميز ونبتعد عن الحرفية!) مما جعل ملك الموت يرجع الى ربه ليقول: أي رب أرسلتني الى عبد لا يريد الموت! حسناً ماذا يريد إذاً؟ إذا كان يريد المزيد من فسحة العمر فلا باس ولكن ليس للخلود في هذه الدنيا، فهذه الحياة مركبة على أساس الزوال والتغير والتحلل والفساد: ارجع إليه فقل له ليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة؟! كان جواب موسى: ثم مه؟ أي ثم ماذا؟ أي ما الذي سيعقب رحلة العمر الطويلة الجديدة هل تحمل الخلود في تضاعيفها؟ أم في النهاية الموت والاندثار؟ كان جواب الملك واضحاً صاعقاً: ثم الموت!! فهو الجبروت الساحق الماحق! قام موسى بما قام به علماء النفس في تحليل النفس الإنسانية وكيف تمر بخمس مراحل في صراعها تجاه الموت قبل الاستسلام إليه، فاستسلم فأجاب: فالآن!! (9)
آليات النفس الخفية في مواجهة قبضة الموت:
بينت الباحثة (اليزابيث كوبلر روس) بدراسة مئات من المرضى المسنين على فراش الموت، فلاحظت انزلاقهم النفسي تجاه حلقة الموت التي تحكم قبضتها عليهم بالتدريج، في خمس حقول نفسية، تبدأ برفض الاعتراف بالحقيقة المزلزلة أنه في اتجاهه الى الفناء النهائي، وتلاشي الشخصية وفساد البدن (الإنكار والعزلة) لتتطور بعد ذلك الى الغضب وعدم الشعور بالعدالة، فلماذا تم اختياره هو بالذات؟ (حالة الغضب والسخط) فإذا تيقن أن لا وزر، بدأ مرحلة المساومة عسى أن يتحرر من القبضة الرهيبة للموت (مرحلة المساومة) لينهار بعدها في اتجاه الاكتئاب كمحاولة للتعبير عن الحزن والأسى للنفس (مرحلة الاكتئاب) ليختم النهاية بالاستسلام والقنوط وتنحية الأمل، عندما يشعر أن لا فائدة من أي مقاومة، فيتقبل حقيقة الموت بشكل هادئ، والتقبل الهادئ لا يعني السعادة بالموت، ولكنه يعني بكل بساطة أن لا فائدة من المقاومة، وأن الوقت آتٍ للراحة الدائمة (10).
ولكن في ظلمات الاندثار يبرز الدين كأكبر عزاء، وفي حديث موسى عليه السلام انعتاق ضخم من الاكتئاب والتمرد والحزن، والاستسلام بحب للإرادة الإلهية تجاه هذا التحدي الكوني، وتلمع أسماء فلاسفة في هذا السجل، على نفس الاتجاه القرآني الذي يبني الإيمان على رفض القنوط وتنحية اليأس الوجودي (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)(11)
رأي الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس)
ذهب ابكتيتوس الى أنه ليس هناك شر في الكون (كما أن العلامة لا تقاوم لكي نضل الطريق إليها، فكذلك ليس هناك شيء شرير بذاته في العالم.. هات ماتشاء وسأحوله الى خير: المرض الموت العوز اللوم الكدح من أجل الحياة وستتحول تلك الأمور جميعاً بإشارة من عصا هرمز الى مزايا (12) ما الذي ستصنع من الموت؟ أي شيء غير حلية تزدان بها، أي شيء غير إظهارك من خلال الفعل الذي يتبع إرادة الطبيعة.
إن الأشياء كافة تخدم قانون الكون وتذعن له، وجسمنا بالمثل يذعن كذلك للقانون نفسه في حالات المرض والعافية والشباب والشيخوخة، وفي غمار مروره بكل التغيرات الأخرى المعلنة، ومن ثم فإنه من المعقول ألا يكون ما يعتمد على ذواتنا، أي فهمنا الخاص هو المتمرد الوحيد، ذلك أن الكون قوي ومتميز ويقدم لنا الأفضل من خلال حكمه لنا في اتحاد مع الكل، أضف الى ذلك أن المعارضة فضلاً عن كونها غير معقولة ولا تقدم شيئاً إلا صراعاً لا طائل وراءه تلقي بنا في غمار الألم والحزن).
ويجعل ابكتيتوس المسألة ليست في تحقيق اللامبالاة بل توليد روح الهدوء والسكينة الداخليتين (ويمكن تحقيق هذا الهدوء وتلك السكينة من خلال الاستخدام الصحيح للانطباعات، الأمر الذي يتضمن تمييزاً دقيقاً بين الأمور الواقعة في نطاق قدرتنا وتلك التي لا تقع في هذا النطاق، وتلك مهمة الفلسفة التي تغدو مجردة من القيمة إذا ما كانت تأملاً نظرياً محضاً، منبت الصلة وغير قابل للتطبيق على شؤون الحياة)(13).
ويبدو أن خوف الانسان من الموت هو أشد من ظاهرة الموت بحد ذاتها حسب ابكتيتوس (ليس الموت شيئاً مفزعاً وإلا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت).
ولكن هل يجدي الفرار من الموت شيئاً (أسألكم أين يمكنني الهرب من الموت؟ حددوا لي المكان؟ أشيروا الى الناس الذين يتعين أن أمضي بينهم، والذين لا ينقض عليهم الموت؟! حددوا لي رقية تحجبه؟ إذا لم يكن لدي شيء من هذا فما الذي تريدون مني أن أصنعه؟
ليس بمقدوري الهرب من الموت: ألا ألوذ بالهرب من خشيته؟ أتراني أموت في خوف وقد أخذتني الرعدة).
وينظر الى الحياة أنها هبة من الله ودورنا في هذه الحياة لا يتجاوز الممثلين في المسرح، وعندما تنتهي أدوارنا يجب أن نودع شاكرين الله الجليل الذي منحنا فرصة الوجود، كما ينصرف المدعوون عند انتهاء المأدبة:
(إن على المرء أن يفكر في الحياة باعتبارها شيئاً أعارنا الله إياه للاستخدام المؤقت فحسب، وهي تشبه في هذا مأدبة يحتل المرء فيها مكانه المتواضع، وحينما يقبل الموت فإن علينا أن نسلم أنفسنا لقدرنا وأن نقوم حتى النهاية بالدور الذي عهد الله لنا به كأفضل ما نستطيع، علينا أن نغادر مأدبة الحياة في هدوء ولباقة معربين عن شكرنا لله لدعوته لنل للمشاركة فيها والإعجاب بأعماله)(14)
ولكن متى نشعر بالحزن في الموت تماماً؟
نظرية لاندسبيرج وقصة جلجميش:
إن الوعي بضرورة الموت لا يستيقظ إلا من خلال المشاركة، ومن خلال الحب الشخصي الذي تصطبغ به هذه التجربة تماماً، لقد شكلناه (نحن) ذاتاً مشتركة مع الشخص المحتضر، ومن خلال تلك (الذات المشتركة) ومن خلال القوة النوعية الخاصة لهذا الكيان الجديد والشخصي تماماً نسير نحو الوعي الحي بأننا لابد أن نموت) ولقد تم اكتشاف حتمية الموت في أقدم الوثائق المعروفة لنا حول الموت من خلال مثل هذه المشاركة في موت صديق نحبه في ملحمة جلجميش (15)
الى أين مضيت ياحبيبة قلبي ليلى؟
في هدوء مقبرة صغيرة في حي الميدان في دمشق وقعت عيني على أبيات قصيرة من الشعر:
دفن الجسم بالثرى ليس بالجسم منتفع
إنما النــــــفع بالذي كان بالجسم وارتفع
أصله جوهر نفيــس والى أصله قد رجـع
الحياة أقوى من الموت..
والحياة أصل الوجود لأنها تتغذى من الحي الذي لا يموت..
وتوكل على الحي الذي لا يموت...
والحياة تتدفق وتستمر في أشكال لانهائية، سواء أدركناها أو عيينا عن ذلك أو غابت عنا فهي تعمل وفق قانونها الخاص.
حبيبة قلبي ليلى كل يوم وكل صلاة أدعو لك بالسلام الأبدي كما كنت، والسعادة السرمدية كما عشت، والتنوير الكافي كما نشرت.
كان حلمك مثل الأميرة الألمانية صوفيا شارلوتنبرج تلميذة الفيلسوف لايبنتس (Leibniz)؛ لم يفسر لي كل شيء، ومع الموت سأرى الأشياء واضحة، وألغاز التاريخ محلولة فبصري حديد..

مراجع وهوامش:

(1) سورة الأنعام
(2) الحكماء الثلاثة ـ أحمد الشنتناوي ـ دار النشر أقرأ دار المعارف بمصر رقم 123 ص 105
(3) سورة النحل
(4) سورة يس
(5) تنسب هذه الأبيات الى واقعة حدثت في عهد المتوكل حينما اقتحم الجند منزل رجل من آل البيت بدعوى أنه يجمع السلاح ؛ فرأوه قائماً يصلي في جوف البيت ؛ فحملوه الى دار الخلافة، وكان الخليفة في مجلس أنس وطرب وشراب، فدعاه الى الشراب فاستعفى، فقال له أنشدني: فأنشده هذه الأبيات في قصيدة أطول فبكى الخليفة وأمر برفع الشراب وصرفه بدون أذى ـ يراجع في هذا كتاب أحمد أمين (ضحى الإسلام) العصر العباسي
(6) مروي في الصحيحين يراجع في هذا كتاب زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم للشنقيطي
(7) كتاب العلم في منظوره الجديد ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 134 ـ تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو ـ ترجمة محمد الخلايلي ـ ص 16
(8) قلق الموت ـ سلسلة عالم المعرفة ـ عدد 111 ـ تأليف أحمد عبد الخالق ـ ص 213 ـ منقولة عن كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)
(9)الحديث مروي في الصحيحين في كتاب زاد المسلم المصدر السابق ونصه أن ملك الموت عندما زار موسى عليه السلام ( صكه ففقأ عينه!! فرجع الى ربه فقال أي رب أرسلتني الى عبد لا يريد الموت؟! فقال ارجع إليه فليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة. فقال أي رب ثم مه؟ قال: الموت. قال: فالآن. فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره بجنب الكثيب الأحمر )
(10) الانسان وعلم النفس ـ تأليف الدكتور عبد الستار إبراهيم ـ سلسلة عالم المعرفة ( رقم 86 ـ ص 160 ـ 161 )
(11) سورة الحجر ويوسف على التوالي
(12) حسب الأساطير اليونانية هرمز هو ابن زيوس وهو اله التجارة والحظ والمسابقات الرياضية ورسول الآلهة ومرافق الأرواح الى عالم الموتى)(الموت في الفكر الغربي ـ تأليف جاك شورون ـ ترجمة كامل يوسف حسين ـ مراجعة وتقديم الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 76 ـ ص 78
(13) نفس المصدر السابق ص 77
(14) نفس المصدر السابق ص 79
(15) جلجميش ملك أوروك كان طاغياً أسرف على الناس بقسوته حتى دعا الناس الآلهة لإنقاذهم فأرسلت الآلهة انكيدو الذي صارعه بشدة ثم تحولا الى صديقين، ثم غضبت الآلهة على انكيدو فحكمته بالموت، وعندما رأى جلجميش صديقه يذوب في الموت بكاه بحرقة لأنه أدرك وعي الموت تماماً مع موت صديقه.