كان عام (1543 م) عام العجائب (1) ففيه حصل أعظم زلزال عقلي في التاريخ الحديث، مشكلاً العالم الحالي الذي ننتسب إليه، حيث تم اختراق المستحيل والمجهول والمُسَلَّم به، فأصبح المستحيل ممكناً ومفيداً، والمجهول معروفاً ونافعاً، والمُسَلَّم به عائقاً يجب تجاوزه والتحرر منه! فما الذي حصل في هذه الحقبة القصيرة مابين العقد الثاني والخامس من القرن السادس عشر ميلادي؟.
لقد تم اختراق ثلاث فضاءات جديدة للمعرفة الإنسانية قلبت التصور الإنساني السائد، ودفعت حركة التاريخ باتجاه جديد، وكونت العالم الحديث، وباكورة النهضة الغربي.
إنها ثلاث رحلات:
الأولى في الجغرافيا، والثانية في البيولوجيا في جسم الإنسان، والثالثة في الفلك.
في الوقت الذي كان فيه ماجلان في العشرين من سبتمبر \ أيلول من عام 1519 يشق فيه طريقه عبر (صحاري) المحيطات المائية اللانهائية، كانت هناك مغامرات أخرى من نوع مختلف لارتياد مجاهيل جديدة، في القبة السماوية فوق رؤوسنا، في الكون الكبير. وفي أبداننا التي نحملها كل يوم، في مستوى العالم الصغير.
وفي عام 1543م تم صدور كتابين يعتبر كل واحد منهما ثورة في اتجاهه، الأول هو كتاب كوبرنيكوس في (دورات الأجسام السماوية) والثاني هو (تركيب الجسم البشري) للمشرح الإيطالي فيزاليوس. وبذلك وضعت خرائط جديدة لسطح الأرض، والجسم الإنساني، والفلك.
في الوقت الذي كان فيه ماجلان يعبر بحر الظلمات (الاتلانتيك)، ثم يلتف حول أمريكا الجنوبية عند رأسها السفلي، ليصل إلى المحيط الهادئ (الباسفيك)، ليصل بعدها إلى جزر الفيليبين، ويثبت بذلك ـ وعملياً ـ كروية الأرض، ويرسم بذلك خريطة جديدة للكرة الأرضية.
كانت خريطة السماء تتغير شيئاً فشيئاً؛ ليتشكل كون جديد، وعالم مستحدث على يد كوبرنيكوس. كما أن بدن الإنسان بدأ وتحت مبضع المشرحين الجدد يمنح أسراره بدقة مشيرا إلى بديع خلق الله.
بهذه الاختراقات الثلاث تغيرت صورة العالم بشكل جذري، فلم تعد السماء تلك السماء التي نحدق النظر إليها، كما لم تعد الأرض تلك الأرض التي نطأها بأقدامنا، كما لم يعد الجسم ذلك الشكل البسيط الذي نظنه، بل أصبح أشبه بماكينة هائلة التعقيد (وهو ليس كذلك!).
ولكن كيف حدث هذا ودفعة واحدة؟ كيف نمت روح المغامرة عند ماجلان؛ فهداه تفكيره أن يصل للشرق بواسطة الإبحار غرباً؟
بل كيف تجرأ فيزاليوس أن يضع جلد الإنسان تحت المبضع؟ ويطرح السؤال الحيوي عن مصير الدم الذي ينطلق من القلب، أين مصيره؟ وكيف يتسنى له الرجوع إلى القلب مرة أخرى؟ وليس هناك من اتصال بين الشرايين والأوردة؟
أم كيف استطاع كوبرنيكوس أن يخالف الكنيسة بكل ضغطها الرهيب، وتعليماتها الوثوقية الدوغمائية؛ ليقول أن الأرض ليست بعد اليوم مركز الكون، بل هي تابع بسيط يدور حول الشمس من أصل تسع كواكب؟ ومنظر العين يقول أن الشمس هي التي تدو؟
بل وكيف يمكن التخلص من ضغط مسلمات بطليموس التي أصبحت أغلالاً في أعناق الناس فهي إلى الأذقان فهم مقمحون!
ذلك أن بطليموس كان يرى أن الأرض لو مشت، ودارت حول محورها، ولم تكن ثابتة لطارت الأشياء من فوقها!
أو إذا قذفتَ بشيء إلى السماء لم يعدْ إلى مكانه الذي انطلق منه، حيث غادره مَنْ تحته بحركته!
هل الوصول إلى أرض (التوابل) هو الذي حرك ماجلان ليقوم بهذه الرحلة، كما تستجر رائحة الجبنة أنف الجرذ؟ التي استغرقت ثلاث سنوات، يقتل فيها ماجلان نفسه في جزيرة صغيرة في الفليبين، وليرجع من أصل 265 بحاراً (18) فقط ، ومن السفن الخمس سفينة واحدة هي (فيكتوريا) أصغر السفن حجماً، وأحقرها شأناً، وأضعفها تسليحاً وتموينا ً؟ (2)
ما الذي دفع كوبرنيكوس إلى هذا المركب الوعر ليقول بفكرة تُعتبر لأناس ذلك اليوم شيئاً إدَّا، وأمراً عظيماً منكراً؟
ثم ما الذي حمل فيزاليوس على شطب آراء أرسطو وجالينوس وأبقراط في الطب، بل يقول أنه مصاب بالدهشة لاستنتاجات جالينوس التي توحي أنه لم يشرح جثث الآدميين مطلقاً؟ وهي مصيبة المنطق الأرسطي بثلاثيته المشهورة(3)!!
لماذا تحدث مثل هذه الانفجارات الاجتماعية، والزلازل العقلية، والتحولات النوعية في وقت قصير متقارب؟
حتى يمكن تصور القفزة النوعية للفكر الجديد، من خلال سيطرة الفكر اليوناني السابق الذي بلغ من الشمول والسيطرة على العقول درجةً أن نفس أستاذ فيزاليوس اعتبر تفكيره وقحاً ومعتدياً على آراء القدامى، ومن أجل تطويق الفكر الجديد الذي يفقأ العين بحقائق الواقع، وللمحافظة على قدسية جالينوس؛ فقد اعتبروا أن جالينوس لم يكن مخطئاً أبداً في التشريح، ولكن جسم الإنسان هو الذي اعتراه التغير (4)؟!.
وحتى يمكن معرفة ضغط الفكر الذي كان سائداً في تلك الأوساط، فيكفي أن نعرف مصير جيوردانو برونو، الذي دُشن مطلع القرن السابع عشر بإحراقه حياً، في 17 فبراير \ شباط من عام 1600 ميلادي، وكانت جريمته التي أحرق من أجلها بعد إذلال طويل ومعاناة نفسية مرعبة في سجون محاكم التفتيش في إيطاليا لمدة ثماني سنوات (1593 ـ 1600 م) شيء نضحك له هذه الأيام، فقد اعتبر أن ما جاء به كوبرنيكوس محدوداً ناقصاً، واعتبر أن الشمس ليست مركز الكون كما تصور كوبرنيكوس.
صحيح إنه وافق كوبرنيكوس أن الأرض تدور حول الشمس، وهي ما تعتبر لوحدها هرطقة تلك الأيام، ولكنه أضاف أن شمسنا ليست أكثر من كوكب، من مجموعات لانهائية من الكواكب التي تشكل عوالم أخرى غير عالمنا، ففكرة العوالم الأخرى التي ثبت عندها ولم يتراجع، كلفته الحرق حياً مثل أي فروج مشوي.
ويبقى أن نضيف هنا أن الكوسمولوجيا الكونية اليوم ترى أن الشمس التي نعيش حولها هي كوكب في ركن مجرتنا (الطريق اللبني) وليست في مركز المجرة، ويوجد في مجرتنا حوالي مائة مليار نجم مثل شمسنا التي ندور حولها!
وأما مجرتنا الحبيبة فهي أيضاً تنتسب إلى عالم المجرات التي يبلغ عدد المجرات فيه حوالي مائة مليار مجرة (المليار يساوي ألف مليون!) كما قرر ذلك الفلكي كارل ساغان في كتابه (الكون) وليس هذا فقط، بل أن الكون الذي نعيش فيه يبلغ من العمر حوالي 13,7 مليار سنة، وهو يتمدد منذ ذلك الوقت بدون توقف، مثل بالونة تنفخ قوة مجهولة، نحو مصير مجهول، لم يستطع العلماء الكونيين الكشف عن سر توجهه الأكيد يقينا حتى الآن وإن كان بعضهم يميل إلى التمدد اللانهائي نحو كون موحش يتمطط إلى اللانهاية!!(لا يجليها لوقتها إلا هو؟!).
فأين مجمع الكرادلة الذي أدان جيوردانو برونو وطالب بإحراقه حيا، والذين خاطبهم برونو بقوله: (ربما كنتم يا من نطقتم الحكم بإعدامي أشد جزعا وخشية مني أنا الذي تلقيته)؛ ليطلع على هذه المعلومات الجديدة والمثيرة (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا).
إن جيوردانو برونو كان شهيد حرية الكلمة، وتحت سحر (التأمل الإبراهيمي) للكون قال بأن الشمس لا تمثل شيئاً من هذا الكون الفسيح الممتد، من مجموعات شمسية لا يحصيها العدد، ولا ينفد إليها البصر، ولا يصل إليها خيال.
تأمل معي هذه الفقرة من كلامه التي كلفته حياته وهو في الثانية والخمسين من العمر:
(هناك في الطبيعة أضداد، وقوى متعارضة، ومتناقضات، ولكن بعمل الكون بأسره بمشيئة الله تتوافق كل المتضادات وتختفي، ووراء التنوع المحير الساحر في الطبيعة توجد هناك وحدة أروع وأشد عجباً، تظهر في كل الأجزاء وكأنها أعضاء في كائن واحد.
إنها وحدة تسحرني، فأنا بقوة هذه الوحدة حر ولو كنت مستعبداً، سعيد في غمرة الحزن، غني في حمئة الفقر، حيٌ حتى في الموت) (5).
إن الذي أطلق العقل الأوربي بعد فترة التخمر من الفكر العربي الإسلامي واليوناني لمدة قرنين، هو التخلص من المسلمات العقلية، والعادات الفكرية، التي تشل التفكير وتمنع الإبداع، وإيجاد الحلول للمشاكل، بالسرعة المثلى، والمردود الأقصى.
إن الذي حرض (كوبرنيكوس) ومن بعده (تيكو براهى) و (يوهان كبلر) و (جاليليو) للوصول إلى تأمل جديد للكون، هو التخلص من ضغط المسلمات السابقة على العقل، حتى يعمل العقل بشكل حر واستقلالي، للوصول إلى تفسير أكثر شمولاً، وأعظم دقة، وأقرب للصحة، وأنفع واقعية.
إن هذه العقدة؛ عقدة الآبائية، والإرهاب الفكري، والوصاية على العقول، واحتكار الفهم النهائي والمطلق لكل شيء، وادعاء القنص والقبض على الحقيقة الحقيقية المطلقة، والاتهام بالزندقة والهرطقة لكل من يختلف في التأويل، والفهم المضاد، والتي يجب أن تعتبر على العكس رحمة لتنمية جو البحث العلمي، إذ لا نمو بدون خلاف، ولا تألق بدون تفاعل، ولا إنجاز مدهش بدون حوار عقلاني خصب، هي أم الأمراض.
وانتبه الإمام ابن تيمية إلى أن العالم يخطيء العالم عند الخلاف، في حين أن المبتدعة يكفر بعضهم بعضاً، وأنا أضيف أن أهل السياسة يخون بعضهم بعضا.
من هنا تأتي أهمية ممارسة النقد الذاتي لأفكارنا بدون توقف، وبإصرار وبدون ملل ولا رحمة، لأن قوانين الكون أعوص وأعقد مما نتصور، وكل ما نحصله من الكون هو في الواقع صوراً ذهنية لا أكثر.
كما حصل مع جيل ما قبل كوبرنيكوس، الذين استرخوا على ظهورهم في كرة أرضية ثابتة هي مركز الكون، وكل الكون يدور حول هذا الكوكب التافه (نسبة للكون).
وعندما لجأ فيزاليوس إلى (الواقع العملي الذي يزكيه القرآن دوما. أفلا ينظرون إلى الإبل.. السماء.. الجبال.. الأرض) ليرى طبيعة الجسم كما هو في الواقع (وفي أنفسكم)، اكتشف أن كل الفكر اليوناني كان يتكلم من الكتب والورق، بدون الاتصال بالواقع، بما فيهم أسماء كبيرة من أمثال (جالينوس وأبقراط الذي يكلف الأطباء في العادة بترديد قسمه أثناء التخرج).
هذه الأسماء الكبيرة لجمت الحركة العلمية، حين خرجت من إطارها، أنها كائنات تاريخية محددة إلى حقائق كونية ثابتة، لذا كان لابد من كسر هذه الأصنام ليتحرك العقل، وصدق الفيلسوف الإسلامي إقبال حين قال:
(تلون في كل حال مناة.......... شاب بنو الدهر وهي فتاة).
يروى أن شاحنة كبيرة مرتفعة مرت تحت جسر لا يلاءم ارتفاعها، فانحبست تحت الجسر، واجتمع العديد من الناس لمحاولة شدها للخلف أو دفعها للأمام عبثاً، وهي تزداد استعصاء!!.
تقدم طفل صغير كان يراقب المنظر لرجل البوليس الذي يشرف على عملية الإنقاذ الصعبة قائلاً: هل تسمح لي يا سيدي بالمشاركة؟
فحياه الشرطي مبتسماً من فضوله وجرأته: نعم هل عندك شيء أيها الغلام؟
قال الصبي: نعم فَرِّغوا الإطارات من الهواء؛ الى الحد الذي لا يعيق مشيها، فتنخفض السيارة الشاحنة عن مستوى الجسر فتمشي بأي اتجاه ترغبون!.
هذه القصة المعبرة تروي بشكل جوهري مشكلة العادات العقلية وضغطها على مسارات الفك، فالحل الذي انقدح في ذهن الطفل الصغير، بسرعة وبشكل عفوي، سببه هو حرية الحركة العقلية نوعاً ما، وروح الفضول والسؤال، والدهشة، والفكر بدون قيود، وعدم التقيد بالعادات العقلية التي سُجن في إطارها الآخرين، واستقبال الأحداث بدون قرارات مسبقة، حيث أن كل حادثة هي واقع مستقل قائم بذاته، كل هذا وغيره يقود العقل إلى عمل عقلي إبداعي.
كما أن القصة تعطينا العظة من تشجيع الرأي من أي مستوى صدر، ومن أي عمر جاءت.
أحياناً أقرأ مقالتي هذه على طفلة صغيرة في المرحلة الابتدائية، لشعوري أن الأطفال أذكى مما نتصور، لأنهم يفكرون بانطلاق، وعفوية، وحدة ذهن، وذكاء نشيط خلاب، ودماغ لا يشكو من العطب وألزهايمر والخرف وتصلب في الشرايين؟!.
وهكذا فعندما سمح الشرطي للطفل بإبداء رأيه أراحهم من ورطة كبيرة بفكرة مبدعة جديدة. فالقصة تروي أن المشاكل الكبيرة يمكن حلها بأفكار صغيرة.
وهذا يقودنا إلى بحث العقل والنقل، التقليد والإبداع، الاجتهاد والمتابعة، بين احترام رأي الآباء والمجتمع وانتقادها.
لقد وضع القرآن علاقة جميلة بين الاقتفاء والإتباع فلا اقتفاء بدون علم (ولا تقفوا ما ليس لك به علم) (6).
كانت حجة فرعون في نقاشه مع موسى: هل خفي ما تقول على آبائنا الأولين (فما بال القرون الأولى)؟!.
في حين أن الحجة الإبراهيمية كانت: هل ينفعونكم أو يضرون؟
وكان جوابهم: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون!!
المراجع:
(1) كتاب قصة الحضارة ـ تأليف (ويل ديورانت) ـ طبع الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية ـ الجزء 27 ـ الفصل السابع والثلاثون ص (114) بحث العلم في عصر كوبرنيق، تحت فصل السحر والتنجيم جاء ما يلي: (إن الحقائق الجديرة بالملاحظة أن هذا العهد الذي استغرقه اللاهوت والثقافة المدرسية قد أنجب رجلين لهما أرفع مقام في تاريخ العلم كوبرنيق فيزاليوس، ومن العجيب أن الكتب التي احتوت عصارة حياتهما قد ظهرت في سنة واحدة هي سنة العجائب 1543م)(2) راجع القصة المثيرة الوثائقية بعنوان ماجلان قاهر البحار ـ تأليف ستيفان زفايج ـ ترجمة حبيب جاماتي نشر مختارات الإذاعة والتلفزيون.ـ الكتاب الماسي ـ الدار القومية للطباعة والنشر (3) قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ مجلد 27 ـ ص: 152: (وقد أدهشت أخطاء ندت عن جالينوس وكانت خليقة بأن يدحضها أبسط تشريح لجسم الإنسان كقوله مثلاً: إن الفك السفلي قسمان، وأن القص سبع عظام متميزة، والكبد عدة فصوص، وما كان ممكناً تعليل هذه الأخطاء واغتفارها إلا على فرض أن جالينوس لم يشرح قط آدميين بل حيوانات، وشعر فيزاليوس أنه قد حان الوقت لمراجعة علم تشريح الإنسان بتشريح الآدميين، وهكذا أعد أعظم كتبه)(4) قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ الجزء 27 ـ ص 154: (قال دوبوا إن جالينوس لم يخطيء، ولكن جسم الإنسان اعتراه التغير منذ عهد جالينوس، وعلى ذلك فعظام الفخذين الواضحة الاستقامة، والتي ليست مقوسة كما وصفها جالينوس إنما هي في رأيه نتيجة لارتداء أوربي عصر النهضة سراويل ضيقة). (5) قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ الجزء 30 ـ ص 296. (6) الآية (ولا تقفوا ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) ـ سورة الإسراء رقم الآية (36).
التعليقات