كان الزوجان (ويسل مان) قد قضيا ليلة 16 يوليو عام 1945م في (سافورد) بمنطقة (أريزونا). ثم تابعا السير بعد منتصف الليل على الطريق الاتحادي رقم ( 70 ) ، وتماماً وعلى حدود نيومكسيكو وعلى بعد حوالي (250) كم من (ألاموجوردو) ، روت السيدة (ويسل مان) في اليوم الثاني في مدينة (الباسو) لجريدة (الهيرالد بوست) مشاهدتها لظاهرة عجيبة :
(كان الليل مازال مخيماً بسواده عندما ارتفع فجأة عند منتصف الساعة السادسة وهج من السماء أضاء رؤوس الجبال التي كنا نمشي بحذائها بلون أحمر برتقالي في حين تألقت المنطقة المحيطة بنا لعدة ثواني، لكأننا في ضوء النهار، ثم حل الظلام مرة أخرى ، لقد روعتني المشاهدة ، حتى خيل إلي أن الشمس بزغت فجأة ثم اختفت).
وقالت الجرائد المحلية في اليوم التالي لبزوغ هذه الظاهرة الكونية أن انفجاراً ضخماً حصل لمستودع ذخيرة تابع للجيش الأمريكي.
وبهذا التفسير في جرائد منطقة (نيومكسيكو) تم تفسير بزوغ الشمس مرتين في ذلك اليوم التاريخي؟!.
وفي نفس صباح (16) تموز هذا وفي ضباب البحر الذي يغلف ميناء سان فرانسيسكو تحركت البارجة (إنديانا بوليس) باتجاه جزيرة (تينيان) على بعد (9000) تسعة آلاف كيلومتر.
وعلى ظهر البارجة المذكورة ثُبِّت جهاز على شكل اسطوانة كُلف بحراسته اثنان من الضباط اسمها (البرونكس) وأُعطيت لهم الأوامر أن لا تفارق عيونهم هذه الاسطوانة العجيبة.
وفي حال تعرض البارجة للخطر أو الغرق فيجب إنقاذ هذه الاسطوانة العجيبة ولو بحياة كل البحارة!.
في نفس هذا الصباح وعلى الشاطئ الآخر من الأطلنطي، كان الرئيس الأمريكي (ترومان) يجتمع مع (ستالين) على مائدة المفاوضات، بين أنقاض وخرائب المدينة الألمانية (بوتسدام)، في صدد تقسيم النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية، وقد علت البهجة وجه الرئيس الأمريكي وغطى السرور محياه.
ظهر ذلك في حركات يديه وعينيه بعد أن وضعت بين يديه البرقية التالية:
(العملية تمت صباحاً . التشخيص لم يكتمل بعد . يبدو أن النتائج مطمئنة . وفاقت كل التوقعات).
وفي يوم ( 6 ) أغسطس - آب وعند الساعة الثامنة صباحاً تحركت مجموعة من الطائرات من طراز ( ب ـ 29 ) سميت بالمجموعة (509) الخاصة، وأخبر الطيارون بإلقاء الحمولة ثم الاندفاع إلى أكبر علو ممكن وكانت الأوامر: ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون .
وعندما سطعت الشمس النووية وحلَّق (الفطر النووي) فوق مدينة (هيروشيما) وطوى تحت جناحيه أرواح عشرات الآلاف من البشر عندها أدركت عائلة (ويسل مان) أنهم كانوا الشهود الأوائل على سطوع الشمس النووية الجديدة وولادة عصر جديد.
أصرت أمريكا ، وبتوقيع واحد من الرئيس الأمريكي على ضرب مدينتين هما (هيروشيما) و(ناغازاكي) وحرق مئات الآلاف من الناس بالنار النووية الجديدة.
ونجت مدينة ( كيوتو ) الجميلة الأثرية من براثن الموت، تحت ضغط وزير الخارجية الأمريكي لأن (ليزلي جروفز) الرأس المخطط العسكري لمشروع (مانهاتن) الاسم السري لتطوير السلاح النووي كان يخطط لتدمير هذه المدينة، لتكون قاصمة الظهر للشعب الياباني، باعتبارها المدينة الدينية المقدسة لليابانيين، وعدد سكانها يصل إلى المليون، وفيها ثلاثة آلاف من المعابد.
وسطعت الشمس النووية فوق هيروشيما، معلنة امتلاك الإنسان وقود النجوم ، وإمكانية إفناء جنسه العاقل بنفس الوقت.
ووصول الإنسان إلى قوة لم يحلم بها إنس ولا جان .
وأما في الأسفل فكانت هيروشيما في عاصفة من النيران.
وحل على الأبدية في صدمة لم يعهدها سكان العالم السفلي رقم مذهل من الناس وهم يتدافعون على بوابة الموت.
في دقائق معدودة كان مائة وخمسين ألفاً من الأنام يحلون ضيوفاً على الآخرة.
وما تبقى منهم جاء وصفهم على لسان كاتب ياباني معروف هو (يوكو اوتا):
(لم أتوصل بسهولة إلى فهم كيف استطاعت بيئتنا أن تتحول إلى هذا الشكل خلال لحظة وظننت أنه من المفروض أن يكون قد حدث شيء ما لا علاقة له مطلقاً بالحرب، إنه لاشك نهاية العالم ، كما كنت أقرؤها في الكتب عندما كنت طفلاً).
و روى شاهد عيان:
(بعد قليل شرعت مواكب المعوقين من جميع الأنواع والأشكال لم يعرف لها التاريخ مثيلاً تتهافت، وهي تنزح من وسط المدينة باتجاه الضواحي المحيطة بها.
كانت أذرعهم تتدلى ووجوههم ليس فقط جلود أيديهم وحدها بل أيضاً جلود وجوههم وجميع أطرافهم، كانت تتساقط مهترأة، ولو اقتصر الأمر على شخصين أو ثلاث لهان الأمر، ولكن حيثما كنت أتوجه كنت أصادف مثل هؤلاء البؤساء.
كثيرون سقطوا أمواتاً على طول الطريق، ولازلت أراهم ثانية وهم يتقدمون كالأشباح.
ولم يبد عليهم أنهم ينتمون إلى هذا العالم ..
وبسبب جراح أولئك الناس لم يكن بالإمكان أن يعرف فيما إذا كنا نراهم من الوجه أو الظهر)
ما حصل في(هيروشيما) لم يكن ( تقنية) جديدة برزت في الحرب أو (سلاحاً سرياً) تم تطويره.
إنه في الواقع (إعلان كوني) عن دخول الإنسان عصراً جديداً نسخ فيه عهد القوة.
وهذا التطوير الجديد أدى إلى (تثوير جديد) في فهم العلاقات الإنسانية، كما أدى إلى إعادة النظر في مفهوم القوة؛ أن القوة لم تعد قوة. وأن (القوة) ألغت (القوة).
وهو تطور جديد يحصل للمرة الأولى في تاريخ الإنسان أن تخذل القوة عبادها.
ومن بقي في العالم يعبد القوة هو من الوثنيين.
إن الحرب اليوم لم تعد حرباً!
هل نستطيع تصور رجلاً يمشي في المدينة بطول 200 مترا ووزن (500) طن؟ ويبقى كائناً بشرياً؟
إن الديناصورات اختفت من وجه اليابسة لأنها تحكي ( آركيولوجيا الانقراض).
فهذه هي الحرب الجديدة.
كانت توقعات ( ليزلي جروفز ) أن السوفيت سوف يحتاجون إلى (25) خمس وعشرين عاماً قبل اللحاق بأمريكا وتطوير السلاح النووي!
وفي صيف عام 1949 صعق الأمريكيون برؤية الفطر النووي يتصاعد في صحراء (سيمي بالاتنسك) في منطقة (بوليجون) في البلد المسلم كازاخستان.
وانفلت السباق النووي على مصراعيه؛ فانطلقت أمريكا بمشروع (مايك) قنبلة الميجا طن وارتفع الفطر النووي إلى ( 25) كيلو متر في السماء، وانخسفت الجزيرة إلى قاع المحيط، وهلكت الحياة النباتية والحيوانية في الجزر المجاورة. حيث أجريت التجربة في جنوب المحيط الهادي. كان عيار أحد القنابل حوالي (12,6) ميجا طن.
واندفع الاتحاد السوفييتي في هذا السباق لكي يصل في النهاية إلى تفجير قنبلة بلغت قوة (58) ميجا طن، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بما يزيد عن ثلاثة آلاف مرة.
وصعق البنتاغون فبدأ يخطط لقنبلة من عيار (100 ميجا طن!) .
عندها شعر الجميع أنها رحلة جنون مطبق. وعبث مدمر ، وطريق مسدود!
وسطر غورباتشوف كلمات متزنة للغاية في كتابه (البروستريكا) عن طبيعة التطور التاريخي الذي دلف إليه الإنسان.
وهكذا أبطلت القوة القوة وتحققت نبوءة الأنبياء في السلام.
الحروب اليوم توقفت بين مالكي المعرفة، لأنهم أدركوا أن وقت حل المشكلات بالقوة انتهى، والحروب اليوم هي في عمومها حروب المتخلفين، أو لتأديب المتخلفين.
ولكن مع هذا فإن مصيرها ونهايتها ليست بيد المتخلفين، بل هي مرة أخرى بيد ملاَّك المعرفة كما رأينا في الحرب العراقية الإيرانية.
ورأينا سقوط أعظم إمبراطورية ملكت أعظم سلاح بدون حرب أو هجوم خارجي.
كما رأينا صعود قوة إلى مصاف قوة عظمى بدون أي سلاح . الأولى هي الاتحاد السوفيتي ، والثانية هي اليابان.
كان الأسبان الذين دمروا حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية يدفنون خيولهم بسرعة عندما تنفق، حتى لا يكتشف الهنود الحمر أن خيل الأسبان تموت ويبقون على اعتقاد أبديتها!
ولكن يا ترى هل نملك ذلك المستوى الرفيع من الوعي؛ فنكتشف أن السلاح هو عتاد ميت ويدفن كما كان الأسبان يدفنون الخيل النافقة، وأن السلاح النووي نفق وهلك، فلا نعبد ما تنحت أيدينا، ونعبد الله بدون خضوع جباهنا لصنم القوة.
لقد أظهر فيلم التجميع الحرج (Critical Assembly) قصة أربعة شباب جامعيين استطاعوا أن يبنوا سلاحا ذريا، وهكذا فالوصول إلى السلاح النووي لم يعد صعبا ولا سرا.
وإيران حاليا تعكف على بناء صنم من هذا النوع. كما فعل السامري فأخرج لبني إسرائيل عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي.
التعليقات