تم تزوير الانتخابات في إيران الثورية، مثلما يحدث في جمهوريات الخوف والبطالة.
هنا بيد ولاية الفقيه وهناك بيد مفتي الجمهورية.
ويتأمل الإنسان مذهولا؛ ظاهرة تحول الجمهوريات إلى ملكيات استبدادية! وتحول الثورة إلى دولة طغيان ديني، تتحدث باسم الله الذي يعلم السر وأخفى.
هنا ولاية الفقيه وهناك الرفيق القائد. واحد بعمامة والثانية بطاقية الإخفاء الثوري!!
هنا الدين المزور، والثورة المخطوفة، بيد عصابة من حرس الثورة.
وهناك جمهورية مخطوفة رهينة بيد قراصنة من عتاة المخابرات! ..
ولفهم هذه الظاهرة المسمومة علينا الاستعانة بعلم الاجتماع والبيولوجيا والسيكولوجيا والفلسفة لتفكيكها وفهم آليات عملها؟ على ما يبدو أن المجتمع يمرض كما يمرض الجسم، بأنفلونزا الخنازير والسيدا والسارز؛ فليس من مناعة ولا حصانة. مثل طاعون البعث والجذام الليبي واحتلال العراق وتدمير طالبان وسواطير الجزائر وجنرالات تونس وانقلابي مصر ووادي الرافدين.
في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي وقف خروتشوف يتساءل : كيف يتسنى لشخص واحد مثل ستالين أن يتحكم بمصائر ملايين البشر ويرسل الى الموت مليون شخص من أوكرانيا فقط ؟ والمشكلة ليست في تعطش فرد لسلطة لانهائية ، ولكن كل المشكلة كيف تركع الجماهير لآلهة كاذبة ؟ فما هو سر هذا السحر وكيف نفك طلسمه ؟
لعل أفضل من حلَّل ظاهرة (المرض الاجتماعي) هو مالك بن نبي الجزائري الذي لم يستفيد من فكره جزائري؛ حينما وجه نظره الى (الاستعداد) كتربة جاهزة لانغراس جراثيم المرض، وبذلك قام بانجازين هامين في الفكر العربي؛ أولا في نقل المعركة من الميدان السياسي الى الثقافي، ونقل الصراع العربي الإسرائيلي من جوهري الى هامشي؛ فالمرض العربي هو من قاد تحديدا الى الاختلاط الصهيوني .
وبذلك قاد مالك بن نبي في تحليله الى قلب ترتيب الأولويات عندما اعتبر (القابلية) للاستعمار تشكل وضع (امتصاص) وحالة فراغ (Vacuum)، وبذلك وضع تشخيصاً بارعاً لمرض الحضارة الإسلامية.
أن ظاهرة القابلية للاستعمار تشكلت في وقت مبكر، تحت قباب القيروان ودمشق وبغداد، قبل أن تزحف جيوش الاستعمار لاحتلالها. وهذا المرض هو الذي هيأ للتفسخ الداخلي قبل الاجتياح الخارجي، وهو الذي يفسر تسلط الديكتاتوريات وبزوغ نجم داوود. وهو الذي يفسر سقوط مملكة صدام تحت أقدام جنود الأمريكان في ثلاثة أسابيع مع كل ادعاءات مسيلمة الصحاف.
إذن فنحن لم نتحرر بعد من هذا المرض الذي يعس كالروماتيزم الخبيث في مفاصل ثقافتنا.
يعتبر القرآن كتاب متفرد في طرح مصطلح، لم يعتاده الناس تحت عنوان (ظلم النفس) لأن الناس اعتادت أن تلوم كل شيء إلا نفسها، وبذلك قام القرآن بتوفير الطاقة لدفعها في المسار المنتج. ليست المشكلة بعدم وجود عناصر خارجية تفجرها، ولكن القطاع الفعلي الذي نتمتع بالتحكم فيه هو عالمنا النفسي، وليس عندنا إمكانية لدخول المشكلة إلا من بوابته، وبتعطيل هذا المسار يتعضل حل المشكلة فلا يرى الضوء.
طرح القرآن (ظاهرتين) لعلهما أهم الأمراض الإنسانية قاطبة في (علاقات القوة) بين المستضعفين والمستكبرين، ومشكلة القصور التي واجهت (آدم وإبليس) وتحديد الموقف منها؛ فإبليس لم يدخل طريق اللعنة واللاعودة والفاحشة إلا عندما اعتبر نفسه مبرئاً من الخطأ وأن (الله) هو الذي أغواه (بما أغويتني)، في حين أن آدم وقف هو وزوجته يعللان سبب السقوط بقصور داخلي (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا) كمنهج صحيح في مواجهة المشاكل.
إن المشاكل ليست في (المشاكل) تحديداً، بل بموقفنا من (المشاكل) فلا تعود مشاكل، بل تحديات لاستنفار الجهد؛ فهذا المنهج يدفع نحو تراكم الخبرات.
لقد عرض القرآن مسرحية (الظالمين) أنهما شريحتان؛ تتقدم (الأولى) حاملة لواء (المستضعفين) قبل ظهور مجموعة المنتفخين المستكبرين!!
تماماً كما في الفيلم بأصله الفاحم الأسود (NEGATIVE) الذي تستخرج منه الصور الايجابية زاهية الألوان!
المستضعفون هم تربة إنجاز وتفريخ طبقة الطواغيت المستكبرين، وهي كما نرى مشكلة ثقافية قبل أن تكون سياسية. وهذا ينطبق في كل قطاع بين رئيس ومرؤوس من رئيس أي مصلحة والطبيب والضابط.
وهذا القلب في التصور يصلح أن يكون نظرية كوبرنيكوس اجتماعية؛ فلم تعد الشمس تدور حول الأرض، ولم يعد الحكام يفعلون مايشاؤون، وهو من باب أولى يعني أن قلب أنظمة الحكم بالقوة المسلحة لن يدخلنا قط الى العالم السحري الفجائي لتغيير الأوضاع .
لذا طرح القرآن نظرية تغيير مابالنفوس كأساس لتغيير الأوضاع (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم) .
وهذا يعيد إلى الذاكرة ما طرحه المفكر الفرنسي (أتيين لابواسييه) عام 1562 م حين كتب مقالته (العبودية المختارة) يشرح آلية الطغيان؛ أن الطاغية يقف على رأس هرم، محفوف بنظام متدرج من ستة من الأشخاص يزينون له ما يفع ، يوجهون بدورهم 600 شخصاً من تحتهم في شبكة عصبية متمادية الى ستة آلاف وستمائة ألف، بحيث يفعل الطاغية ما يفعله الدماغ من إفراز كيماوي بسيط من جرعة النانو غرام، كي تنقل له الشبكة كل الأخبار، وتحرك له كل العضلات وتفرز كل الهورمونات. مثل روبوت في حجم هرم خوفو يطحن عناصر اجتماعية من حجم النملة والقملة..

ويقترح (لابواسييه) ترياقاً ضد هذا السم الاجتماعي يقوم على سحب الطاعة فقط؛ وهنا قد تنفع الثورة اللاعنفية في إيران؛ فتعيد الروح إلى الثورة التي تم اغتيالها بيد الفكر الديني المحنط! كما بدأت خطوطها الأولى بانتصار الدم على السيف!!
وكما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين!!
علينا استيعاب حقيقة أنه لا يمكن لأي ديكتاتور أن يستمر في الحياة، لو أن الناس جلسوا في بيوتهم ولم ينزلوا الى العمل ويتعاونوا معه.
ولكن الأمر يحتاج الى ثلاثة شروط : الوعي والتنسيق والتضحية، لذا يخاف كل طاغية من رائحة أي تنظيم، ويتمنى بل يدفعه الى أن يكون سرياً لا شرعياً أو عنيفاً مسلحاً؛ فيتم اصطياده باللاشرعية، ويقطع رقبته بكل سهولة وراحة ضمير, من هنا كانت دعوة الأنبياء علنية وجماهيرية وغير مسلحة لاعنفية.
تماما كما فعلت ثورة إيران عام 1979 قبل أن يتم وأدها بالحوزات القمية، التي تتحالف مع البعث العلماني، في دين جديد، لاعلاقة له بعلي وفاطمة، بل بالتحالف مع معاوية الجديد.
أما الحركات السياسية في العالم العربي في معظم شرائحها؛ فتفرح بموت أو اغتيال الحكام، وعندما ينطفئ هذا اللهيب من قلوبنا؛ فلا نفرح بموت حاكم أو اغتياله و (لا نفرق بين أحد منهم) ملكياً كان أم جمهورياً أم ثوريا زائفا؛ نكون قد بدأنا سيكولوجياً نمشي سوياً على صراط مستقيم.
ليس من الضروري قتل الباطل، بل ممارسة العصيان المشروع فقط، ولو فعلت المعارضة الجزائرية هذا، لخرج كل المجتمع من عنق الزجاجة بأقل الضحايا.
يكفي ممارسة العصيان بعدم التعاون معه والرضوخ له، ولكن مشكلة الانسان أنه يعتقل بأوهامه ويمكن أن يسحر و يسترهب؟ .
ما جاء به الأنبياء هو محاولة تحرير الانسان من هذا الوهم وتحرير العقل المعتقل، وهذا هو لب التوحيد التي تقوم على إنكار كل الآلهة قبل الإقرار بالله العزيز الحميد.
يتساءل (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) عن الشهوة البشرية، وكيف أن أحدنا يتمنى أن يكون نبياً أو حتى إلها لا ينال منه النقص والمرض، الكون قبضته والسموات مطويات بيمينه، فهو أمر محبب مشتهى، ومشروع قائم، ومتعة لذيذة خفية وشهية، نتمناها ونطمح إليه في الصراع على السلطة والنفوذ ولا نصرح بها؟
وما يمنع تحققها وقائع ساحقة ماحقة، من مرض ساحق، وموت مدمر، وشيخوخة قاهرة، في شواهد أننا بشر فانون (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون).
لا يستطيع كل إنسان تدشين ديانة جديدة مع طموحه لذلك؛ وكل إنسان عالم قائم بذاته، يعتبر نفسه أفهم الناس جميعاً ، كما يرى أنه لا ينقصه شيء، أن يكون أعظم الفلاسفة أو أهم الأنبياء، ويذهب الغزالي في كتابه (الإحياء) أن أعظم اللذات في الحياة هي (التسلط) لأنها من صفات الإلوهية، كما أن الدين يراهن على هذه القطعة (الترانزستور) فينا من نفخة الإله، وإلا ما معنى أن يغرينا بجنة الخلد وملك لا يبلى كصفة إلهية.
ولعل آخر ما يسحب من قلوب الصاحين، هي روح التسلط والعلو في الأرض، والشعور بالتميز، فيا حبذا الإمارة ولو على الحجارة!!
وهذا يفسر أحد الأسباب الخفية المسيطرة للصراع السياسي بين الشرائح الاجتماعية، ومن أجل هذا جاء الأنبياء لكسر احتكار الإلوهية البشرية، واستنبات مجتمع محرر من علاقات القوة، فلا يوجد مستضعفون أو مستكبرون، وهو ما فعلته الديموقراطية حالياَ.
لو أن كلينتون أو تاتشر حالفهما الحظ فحكموا بلداً عربياً، لاعترفوا بدون ذرة تردد، أن جدهم العاشر كان من يعرب أو قحطان؛ فكرسي الحكم في العالم العربي ممتع لذيذ الى أبعد الحدود، لاتراقبه لجنة ضرائب، ولا تشهر به صحافة، ولا يحاسبه ويساءله مجلس شيوخ وكونجرس، ولاتطاله يد محاكمة في مساءلة .

كما أن العكس صحيح لو أن حاكماً عربياً قفز به الحظ، ليصبح رئيس دولة غربية؛ فسوف يتحول في فترة قصيرة إلى طفل رضيع وولد وديع، نازل من قبة الأولمب، من اله ينفث اللهب والسباب، الى إنسان يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون.

وهو شاهد صاعق على ما تفعله الثقافات في البشر.

لا جرم أن ثقافتنا تنتج العبيد والقطيع وآلهة مشوهة في مستنقع لم يجفف بعد، تفوح منه الروائح الكريهة إلى السماء، ويعج فيه البعوض الخبيث السمي الى أجل غير مسمى .

وهو أمر خطير للغاية ويعني أن كلا منا يمكن أن يتحول إلى صادم ومصدوم وقاذف ومقذوف وأسد ونمر يفترس ونعجة تفترس!! في حديقة حيوانات رائعة تسرح فيها الضواري..

ذكر (اتيين لابواسيه) في كتابه العبودية المختارة، أن اليونان أرسلوا رجلين الى بلاط عاهل الفرس؛ فاستضافهم حاكم حدودي؛ فأطعمهم الى ما فوق الشبع، وأكرمهم الى ما فوق الضيافة!! كل ذلك بسبب!!
ثم التفت قائلاً: ألا ترون هذه النعمة التي أسبح فيها، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تعقلون وتنضمان الى عبيد مولاي الملك؟ ورفاق الحزب؟؟
نظر الرجلان القادمان من ثقافة سقراط وقالا له: لك الحق أن تقول ما تقول، ولنا الحق أن نرفض كل ما تقول؛ لأن نعمة الحرية التي ذقناها في أثينا والغرب لم تذقها أنت بعد!!
ولو ذقتها لرميت كل ما عندك برجلك هذه، وقلت هناك هناك مغتسل بارد وشراب!!
ولقاتلت عن الحرية بأظافرك وأسنانك ؟!
نحن نثرثر بكلمات الديموقراطية وننسى ثلاثة أمور:
ـ وعي جماهيري يصلح أساساً لصناديق الاقتراعات لإنهاء أزمة التزوير والكذب ومحنة ثقافة مزورة.
ومثقف ملتزم بقوة الحقيقة قبل حقيقة القوة، قد تحرر من الخوف والإغراء، وودع ثقافة وعاظ السلاطين، وموائد القمار والمخمورين.
وأخيراً توديع للعنف بكل أسبابه؛ فلا تجتمع الديموقراطية مع العنف، إلا عندما يمتزج الماء مع النار؟
وما هو بحاصل..
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون..