أثناء إقامتي في ألمانيا قمت بزيارة لقلعة أثرية في جنوب ألمانيا ولفت نظري لوحة جميلة تخلد معركة عسكرية، وبينما كنت أتأملها انتبهت إلى العمائم تغطي الرؤوس في أحد الجانبين المختلطين ببعضهما بين السيوف والدماء والأشلاء والقتلى، وعندما دققت النظر أكثر علمت أنها تخلد معركة أسوار فيينا المحاصرة من قبل الجيش العثماني يوم 12 أيلول ـ سبتمبر من عام 1683 م.

حصار فيينا الثالث
في هذا اليوم العصيب وجه الوزير العثماني الأعظم إلى أهل فيينا الرسالة التالية ـ حسبما حفظتها الوثائق العثمانية التي تعود إلى زمن السلطان محمد خان الرابع والتي نشرت في الكتاب الضخم عن مسلسل الرحلة البشرية عبر التاريخ (CHRONIC DER MENSCHHEIT = CHRONIC THE HUMANKIND): (إنني وبعزة الله وكرامة الرسول وولد القمرين الذي له كل الرفعة والفخر. أنا قائد جيش السلطان العثماني الأعظم. ملك ملوك الأرض. أقول لكم ولقائد النبلاء في فيينا الجنرال ستارهمبرغ. لتعلموا أنني وبأمر من سيدي الأكثر احتراماً وتقديراً. الأقوى. والأعظم والذي لا يقهر. والذي جئتكم بجيشه اللجب حتى مدينتكم فيينا هذه من أجل ضمها إلى مملكته. إن استسلمتم له فبإمكانكم أن تنسحبوا بكل أشياءكم صغيرها وكبيرها. ومن يرغب في البقاء هنا صينت ممتلكاته. أما إن عصيتم وامتنعتم عن التسليم اقتحمنا عليكم مدينتكم وقطعنا كل صغير وكبير بحد السيف. أنكم تعلمون نبالة سيدي التي يرعى بها رعاياه وسيفعله لكم. والسلام لمن أطاع وامتثل).
في صباح ذلك اليوم من خريف عام 1683 ميلادي الموافق 20 رمضان من عام 1094 هجرية حصل انعطاف نوعي في تاريخ القارة الأوربية، وقفزة قلبت ميزان القوى، الذي لن يعتدل بعدها مطلقاً بين القوة العظمى العثمانية والدول الأوربية، حيث اندفع الملك البولوني يوحنا الثالث سوبيسكي (JOHANN III SOBIESKI) وبقيادة شخصية منه مباشرة، على رأس وحدة من الخيالة المدربة كرأس حربة، وبجيش نجدة بلغ 65000 خمس وستون ألف جندي قدموا من بولونيا، لفك الحصار عن مدينة فيينا التي كانت ومازالت تمثل قلب أوربا، ولم تكن هذه هي الحملة العثمانية الأولى على فيينا فقد سبقتها حملة أخرى في عام 1663م.

آلية انهيار الدول
كانت الحملة العثمانية الثانية لدخول قلب أوربا يمثل اختراقاً نوعياً، كما يمثل بنفس الوقت قمة الاقتحام العثماني للأرض الأوربية، إلا أنه فشل وكان هذا يعني بكلمة ثانية انكسار المخطط بغير رجعة، لأن مسلسل التراجع العثماني سوف يستمر في القرنين التاليين حتى تدخل الدولة العثمانية (العناية المركزة التاريخية) حيث سوف تسمى بعدها بـ (الرجل المريض) على ضفاف البوسفور، ثم سوف يموت هذا الرجل المريض (مرض الهرم أو السرطان الذي لن يرتفع بعد)، ويقوم بدور إعلان الوفاة ومراسيم الجنازة (دابة الأرض) المدعو (كمال أتاتورك) كما أَعَلنت من قبل دابة الأرض عن موت نبي الله سليمان عليه السلام (فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) وبذلك تنفست الجن الصعداء عند موت النبي سليمان، كما تنفست جن أوربا أيضا ً الصعداء مع الخلاص من القوة العالمية الإسلامية الأخيرة (ولو في صورتها المأساوية المريضة).
وبذلك نحرر وبشكل جانبي أمرين على غاية الأهمية: الأول العامل الداخلي هو الذي يلعب الدور الحاسم في إبراز الحدث إلى السطح، والثاني تفاهة الدور الذي لعبه كمال أتاتورك، فهو لم يقتل أو يلغي الخلافة العثمانية وهو أحقر وأضعف من دابة الأرض المذكورة في الآية، وإمبراطوريات عريقة هيهات أن تسقط بأمثال أتاتورك، إن أتاتورك لم يفعل أكثر من إعلان الموت وتوزيع بطاقات النعي، والسير في خشوع في جنازة الدفن الأخيرة، وغورباتشوف أيضاً لم يفعل أكثر من هذا الدور مع الامبراطورية السوفييتية. في محاولة لفهم (السنن التاريخية) التي عني القرآن بها أكثر من السنن البيولوجية، وأكثر من السنن الفيزيائية، وأعطاها صفة الديمومة والاستمرار على وجه ما ولن تجد لسنة الله تبديلا.

حفريات الحضارات
لقد اقتحم العلم وارتاد فضاءات جديدة هائلة منها الفضاء التاريخي والحضاري، فكما استطاعت الجيولوجيا وبواسطة الكربون 14 وعن طريق (استنطاق) حلقات الشجر التي تعمر القرون الطويلة، لتعرف ماذا حدث في الكون منذ قرون عف عليها الزمن واندثرت مع اندثار الذاكرة البشرية، نفس الشيء حدث مع (نكش ونفض) الحفريات لحضارات لم تعد تذكر في التاريخ
(كما هو الحال في الحضارة الآشورية ذات النزعة الحربية التي أذاقت شعوب الجوار أصناف الويل والدمار ثم طواها التاريخ فهل تسمع لهم رِكْزا؟!).
كان الاختراق العثماني في حصار فيينا الثاني شبيه بالاختراق الذي قام به العرب قديما مع تجاوز جبال البيرنيه، بعد السيطرة على شبه الجزيرة الايبرية، عندما تحطم الامتداد العربي بدوره في المدى الأقصى الذي حاول تجاوزه، ولكن الفرق من جانب آخر كان كبيراً للغاية. وهو المسار الذي نريد دفع الأفكار باتجاهه مع هذه المقالة، فالعثمانيون كانوا يصارعون أوضاعا مختلفة للغاية، في القرن السادس عشر والسابع عشر عن الأوضاع التي كان العرب يتفوقون فيها في القرن الثامن والتاسع الهجريين.
بدأ حصار فيينا في الرابع عشر من تموز يوليو من عام 1683 م، وكان القيصر ليوبولد الأول النمساوي قد فر أمام الحملة العثمانية الرهيبة التي ضمت قرابة ربع مليون جندي مزودين بأفضل أسلحة ذلك العصر من المدافع والبنادق ذات الحشوة الواحدة، على ما جاء في الوثائق السلطانية من أيام السلطان محمد الرابع، حيث نقرأ صوراً من مجريات المعركة، في هدم أطراف من سور البلدة، أو ضرب مجموعة من الأعداء (مما عجل بروح 40 - 50 من هؤلاء الأوغاد إلى جهنم!!).
فشلت الحملة واندحر الجيش العرمرم، وأعدم الوزير الأعظم في بلغراد عاصمة الصرب الحالية في 25 ديسمبر من نفس العام 1683 م، في أعياد الميلاد المسيحية، وكان البابا إينوسنس الحادي عشر (INNOZENS XI) خلف التحالف المقدس الجديد، حيث اتحدت القوة النمساوية مع قوة من سكسونيا، وقوة من بافاريا (سكسونيا وبافاريا مقاطعتان في جمهورية ألمانيا الاتحادية الحالية) بالإضافة إلى الجيش البولوني الذي ذكرناه سابقاً تحت إمرة الملك البولوني يوحنا الثالث سوبيسكي؛ بل وأكثر من هذا حيث ختم السلطان العثماني محمد خان الرابع فترة حكمه الأخيرة التي دامت أكثر من أربعين عاماً بهزيمة أشد هولاً في السهل المجري في معركة
(موهاكز في 12 آب _ أغسطس عام 1687 م) ذلك السهل الذي كان الجنود الانكشارية قد خلدوا فيه نصرهم الكبير قبل 160 عاماً. ولكن ليست الذكريات ولا الأرض تمنح نصراً أو هزيمة، وإنما تغيير مابالنفوس!! (سنة الله التي قد خلت في عباده). حيث تم عزل الخليفة بعد ذلك ليموت في عام 1687م عن عمر يبلغ 53 عاماً قهرا ً وغماً، وليعين من بعده أخوه السطان (سليمان خان الثاني).

ظروف صعود أوربا الفكري
كانت هزيمة القوة العظمى العثمانية ذات نكبة مزدوجة فهي عجلت بالدولة العثمانية باتجاه التآكل والتحلل والتفسخ إلى جثة الميت آخر الأمر ليعلن أتاتورك الموت في نعوة عامة تاريخية. كما أعلنها جورباتشوف عن إمبراطورية كارل ماركس وستالين ولينين. وفي نفس العام الذي مات فيه السلطان محمد خان الرابع عام 1687م كان (اسحق نيوتن) يكتب فيه كتابه الرائع (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) هل هذا له أدنى دلالة في إلقاء ضوء على الأحداث التاريخية وتفسير ماحدث؟؟...
لم يكن كتاب (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) سوى القفزة النوعية في تاريخ العقل الإنساني عندما يبدأ الدخول في مرحلة انعطافية جديدة في تفسير العالم الذي يحيط به، فالكتاب كان إذاً المدخل الجديد لفهم عالم جديد. وبالطبع لم يتفطن المسلمون الأتراك _ فضلاً عن المسلمين التابعين لهم ذلك أن الأتراك العثمانيين كانوا يمثلون الطليعة والقيادة والخلافة للأمة الإسلامية آنذاك _ لهذا التحول النوعي الذي يجري في العالم، من هنا كان قولنا أن التفوق العربي في شبه الجزيرة الايبرية كان تفوقاً حضارياً، وكان اقتحام العثمانيين عسكرياً بالدرجة الأولى.
ما الذي كان يحدث آنذاك في أوربا؟؟
كان اسحق نيوتن يضع الموشور الزجاجي أمام الضوء ليرى تحلل أطياف الألوان السبعة للضوء الأبيض، كان يقوم بتطوير علم (التكامل والتفاضل)، توصل إلى قانون (الجاذبية) بين عامي 1664 و1666 م، كان يضع كتابه عن علم (البصريات) ويفسر الضوء على أنه جسيمات، وفي عام 1687م التي ذكرناها كان يقوم بتطبيق قانون الجاذبية على حركة الأجرام السماوية وسقوط الأجسام على الأرض ثم ليطور علم الديناميكا (بما في ذلك القوانين الثلاثة في الديناميكا المعروفة التي تبدأ بقانون قصور المادة وتنتهي بقانون كل فعل له رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه) ثم ليطور بعدها قوانين ميكانيكا السوائل.

الذهول الخفي عن تبدل أحوال الأمم
هذا هو الفرق بين الحقل الذي كان تعيشه أوربا في ذلك الوقت، والمناخ الذي كان يعيشه العالم الإسلامي آنذاك، كان هناك شيء جديد يتفتح في أوربا ونور عقلي يتألق، بينما كان الظلام بدأ في الإطباق على العالم الإسلامي على النحو المأساوي الذي انتبه إليه ابن خلدون في المقدمة حينما كتب يقول أولاً في الصفحة (28) عن التحولات الرهيبة التي تحدث ولا يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة: (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر. إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده.
وعندما يتحدث عن أفول شمس الحضارة الإسلامية يعبر بالشكل التالي إنه يدلي بشهادة العالم، ولا يتبجح أو يحاول إخفاء المرض، بل أنه ينظِّر بتحليق كوني مدهش (ص 33):
(هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص ظلها، وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث).

كيف بدأ الخلق ـ علم الجذور
حتى نعرف أين يقف العلم اليوم لابد من معرفة بداياته، أو ما يسمى علم الجينالوجيا (GENEALOGY) أو ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكيه) بفكرة (حفريات المعرفة)، أو على ما جاء في الآية القرآنية: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) والتي اتخذناها افتتاحية للأبحاث الحالية.
عندما كانت بدايات البذور العلمية تزرع في التربة الغربية. عندما بدأ النهم الغربي للاستفادة من العلم، عندما بدأ العقل ينبض بالحياة، عندما أشرقت أنوار حرية التفكير العلمي، في وهج النار التي كانت تحرق جسد جيوردانو برونو في فبرايرـ شباط من عام 1600م. كان بعض النابهين يشيرون إلى السلطان العثماني بالتنبه الى يحدث في الغرب كان جوابه (إن سلطان المسلمين لا يدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً)؟؟!!.
بالطبع كان بإمكان سلطان المسلمين أن يجنب أحفاده الأتراك اليوم أن لا يدخلهم بلاد الكفار متسولين عاجزين تابعين مكروهين غير محترمين كالأيتام في مأدبة اللئام. لو انتبه للفرصة التاريخية والمناخ العقلي الذي ينمو ويترعرع في التربة الغربية. ولكن هل الأمر بهذه البساطة؟؟ إن ابن خلدون يعلمنا أن الدولة إذا نزل بها الهرم فإنه لا يرتفع، بل إن بعض المحللين التاريخين يرون أن نجاة أوربا من سيف السلطان بيازيد الثاني الذي كان يهيئ حملة بنصف مليون جند لاجتياح أوربا إلا أنها هوجمت على يد تيمورلنك الأعرج الذي حطم هذه القوة المتأهبة في معركة أنقرة في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي (وقعت بتاريخ 20 يوليو تموز عام 1402م الموافق 19 ذي الحجة من عام 804 هـ) في ما يشبه (العمى التاريخي) على حد قول البعض، باعتبار أن كلا القوتين تركيتان أسلاميتان؟! لشعورهم أن شفق المغيب يغلف الحضارة الإسلامية التي طوقتها يد القدر التي لن تنفك عنها. إن سقوط فيينا في يوم 12 أيلول سبتمبر من عام 1683م وانسياح الأتراك في أوربا ربما عضَّل ولادة الحضارة العالمية الجديدة، حيث سيغلف جو الانكماش الفكري والجمود العقلي كل العبقريات التي كانت تولد في ذلك الحين من أمثال نيوتن ودافنشي وليوناردو وجيوردانو برونو. وانتهاءً بآينشتاين وستيفن هوكنج وهايزنبرغ واوتوهان وماكس بلانك ونيلز بور وسواهم العشرات الذين كانوا البناة الفعليين للحضارة الإنسانية الحديثة.

معنى ارتطام قوتين إسلاميتين؟
جاء في كتاب وجهة العالم الإسلامي لمؤلفه المفكر الجزائري مالك بن نبي ما يلي ص (200 - 203): (لقد قام تيمورلنك في الواقع بعمل لم يكن يستطيع إدراكه حتى بعد انتهائه منه، لأن مغزاه التاريخي الحق لايمكن أن يظهر إلا بعد عدة قرون. إن مسألة كهذه قد تتركنا مشدوهين بحجة أنها ذات طابع ميتافيزيقي، ولكنا لكي نعطي للأحداث تفسيراً متكاملاً يتفق مع مضمونها كله يجب ألا نحبس تصورنا لها في ضوء العلاقات الناتجة عن الأسباب، بل ينبغي أن نتصور الأحداث في غايتها التي انتهت إليها في التاريخ، ومن هذا الجانب قد يلزمنا أن نقلب المنهج التاريخي: فنرى الظواهر في توقعها بدلاً من أن نراها في ماضيها، ونعالجها في نتائجها لا في مباديها، فلكي نفهم ملحمة تيمورلنك ينبغي _ مثلاً ـ أن نسأل أنفسنا: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أتيح لطغطاميش أن يحتل موسكو، ومن بعدها وارسو..؟ ولو قدر لبايزيد أن ينصب رايته على أطلال فيينا، ثم على أطلال برلين..؟ لو حدث هذا لأذعنت أوربا حتماً لصولجان الإسلام الزمني المنتصر، ولكن ألا يدفعنا هذا إلى أن نرى توقعاً مختلفاً تمام الاختلاف عما حدث فعلاً كان سيحدث في التاريخ..؟ كانت النهضة الأوربية التي مازالت في ضمير المقادير ستنصهر في (النهضة التيمورية) ولكن هاتين النهضتين ـ على الرغم من عظمهما ـ كانتا مختلفتين، فلم يكن مغزاهما التاريخي واحداً، فلقد كانت الأولى فجراً يفيض على عبقريات جاليلو وديكارت وغيرهما، بينما كانت الأخرى شفقاً يغلف الحضارة الإسلامية لحظة أفولها. كانت إحداهما بداية نظام جديد، وكانت الأخرى نهاية نظام دارس، وما كان شيء في الأرض يستطيع أن يدفع عن العالم الليل الذي أخذ يبسط سلطانه آنئذ على البلاد الإسلامية في هدوء، فلو أن تيمورلنك كان قد اتبع دوافعه الشخصية لما استطاع شيء أن يحول دون نهاية الحضارة الإنسانية. فهناك حسب تعبير إقبال (خطة للمجموع) هي التي تكشف عن اتجاه التاريخ.
لماذا حال تيمورلنك دون قيام بيازيد وطغطاميتش بنشر الإسلام في قلب أوربا..؟
والجواب لكي تتابع أوربا المسيحية جهدها الحضاري الذي لم يكن العالم الإسلامي بقادر عليه منذ القرن الرابع عشر، حيث كان في نهاية رمقه، فملحمة الإمبراطور التتري تجلو غاية التاريخ، إذ كانت نتيجتها متطابقة مع استمرار سير الحضارة ودوامها، كيما تتعاقب دوراتها، ويتم الكشف الخالد عن العبقريات التي تتناوب على طريق التقدم).
(فإن سيف تيمورلنك هو الذي شق الطريق أمام الحضارة الغربية الوليدة وسط أخطار الغروب التي كانت تخيم على العالم الإسلامي، فهل يمكن في ظروف كهذه أن نتحدث عن نوع من (العمى)؟ وهل لايمكن أن نرى في ذلك أمارة على نوع من التجلي العلوي وراء تصرفات تيمورلنك؟؟) اهـ.

رؤية التاريخ بشكل ديناميكي
لابد من الذهاب إلى بطن التاريخ لنقرأ تاريخ العلم ليس مجزأ ميتاً بل مرتبطاً بالأحداث الكونية العظمى، فالحياة تأبى أن تمشي إلا كياناً حياً مترابطاً.
علينا أن نتمتع بعقلية مزدوجة واحدة على (التراث) والأخرى على (المعاصرة).
إننا يجب ان نرسخ قاعدة (إذا لم نعرف نحن أين فلا يمكن التوجه إلى أين؟)
أينما كنتَ مالم تُحدد الإحداثيات فلا يمكنك أن تتوجه للمكان الجديد. ونحن مالم نحيط بالتطورات التي حدثت وبأحدث المعلومات.
مالم ندرك إضافات المعرفة الإنسانية وذيولها الفلسفية فلا يمكن أن نساهم فضلاً عن التفوق وتقديم الجديد.
إن القرآن نسخ (العقلية الآبائية) وهو الذي طبقه رواد البحث العلمي في الغرب (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).
إن العقلية الإبراهيمية هي تلك العقلية الفذة التي تخاطب: (قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) إن عقلية من هذا النوع وفي هذا الشكل من التحرر العقلي لم تستطع حتى النار من التأثير فيها (قلنا يا نار كوني بردا ً وسلاماً على إبراهيم).

خلفية انهيار الفكر الآبائي في أوربا
كانت الصفعة الأولى للفكر التقليدي الآبائي هي محاولة كوبرنيكوس فهم الكون على نموذج جديد، وبذلك خطى العلم خطوته الجريئة الأولى.
ومن الغريب أن نموذج الكون الذي كانت الكنيسة قد تبنته من العالم اليوناني القديم (بطليموس) لا يوجد له نص واضح في العهد القديم أو الجديد، كل ما في الأمر أنه يسند تأويلات معينة للنص عندهم، وتفعل الكنيسة الآن نفس الغلطة مع التطور العلمي الجديد. ولم تستفد من درس التاريخ، فهي قد تبنت الآن نظرية (الانفجار العظيم) (BIG BANG THEORY) التي سوف نخصص لها مقالة كاملة لأهميتها العلمية والفلسفية، وهي مازالت في طور النظرية.
وكانت الصفعة الرائعة الثانية للعقلية (الآبائية) هي التي جاءت من طاولة (أوتو هان العالم الكيميائي الألماني) (OTTO HAHN) المتواضعة حيث أمكن التخلص من التراث اليوناني ومن مسلمة (الآتوم) ومعناها اليوناني الجزء الذي لايتجزأ (ATOM)، حين أمكن شطر الذرة والدخول إلى العالم الفيزيائي الجديد ثم الانتقال منه إلى الفيزياء دون الذرية وبناء العلم الجديد (ميكانيكا الكم) ثم توليد قانون (الارتياب) منه في مستوى العالم الصغير.
والآن يكرر العلم نفس الشيء حين يوجه الضربة القاضية للفيزياء التقليدية الكلاسيكية تلك التي دشنها نيوتن وعصر نيوتن من عقول العشرات من العلماء الذين دشنوا العلم التجريبي، من أمثال بيكون وغاليليه وديكارت وليبنتز وباسكال وتوريشيلي وافوكادرو وكبلر. حيث يبنى صرح الفيزياء اليوم على النسبية العامة التي أطلقت علم الكوسمولوجيا (COSMOLOGY) الحديث، وميكانيكا الكم (QUANTUM THEORY) التي أطلق ثورة الالكترونيات. بل إن أعظم جهد علمي وأكبر تحدي يواجه العلماء هو في محاولة دمج النسبية العامة مع ميكانيكا الكم بحيث يمكن الخروج بنظرية توحيدية لفهم الكون ذي القوة أربعين أي الصعود للأعلى عشرة قوة 24 والنزول إلى الأسفل عشرة قوة 16 (10 مضروبة في 40) وهي حواف الكون الأصغر (MICROCOSMOS) والكون الأكبر (MACROCOSMMOS) الذي نستطيع معرفته في الوقت الراهن. حيث تم الكشف عن مائة مليار مجرة (GALAXY) من أمثال مجرة الطريق الحليبي (MILK WAY) التي نعيش فيها والتي تضم بدورها حوالي مائة مليار نجم مشع مثل الشمس التي تمدنا بالضوء والدفء منذ ما يزيد عن خمسة مليارات سنة ومرشح لها أن تعيش بنفس الكمية من الزمن، مع العلم أن الحياة الإنسانية الفعلية ممثلة في الثورة الزراعية لم تبدأ إلا قبل عشرة آلاف سنة. فماذا ينتظر الإنسان بعد عشرة آلاف سنة يا ترى؟

حوار الله والملائكة
لقد حصل حوار في القرآن بين الله والملائكة حيث رأت الملائكة في هذا الكائن أنه مجرم قاتل مدمر مفسد!! (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فالإنسان كائن لا ينتظره مستقبل! بالطبع رأت الملائكة في الإنسان ما رآه موسى في عمل الرجل الصالح المحكي عن قصصه العجائبية ومغامراته اللامعقولة، حين قفز موسى مخالفا ً كل شروط اللعبة: إلى أين أنت ذاهب ما الذي تفعله؟ مع أن قواعد اللعبة واتفاق الرحلة كانت سكوت فلا سؤال، وتأمل فلا اعتراض، وثالثاً: أنا الذي سأشرح كل شيء لك لاحقاً، إلا أن الواقع أكبر أمام ما يحدث فهو حيناً يثقب
(يفسد) السفينة التي يبحر فيها الناس ويعرضهم للغرق؟؟!!.
وبعد حين يقوم بقتل طفل ٍ لا ذنب له ظاهرياً، فكيف يمكن لموسى أن يستوعب البانوراما الكونية كلها ليدرك أن حكمة هائلة خلف هذا المنظر المرعب، وأن صلاحاً كبيرا ً خلف هذا الفساد الظاهري (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)؟!
لذا كان جواب الله للملائكة أنه عنده من العلم عن طبيعة هذا الكائن غير المنظر الخارجي له، والعبث الصبياني، والإفساد غير المبرر، والقتل النافي للحياة، لأن هناك نضجاً ينتظره، وكمالات في طريق رحلة الصعود...
إني أعلم مالا تعلمون... ثلاث كلمات لا أكثر تحمل اللغز الإنساني.