إن أعظم تحدي يواجه الإنسان ليس الطبيعة التي تحيطه، بل هي في علاقته بأخيه الإنسان فليس هناك شيء يهدد الإنسان أكثر من أخيه الإنسان الذي يعيش معه ويسكن جنبه ويشاركه المجتمع.
إن الطبيعة جميلة ورائعة ولا تخيف، وقد تكيف الإنسان معها منذ ملايين السنين. لا الزلازل ولا البراكين، لا موج البحر الهائج، ولا الرياح المزمجرة، لا ثقب الأوزون ولا الباكتريا، لا الثعابين ولا الفيروسات هي مصدر قلق وحزن وخطر مثل الإنسان لأخيه الإنسان. فالإنسان يفتك بالإنسان بأشرس من أنياب الذئاب وعض الأفاعي ولدغ العقارب، فهذا المخلوق الضعيف الهش الطري ينسف بالقذائف ويحرق باللهب ويمزق بالرصاص ويقطع بأنصال الحديد التي لا تعرف الصدأ.
ويقتل الإنسان أخاه الإنسان ليس من أجل التغذي بلحمه كما تفعل الحيوانات، بل للحقد الذي انفجر في الصدر، والكراهية التي استولت على منافذ الفهم، فلم ير إلا الدم حلاً للمشكلة وكان إلغاء الآخر هو أفضل الحلول وأسرعها.
لذا أخطأت الداروينية الحديثة حينما أرادت نقل قانون البقاء للأصلح وتطبيقه على (النوع الإنساني) حيث يصبح الأصلح هنا هو السيء مريض النفس، الذي لا يستطيع أن يقيم علاقة إنسانية (سلمية) مع أخيه الإنسان. مع هذا فإن الإنسان لا ينبت وينمو، بل ولا يصبح الإنسان إنساناً إلا من خلال تكوينه وصياغته ضمن مجتمع، فالإنسان يمثل معادلتين بيولوجية وثقافية. هذه هي العقدة الجدلية التي تنتظر الحل: إن يرقى الإنسان بالمجتمع ويرقى المجتمع بالإنسان. أن يخلص الإنسان للمجتمع ويحافظ المجتمع على الفرد. أن يحمي الفرد المجتمع من القوارض الاجتماعية وأن يسبغ المجتمع أمنه على الفرد. أن يعتز الفرد بالمجتمع الذي ينتمي إليه ويتألق المجتمع بالدرر الفردية التي تشكل تركيبه. أن يصح الفرد بصلته بالمجتمع ويتعافى المجتمع بأفراد نظيفين. أن يتحول المجتمع إلى ساحة تعاون وإيثار وأن يحب الإنسان أخاه الإنسان. أن لا يشعر الفرد بالقرف والكره من محيطه وأن ينشط المجتمع بنشاط الأفراد. أن يتصرف الفرد من خلال الشعور بالمسئولية وحس الانتماء والمبادرة الفردية في الدفاع عن المجتمع وحمايته والموت دونه وأن يشجع المجتمع الأفكار الجديدة والمبادرات المخلصة وأن لا يقتلها في مهدها ويخنقها قبل أن ترى النور. هذا الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان لا يمكن تحويله أو إلغاؤه إلا بالسلام والسلام هو رصيد داخلي. فالحروب تنشأ في الرؤوس قبل ميادين القتال.
وحتى يصل الإنسان إلى علاقة السلام لا بد له أولاً من الوصول إلى حالة السلام داخل نفسه، وإنهاء حالة الجدل الداخلية هذه للوصول إلى السلام الداخلي هو أعظم تحدي يواجه النوع الإنساني.
عندما كنت صغيراً ما زالت ذكرى منظر يروعني لرجل يضرب امرأته ضرباً مبرحاً بالعصا وهي تستغيث وما من مغيث، وكان سؤال يلح علي دون أن أجد جواباً واضحاً له أمام مناظر الظلم الإنساني: لماذا لا ينسحب الفرد من المجتمع إلى غابة أو مكان ناءٍ سحيق، كي يخلص الإنسان من كل هذه المناظر المؤلمة والمرعبة؟؟
ولكن هل يستطيع الإنسان حقاً أن يعيش لوحده في الغابة على الشكل الذي زينته قصة (حي بن يقظان) أو (روبنسون كزوزو) أو مسلسل الأطفال (ماوكلي- الطفل الذئب)!!
لقد اكتشفت ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى أفكار بان خلدون في مقدمته الشهيرة، ثم الأبحاث (الانثروبولوجية) التي اطلعت عليها فيما بعد، بحيث شكلت لي ما يشبه الانقلاب الفكري في النظر إلى علاقة (الفرد-المجتمع)، ووصلت إلى الفكرة المبللورة التي تقول: إن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، فالإنسان في معادلته البيولوجية يأخذ الجينات من والديه أما الثقافة فهذه يمتصها من المجتمع الذي يختزل له تجارب الجنس البشري ليحقنها إياه في سنوات عمره الأولى، فيقفز ومن خلال هذه الخبرة ليكتسب مقعده الجديد في سلم الوجود حيث يمثل قمة ما أبدعته الحياة.
في عام 1799م قبل أن يختم القرن الثامن عشر بعام واحد وقعت حادثة مثيرة في فرنسا، أحدثت ضجة بين رجال الدين والفلاسفة، الأطباء والمربين، علماء الأخلاق والرومانسيين.
وخلاصة هذه الحادثة هي الإمساك بصبي من غابة أفيرون (1) يبلغ من العمر حوالي 12 عاماً، عليه سمات الوحشية عارياً قذراً له سلوك الحيوان، كريه الرائحة يثير الإشمئزاز، يقوم بحركات تشبه القرود وتنتفض عضلاته بتقلصات شرسة، يتأمل الناس من حوله بنظرات عدوانية لا تعرف الرحمة ويعض من يحاول الاقتراب منه، واحتاروا في أمره من أين جاء؟ هل ألقي في الغابة منذ صغره فعاش بين الحيوانات؟ وإذا كان كذلك فكيف عاش ومن الذي أطعمه، وأي حيوان أشفق عليه فأرضعه؟؟ قصته كانت ومازالت لغزاً متروكاً للتاريخ. إلا أن الإجماع كان أنه في أصله إنسان ولكنه تربى في الغابة وصمد للمناخ الذي لا يرحم، وأكدت هذا دراسات انثروبولوجية لاحقة (2) كان هذا الغلام للبعض شاهداً على صحة ما ذهب إليه المفكر جان جاك روسو عن مزايا (المتوحش النبيل) والدعوة إلى العودة إلى الطبيعة، وكان الطفل قوي البنية لا يعرف المرض عارياً لا يعرف البرد!! ورأى آخرون مدى الدرك الذي يمكن أن ينحط إليه ابن آدم، في حين رأى فريق ثالث والرعب يملأ قلوبهم طباع الإنسان البهيمة عارية من كل مجاملة أو تشذيب وبدون أي مساحيق حضارية تجميلية. أما رجال الدين الفرنسيون فرأوا تجلي نعمة الله على ابن آدم بتربيته في المجتمع.
اهتم دكتور فرنسي هو كاسبار إيتار بهذه الظاهرة وسمى هذا الغلام فيكتور وأراد إعادته إلى الحظيرة الإنسانية، وقام في هذا الصدد بإجراء تجارب واسعة في الحقل الإنساني، خاصة ولم يكن هناك سابقة لهذه الظاهرة، وسجل الدكتور إيتار ملاحظاته في النهاية، حيث استطاع إيصال فيكتور (صبي أفيرون الوحشي) إلى الوقوف بشكل أقرب إلى الانتصاب، ولبس الثياب وشيء من السلوك الإنساني، أما اللغة فقد بدأ يفهم شيئاً من اللغة الفرنسية، إلا أنه لم يستطع نطقها مطلقاً، مما أوصل إلى تسجيل هذه الظاهرة المريعة المأساوية وهي: إن الإنسان إذا تم تلقينه اللغة في سنوات عمره الأولى تعلمها، بل وتشبه الدوس (DOS) في الكمبيوتر أي يمكن تعلم أي لغة أخرى بعد ذلك، وإذا عزل الفرد إجتماعياً خسر تعلم اللغة، بل والقدرة على تعلم أي لغة لاحقة بالكلية وإلى الأبد، وهذا يعني بكلمة ثانية شطب الإنسان من قائمة البعد الإجتماعي.
كتب الدكتور إيتار في سجل ملاحظاته التالي: يأتي الإنسان إلى هذه الكرة الأرضية بدون قوة جسدية وبدون أفكار تولد معه، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الأساسية التي ترفعه إلى قمة المملكة الحيوانية، ولا يستطيع الوصول إلى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة إلا إذا كان وسط مجتمع، وبدون حضارة يكون الإنسان واحداً من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاءأ (3).
هذه القصة التي تؤكد (بناء) المجتمع للإنسان كي يصبح (إنساناً) وضرورة نمة الفرد ضمن مجتمع بشكل كامل ونهائي ومطلق وفي الطفولة، وهي حقيقة انتبه لها ابن خلدون في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي 779هـ وبناها على أمرين حيويين (تأمين الغذاء) و(حماية الفرد) (4). والأمر الأول أوضح لأن رغيف الخبز حتى تتم صناعته يحتاج إلى مسلسل لا ينتهي من الصناعات حتى يتم إنجازه ويبرز إلى الوجود ليتمتع بأكله الإنسان (حرث الأرض يحتاج إلى محراث مكون من قطعة الحديد والخشبة والحبل والحيوان المستأنس- الحديد يحتاج إلى صناعة الحدادة بالكامل والخشبة تحتاج إلى صناعة نجارة والحبل يحتاج إلى صناعة نسيجية- والحديد يحتاج إلى صناعات جيولوجية لجلب المادة الخام وهي بدورها تحتاج إلى صناعات متممة وهكذا...).
من هنا نفهم سطحية وسذاجة وعدم واقعية قصص من أمثال (حي بن يقظان) أو قصة الأطفال في الفيلم الكرتوني (ماوكلي)!!!
وأشد سذاجة منها الأفلام الأمريكية في أفلام طرزان والشمبانزي شيتا التي خلبت لبنا ونحن صغار، وقصة روبنسون كروزو تمثل حالة الإنسان الذي تجاوز التعلم في الطفولة.
وإذا كان المجتمع الإنساني يمثل ضرورة التحول الإنساني فلماذا نشأت الحرب مثل الخطأ الكروموزومي في جينات الحضارة الأولية منذ لحظة تكونها الأولى مثل مرض الأيدز الحالي (5)!!
لماذا كانت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تقوم على العنف، بل لماذا قامت الدول على أساس العنف، حيث يمثل القانون قوة الإكراه الملزمة، الذي تقوم قوة العنف المادي في النهاية بتنفيذه في حال تطلب الأمر ذلك؟ لماذا كانت علاقات الدول بعضها ببعض تقوم على توازن القوى؟
بل لماذا استفحلت الحرب واعتبرها فون كلاوسفيتز (6) منظر الحرب الألماني أنها :استمرار السياسة بوسائل أخرى من أجل كسر إرادة الخصم وتطويعها؟
بل لماذا انطلق شوط القوة إلى درجة أن امتلك الإنسان في النهاية وقود المجرات والسوبرنوفا (7) القوة النووية؟ لقد شكلت دورات الحرب في التاريخ نظماً مريعاً مرعباً، كل جولة فيه كانت ألعن وأفظع من التي قبلها (8) أعنف في وقعها وأشد تدميراً في آثارها!
سوف أحاول في رسم بانوراما ذات خمس زوايا لإبقاء الضوء على أعظم تحدي يواجه الجنس البشري والذي إن لم يفلح في إلغائه فسوف يلغي هو الإنسان!! (بيولوجية - انثربولوجية - جنسية - سيكولوجية - تكنولوجية).
الرؤية البيولوجية: يتكون الجهاز العصبي المركزي عند الإنسان من ثلاث مستويات، الدماغ السفلي ويشترك فيه مع الزواحف وهي المنطقة التي تنظم البلع والتنفس والعطاس وضربات القلب والتعرق وسواها (9) ومراكز الانفعالات والجنس. والمخيخ الذي يحفظ على الإنسان توازنه وتشترك فيه الطيور، ثم الدماغ العلوي الذي تميز به الإنسان بشكل خاص ولا تشترك الثدييات العليا معه إلا في قسم ضئيل وغير نوعي، وهكذا فمع أن الغوريلا يزن ثلاث أضعاف الإنسان فإن دماغ الغوريلا لا يزن ثلث أصغر دماغ إنساني الذي يصل ف المتوسط إلى حوالي 1,5كغ.
وتمثل الدوافع البيولوجية وثورات الغضب والانفعال التعبيرات الدماغية السفلية غير المنضبطة بما فيها الشهوة، والعنف هو انقلاب ينقلب مخطط الإنسان بانقلاب الدماغ العلوي ليصبح تحت سيطرة الدماغ السفلي، حيث تضيع الحكمة تحت ضباب الشهوة وإعصار الغضب.
الرؤية الأنثروبولوجية: تعيش خلايا الجسم في حالة تناغم وتناسق وكأنها انسياب أعذب ألحان الوجود، وأروع سيمفونيات الخلق وهو ما عبر عنه القرآن بـ(التسبيح)(10) مع أنها بأعداد مخيفة يكفي أن نعرف أن قشرة الدماغ لوحدها تملك حوالي عشرين ألف مليون (20مليار) خلية عصبية كل واحدة منها تتمتع بأكثر من ألف ارتباط عصبي، بحيث تشكل شبكة ارتباط أعظم من الكون الذي يحيط بنا (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(11) مستندة إلى 100 مائة مليار خلية دبقية عصبية، وفي الدوران تسبح في كل واحد ملمتر مكعب خمسة ملايين من الكريات الحمر؛ أي في كل الدوران البالغ خمسة ليترات حوالي 25 مليون مليون كرية حمراء، تشكل فيما لو صففت بجنب بعضها بعضاً طولاً يغلف الكرة الأرضية 6-7 مرات!! يضاف إليها 25 ألف مليون،25مليار كرية بيضاء للمناعة، وفي كل كلية مليون وحدة تصفية النفرون هي أعظم من أكبر محطة تحلية لمياه البحر. وتبلغ أنابيب مجموعات النفرون في الطول حوالي 50كلم وتصفي كل 24 ساعة 1800ليتر من الدم يتم طرح 180 ليتر من الماء منه ليعاد امتصاص كله تقريباً إلا 1,5ليتر من السموم يطرح خارجاً وهو المعروف بالبول.(12)
هذا التوافق قديم في تاريخه عريق في أصالته يمتد إلى مئات الملايين من السنين، وبدأت تتناسق وتتناغم الكريات الحمر مع البيض في أنابيب الدم، الماء مع عروق اللمف، الشوارد المعدنية مع امتدادات الأعصاب، الأنسولين مع مخازن السكر، الحموضة مع القلوية، مرونة الأوعية مع توتر العضلات مع قساوة العظام وقرار الرحم وهكذا. في حين أن الحياة الإنسانية الاجتماعية لا تعد مع عمر البيولوجيا شيئاً، تماماً كما هو الحال بين عمر البيولوجيا مع عمر الأرض وبدء الحياة عليها. فإذا كان عمر الأرض حوالي 4,5 مليار سنة، فإن عمر الإنسان المنتصب لا يزيد عن 3,2مليون سنة، بحيث أننا إذا تصورنا كتاباً بحجم ألف صفحة، فإن بزوغ فجر الحياة الإنسانية يبدأ في الظهور في الصفحة الأخيرة من هذا المجلد الضخم، أما الحياة الاجتماعية فهي الحرف الأخير من هذه الصفحة الأخيرة!! ولا غرابة لأن الثورة الزراعية بدأت قبل 9000سنة، والحضارة انطلقت قبل ستة آلاف سنة، والكتابة اخترعت قبل خمسة آلاف سنة، وهذا البدء قصير العمر مقابل ثبات الزمن الرهيب من الناحية الخلوية البيولوجية يجعلنا نستوعب فهم تعاون خلايا الجسم بدون حروب إلا في حالة واحدة تشبه الدمار النووي وهي حالة السرطان!! مقابل حروب بني الإنسان التي تفسر هذا الاضطراب والتشوش وعدم الانتظام وانعدام التناسق بين نسيج خلايا الجنس البشري الكبير.
الرؤية الجنسية: وهو دور المرأة حيث مثلت المرأة من جهة خزاناً للحياة لا ينضب سواء في الحمل والإنجاب، في العناية والتربية، في الحب والدفء الإنساني، أو في النعومة والانسحاب من مظاهر العنف، تلك التي يتميز بها الذكور، كذلك عدم تعرضها للقتل في ساحات المعارك تلك التي يتهارش فيها الذكور ويذبحون بعضهم بعضاً فيها. وفي الجانب الآخر فهناك تأكيد على دور المرأة في أنها هي التي أدخلت الجنس البشري مرحلة الثورة الزراعية، حينما استنبتت الزرع في الوقت الذي كان الذكر يجوب السهوب خلف الصيد وجمع الثمار في الوقت التي كانت هي تعتني بالصغار.
إلا أن الذي حث هو أن الذكور امتلكوا قيادة الجنس البشري، وهذا أدى إلى نتيجة على غاية من الأهمية وهي استحداث الجيوش، التي هي مؤسسات ذكورية في الأصل، والتي ارتبطت بهيمنة الذكر على مصير النوع الإنساني(13) والجيوش هي مواد خام الحروب، حيث يقتل فيها الذكور مرة أخرى، أولئك الذين استحدثوها وصنعوها ورتبوها و(يداك أوكتا وفوك نفخ)!!
الرؤية التكنولوجية: منذ تدشين أول جريمة على وجه الأرض باستعمال سلاح صغير (حجراً أو عصا) نمت مقدرة القتل مع تطوير قوة (الصدم) و(سرعة الصدم) وهكذا ارتفع (مشعر القتل) كما يسميه العسكريون من قوة (18) بالضرب بالرمح في معركة عسكرية رجلاً لرجل إلى أرقام تفوق المليون من خلال السلام النووي (14)، إلا إن النكتة التي حصلت هي شبيبة ما حصل في تعلم لغة العميان لـ(برايت) فقصة عمى هذا الإنسان برايت حركت فيه التحدي ليقول إن هذه الإبرة التي كنت أسرج فيها الخيل فثقبت عيناي فأعمتها واحدة بالجرح والأخرى بالالتهاب المشارك، هذه الإبرة لا بد أن فيها سر عودة النور لعيني مرة أخرى!!
الإبرة لم تجعله يبصر مباشرة ولكن الإبرة بحفرها على الخشب هي التي منحته اختراع حروف القراءة للعميان لكي يكسبوا قدرة الإتصال بالعالم من جديد.
هذا السلاح اللعين وتطويره الذي فتك بالإنسان هو نفسه الذي قاد في النهاية إلى إبطاله، فالقوة أبطلت القوة، وبلوغ سقف القوة من خلال السلاح النووي حول السلاح النووي في النهاية إلى سلاح ردع وليس استخدام!!
الرؤية السيكولوجية: كان الجانب التربوي للإنسان حتى الآن في معظمه غير سلامي وكانت مهمة الأديان هي التبشير بالإنسان الجديد، ووضع كوابح للعنف عنده، ورد الإنسان إلى العمق الأساسي لوجوده. توجه الدين ومن خلال التربية الميدانية ومنها الصوم التي هي تعبير عن ضبط النفس والوقوف عند الحدود والكف عن المحارم وسفك الدم. الصوم يشكل أداة مهمة في تنمية دوافع الردع الداخلية في محاولة لإيجاد حالة السلام الداخلية عند الإنسان، الذي إن تحقق شع منه السلام الحقيقي والكامل والدائم على الكون.
الدين يريد منح الإنسان الكرامة الجديدة بعد كرامته الأولى من خلال الصياغة الاجتماعية للإنسان باستحداثه إنساناً؛ بالصقل الجديد والتربية الحديثة أن يقوم بعملية جراحية كبرى داخلية لاكتشاف ينابيع الأخلاق الأساسية الممثلة بالحكمة والشجاعة والعفة والتي يمثل كل منها نقطة وسط بين هوتين، وهكذا فالسخاء هو وسط بين البخل والتبذير والشجاعة وسط بين التهور والجبن. يسعى الدين إلى إرساء المثلث الأخلاقي بين أمهات الأخلاق الأساسية التي أشرنا إليها من أجل الوصول بالنفس إلى حالة العدل التي هي القانون الأسمى في الوجود والذي قامت به السموات والأرض.
في اللحظة التي نمسك فيها بالبوصلة الداخلية وهي تعمل نظيفة براقة، والعدل الداخلي قد تأسس، تدخل النفس الإنسانية مرحلة النفس المطمئنة، في عالم السعادة والتي أبرز صفاتها السلام، السلام مع النفس والكون المحيط والنجم الذي نرى، مع النبات والطير، مع الجبل والحجر، مع النمل والنحل، مع الإنسان الأخ والمجتمع الأب (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين)(15).
من جنة السعادة ومن كنز النفس المطمئنة يشع نور السلام إلى العالم كله، ولا غرابة فالله أحد أسمائه السلام والجنة هي دار السلام وتحية أهل الجنة هي السلام، والإسلام هو السلام الشامل والدائم طالما كان مصدره الأبدية، التي طالما تاقت إليها نفس فيلسوف القرن الثامن عشر (إيمانويل كانت) فسطرت يمينه كتابه (نحو السلام الشامل)(16).
المراجع والهوامش:
(1)راجع بالتفصيل كتاب (بنو الإنسان)-تأليف بيتر فارب-ترجمة زهير الكرمي- سلسلة عالم المعرفة-الكويت- تموز يوليو 1983م- رمضان شوال 1403هـ.
(2)نفس المصدر- راجع تجربة الملك الصقلي فريدريك الثاني في القرن الثالث عشر الميلادي على الأطفال (تم وضع أطفال في عزلة عن تعلم أي لغة لاكتشاف اللغة التي سوف ينطقون بها فكانت النتيجة لا لغة ولا مجتمع والموت لمعظمهم!!) ص12.
(3)نفس المصدر السابق ص 11.
(4)راجع مقدمة ابن خلدون ص 41-42 عن ضرورة المجتمع من الفصل الأول في العمران البشري: الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن ذلك بقولهم الإنسان مدني بالطبع...وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه.
(5)تحدث مرض الايدز الحالي هو في كون الفيروسات (التي هي أحماض نووية ناقصة) وأنها تسربت إلى الجينات بذلك مصنعاً لإنتاج فيروسات الايدز.
(6)راجع المصدر الألماني Vom Kriege تأليف Klauswietz سلسلة Roro.
(7)السوبرنوفا أو المستعر الأعظم حالة نجمية مع انفجار لنجم شاخ بحيث تطيح أشلاؤه في السموات مع توهج أشد من ألف شمس، ومن حطامه تتشكل نجوم الجيل الثاني، وهكذا فنظامنا الشمسي يدين في حياته لسكرات موت نجوم جيل سابق.
(8)يكفي أن أذكر معركة ستالينغراد التي قاد فيها الجنرال الألماني فون باولوس الجيش الألماني السادس الذي كان يعتبر فخر الجيوش الهتلرية (مغول الفرن العشرين) في الحرب العالمية الثانية وكان تعداده000 360 ألف جندي، بقي منهم أثناء الاستسلام 90000 ألفاً، والذين اكتحلت عيونهم بمرأى الوطن (ألمانيا فوق الجميع) كانوا خمسة آلاف فقط، والتقيت مع بعضهم أثناء وجودي في ألمانيا. راجع كتاب ويليم شيرر عن تاريخ ألمانيا الهتلرية- أربع مجلدات وهو كتاب مثير ورائع وكتبه صاحبه من آلاف الأطنان من الوثائق النازية التي وقعت في يد الحلفاء بعد هزيمة ألمانيا.
(9)يمكن مراجعة كتاب (علم الفيزيولوجيا) لشفيق البابا الذي كان يدرس تحت علم الغريزة في كلية الطب في المرحلة ما قبل السريرية جامعة دمشق.
(10)راجع في هذا الآية من سورة الإسراء آية 44: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
(11)راجع في هذا سورة الذاريات الآية 20-21: (وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون!!
(12)كتاب الطب محراب للإيمان-المؤلف-جزء ثاني-ص301.
(13)راجع في هذا البحث القيم الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي في كتابه (نحو رقي المرأة).
(14)راجع مجلة الأمن والتسلح الألمانية إصدار مؤسسة (طيف العلم) (Spektrum Der Wissenshaft Ruestung Und Sicherheit)
(15)سورة الأنبياء الآية 79.
(16)إيمانويل كانت (نحو السلام الدائم محاولة فلسفية) ترجمة نبيل الخوري- تقديم أنطوان هينين- دار صادر بيروت- كانت رؤياه عبقرية في محاولة تفهم الجذور الأولية لمشكلة العنف الإنساني، وكانت الأفكار التي طرحها في هذا الكتاب في النويات الجنينية لتكوين جمعية الأمم المتحدة حالياً التي يتفاءل المرء للمستقبل أن تكون نواة العدل للجنس البشري كله مثل حلف الفضول الذي شارك فيه محمد (ص) لنصرة المظلوم.