من الأهمية بمكان القفز فوق حواجز الكراهية، وخنادق الاستعصاءات التاريخية، أو الجمود في مربعات الزمن حيث أخطأ أجداد لنا لسنا مسئولين عن أخطائهم..
أمامنا نموذجين لمحاولة التجاوز هذه واحدة من أوربا من إيطاليا تحديدا والثانية من العالم العربي..
لنبدأ مع فظاعات الكنيسة ومحاكم التفتيش فهي دروس هامة في التجاوز التاريخي لمربعات الكراهية..
جرد الرجل من ثيابه ثم ربط لسانه وأحكم وثاقه وشد الى خازوق من الحديد فوق ركام من الحطب وأحرق حياً على مشهد من جمع غفير متعظ) هكذا وصف المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) نهاية حياة مفكر.
كان ذلك قبل أربعة قرون في عام 1600 م وفي يوم موعود من شهر فبراير القارس وقف جمهور محتشد فاغر الفم خائف، وهو يعاين مصير من سمح لعقله بالتفكير ولسانه بالتعبير. وكان رهط من قضاة محكمة التفتيش يراقبون سير العملية بدقة، وهم يشمون رائحة اللحم المشوي، وتمتليء آذانهم بأنات الانسان المحترق، يصطلون بالنار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على مايفعلون شهود، بإحراق رجل بتهمة الارتداد عن المسيحية.
كان المكان روما، وكان اليوم 17 فبراير، وكان من أصدر الحكم هيئة قضاة من محكمة التفتيش، وكان المتهم فيلسوف يقال له(جيوردانو برونو GIORDANO BRUNO ).
وفي يوم السبت 19 فبراير من عام 1600 م صدرت صحيفة (آفيزي دي روما AVVISI DI ROMA ) بهذا الخبر:
(يوم الخميس صباحاً تم إحراق راهب دومينيكاني مجرم من (نولا) حياً، الذي أحطناكم علماً عنه فيما سبق من نشرات جريدتنا، إنه هرطيق عنيد للغاية، اختلق العديد من الآراء على هواه ضد عقائدنا، وخاصة ضد مريم العذراء والقديسين. هذا الخبيث اختار بإصراره الموت الزؤام، وكان يقول أنني أموت شهيداً وأموت سعيداً ولسوف تصعد روحي من ألسنة النار علواً الى الجنة. ولكنه الآن سيعلم هل نطق بالحقيقة وأي منقلب انقلب؟)
وبعد 289 عاماً في 9 يوليو عام 1889 م أقيم نصب في نفس مكان الحرق أعطي اسم (كامبو دي فيوري CAMPO DEI FIORI) ويعني باللغة الايطالية (معسكر النار) تخليداً لحرية الفكر التي أطلقها الفيلسوف، بعد صراع مرير بين الكنيسة وحركة من أتباعه رأت فيه شهيداً للعلم وحرية الرأي. ومن الملفت للنظر أن وقائع محاكمات هذا الرجل المتعددة اختفت كما دخلت يد التزوير الى بعضها الى درجة التشكيك في إحراق الرجل، كما أشار الى ذلك الكاتب الألماني ( يوخن كيرشهوف JOCHEN KIRCHHOFF) استاذ الفلسفة في جامعة همبولدت (HUMBOLDT) في برلين في كتابه عن برونو، والوثيقة الوحيدة التي ظهرت للنور احتاجت قريب من ثلاث قرون حتى اطلع عليها الناس في عام 1889م.
كانت هذه الوثيقة تحكي زيارة جمعية (اخوان النبي يوحنا مقطوع الرأس) حيث تم إخبارهم في الساعة الثانية صباحاً أن هناك حفلة إعدام في اليوم التالي ستنفذ في رجل عاثر الحظ. وفي الساعة السادسة مساءً اجتمع نفر من رجال التلقين والاستتابة مع القسيس المعاون في كنيسة القديسة (سان اورزولا SAN ORSOLA) ثم ذهبوا الى السجن في برج (نونا NONA) وأدوا هناك الصلوات المعتادة للمحكوم بالاعدام (جيوردانو برونو ابن المتوفى جيوفاني برونو) وهو أخ منشق عن الكنيسة من (نولا) وهرطيق مكابر عنيد.
جاء في الوثيقة:
(لقد وعظه الأخوة بكل حب، وناشده بالتوبة والتبرء من آراءه اثنان من آباء الدومينيكان، واثنان من الجزويت، واثنان من الكنيسة الجديدة، وكذلك اثنان من كنيسة القديس (هيرونيموس HIERONYMUS). وأظهروا له بحماس كبير واطلاع واسع خطأه الكبير، ولكنه أصر على موقفه حتى النهاية، واستمر سادراً في حماقاته، ولوى عنقه واستكبر استكبارا، ولم يزده دعائنا الا فرارا، وأضاع رشده بآلاف الأخطاء)
نعم.. لم يلين ولا مرة واحدة.
أخيراً اقتاده حرس المحكمة الى مكان الحريق؛ فخلعوا عنه ملابسه، وأوثقوه الى عمود غليظ، وأحرقوه حياً! واثناء هذا وفي كل الوقت كان أخوتنا يرافقونه وهم يترنمون بالأناشيد الدينية، وكان رجال الاستتابة حتى الرمق الأخير يحاولون عبثاً أن يثنوه عن موقفه ويكسروا جدار عناده بدون جدوى، حتى سلَّم روحه البائسة المشؤومة الى بارئها.
احتفلت الكنيسة بعد الحريق في ذلك العام كعيد للمسيحية في انتصارها على الهراطقة وتطهير الأرض منهم، وكان حريق (برونو) استعراضاً رائعاً لجبروت الكنيسة وقسوة أحكامها ضد المرتدين، كما كان هذا الدرس المؤلم عظة وعبرة لمن تسول له نفسه الارتداد عن عقيدتها. وكان قد اجتمع خمسون من كبار الكرادلة لهذا الاحتفال البهيج بحرق (ملك الهراطقة!) الذي ساح في نصف أوربا ينشر زندقته، واجتمع معهم قطيع بشري هائل يتمتع برؤية النار تلتهم جسد هذا (المجرم) حسب تعبيرهم.
يروي شهود عيان أن علامات التعذيب كانت واضحة على برونو قبل الحريق:(كان ممتقع اللون شاحباً قد بدا عليه الهزال بسبب النزيف المتكرر، الذي تعرض له تحت آلة التعذيب الجهنمية المعروفة في ذلك العصر. كانت يداه متدليتان بدون حياة، وكانت مفاصله مخلوعة، وعندما (شبحوه) على آلة الموت كانت الآثار بادية عليه في مناطق انقلع عنها اللحم فبان العظم).
إن المرء لايحتاج الى الاغراق في التخيل لتصور هذه المسرحية المقبضة للروح والفصل المظلم والمخجل من تاريخ إجرام الكنيسة ومحاكم التفتيش.
وبعد 400 عاماً في 17 فبراير من مدخل الألفية الثالثة عام 2000 م احتشد جمع غفير هذه المرة في المكان على شكل مظاهرة لأعادة احياء ذكرى هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى يواجه الكنيسة وكل الفكر الظلامي.
إن ماحدث لم يكن واقعة فريدة شاذة في أوربا، بل كانت ظاهرة اجتماعية متكررة، يكاد لايصدقها الانسان لولا رواية التاريخ. من هنا كانت قراءة التاريخ مهمة لمعرفة تطور المجتمع الانساني، وأن عصر الظلمات العربي الحالي الذي نستحم في مستنقعه الى شحوم الآذان، ويطوقنا كالقدر المنحوس، ونحن نستقبل الألفية الثالثة، ليس جديداً في تاريخ الانسان. إن محاكم التفتيش انتقل موضعها بعكس حركة الشمس من الغرب لتتوطن في الشرق مثل انتقال الأمراض، واندثرت من المركز لكنها مازالت ناشطة في الأطراف.
لقد غربت عند الغرب شمس هذه المآسي، ولكن شمسها مازالت تسطع عندنا بأشد قوتها في دلوكها ومايزال أمامنا الطويل من مسيرة العذاب حتى نصل غسق الليل؛ فمازلنا نعيش عصر محاكم التفتيش قد احتجزنا في مربع الزمن عند العام 1420 ميلادي وليس الهجري في تخلف خمسة قرون كاملة.


الهولوكوست العربي
تلك (العتمة الباهرة)؟ إنه تعبير ساحر من الكاتب المغربي (الطاهر بن جلون) في وصفه لسجن تزمامارت. نقلاً عن (عزيز) الذي دخل حفرة مظلمة لمدة عشرين سنة. فمات من 23 شخصا ثمانية عشر في ألف ميتة بأشنع الميتات. وتصلح للدراسة الطبية ومعرفة أسرار البيولوجيا وظلمات عالم النفس. وتحت ضغط الألم قام الكاتب (بن جلون) فسطر الرواية بكلمات تدخل الإنسان الصدمة. ويذكر بما نقل (جيفري لانج) في كتابه (حتى الملائكة تسأل) عن والده حينما سأله وهو طفل هل يعتقد بالجنة والنار؟ فأجاب بعد طول سكوت أما الجنة فلم أرها ولكن يقينا توجد جهنم وفي أماكن منوعة؟ و(تزما مارت) كانت بالتأكيد من هذه الأماكن.
ولكن ما يقلب الميزان هو ما رواه (كولن ولسن) أن كل معاناة الدنيا لا تساوي لحظة من نعيم الجنة في كتابه (الإنسان وقواه الخفيةـ ص 15) نقلاً عن ديستوفسكي الذي يروي عن ذلك الملحد الذي عوقب بالسير مليار ميل فلما دخل الفردوس شهق وقال: quot;إن خمس دقائق يقضيها في الفردوس تستحق أن يسير عشرة أضعاف ما ساره بالفعلquot; ويعقب كولن ولسن فيقول: quot; إننا مفصولون عن المعنى بحائط من رصاص وفجأة يبدو وكأنه اختفى وأننا فجأة مغمورون بالمغزى اللانهائي للأشياءquot; وهذا الإحساس الصوفي يجعل أي مجهود يستحق العناء quot; إنه الإحساس بالمعنى الذي يدفع الإنسان أن يبذل الجهود اللازمة من أجل الارتقاءquot;.
وأحداث الرواية يترجم فيها بن جلون مشاعر السجين عزيز عن فترة جهنمية وصفها (محمد الرايس) بكتابه (تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم) في سجن بني خصيصاً لهم في الصحراء وفي عنبر يضم 23 شخصاً فلم يغادره إلا خمس أشخاص. وكانت الأوامر أن يموتوا أشنع ميتة وفي أطول فترة احتضار ممكنة. وهي صفحة جديدة في سجل الخزي العربي المعاصر. ونفتح الكتاب فنقرأ فصول الموت فصلا فصلا مثل أبواب جهنم السبعة.
السجين(حميد) في الزنزانة 12 كان أول الميتين ففقد عقله وبدأ يضرب رأسه بالحائط حتى مات. وهناك من مات بنوع مختلف من الجنون حيث بدأ (موح) يخاطب أمه تدريجيا ويطلب منها الطعام حتى وافته المنية. وفي الزنزانة ستة فقد (ماجد) عقله وكان يقول أولئك الذين دفنتموهم ليسوا أمواتا إنهم يتظاهرون بالموت واستعدوا للانضمام إليهم، وكان ماجد الوحيد الذي شنق نفسه بملابسه.
وكان الميت الثاني (ادريس) الذي فقد النطق والقدرة على الأكل وانغرست ركبه في صدره فكان صديقه يمضغ له الطعام ويطعمه مثل العصفور لفراخه وفي الأخير لم يعد يقدر يأكل وعندما مات عجز عن بسطه فكان كومة عظام. وفي الشتاء كان عليهم السهر حتى لا يموت أحدهم متجمدا. وكان التذكر هو العدو المترافق مع الألم والحزن فكان على أحدهم أن يتعلم إيقاف هذه الآلة بضرب الرأس بالحائط؟
وكان (كريم) في الزنزانة 15 الروزنامة فكان يحدد الساعة واليوم والسنة بدقة فلما مات في النهاية ضاعوا في بيداء الزمن.
وفي يوم ألقي القبض على صحراوي فمات متجمدا من البرد فتوزعوا ثيابه وفصَّلوا من جلبابه ثلاث بنطلونات وأربعة كلاسين وكانت أدواتهم للصناعة حلقات الحديد من المكانس فصنعوا منها سكينتين ومن أحدها أربع أبر للخياطة.
وفي حضور العقارب كانت الطريقة الوحيدة أن لا ينام الإنسان. ونظرا لأن السجين في (العتمة الباهرة) فعليه أن يعتاد على أذنيه فيصغي بانتباه شديد إلى حركة العقارب فإذا سقطت في جهة تجنبها. وكان معهم (واكرين) البربري الخبير في امتصاص سمومها في مكان اللدغ، إلا أن هذا لم ينفع مع (مصطفى) في الزنزانة 8 الذي اجتمعت عليه قبيلة من العقارب فلدغته حتى الموت رغم الاستغاثة. وجاء الجلاوزة مشرقين وكان المسكين ميتا منتفخا من اللدغات. فأودع كيس بلاستيكي ثم رمي به في حفرة وأفرغ فوقه الكلس الحار تحت مراقبة قومندار أعور قد أقسم على الله أن لا يبق منهم أحدا خدمة لسيده في القصر البعيد.
ومن أعجب من سجن كلب غضبوا عليه فحكم بالسجن خمس سنوات؟ ثم رموه في زنزانة إفرادية فلم يصمد أكثر من شهر وأصيب بالجنون ومات في بوله وبرازه وتعفنت جيفته. وفي ظل الأنظمة الطاغوتية لا ضمان للكلاب. ومنه نفهم فلسفة أصحاب الكهف الذي رافقهم كلبهم في الهرب الكبير. وآنستهم حمامة لمدة شهر فأعطوها اسم حرية. وكانت زقزقة العصفور (ثيبيبط) تعطيهم فكرة عن حركة السجن فإذا ذكروا ذلك للحرس ذهلوا واعتبروا أن لهم صلة بالجن؟
وأما (بوراس) فقد مات بانحباس البراز فأخذ اسم الموت عن الإمساك في وضع خرائي جدا؟ واخترعوا له يد خشبة من أجل نزع السدادة الغائطية ولكن يبدو أنه آذى نفسه فنزف ومات بين الدم والبراز، فلما سلَّم الروح انفلتت المصرات فغرق في برازه أخيرا وارتاح.
وأما (الصبَّان) فقد ألقي عليه القبض وكان من الحرس الخاص وكان يخبيء يده خلف ظهره فلما رآها عزيز كان العظم يبرز من الجرح وأصيب بالغانغرينا ومات محموما يهذي. ويبدو أن الصراصير استطابت رائحة الجرح فالتهمته فأـخرجوه من بين أكداس من جثث الصراصير بعد إلقاء السموم عليها.
وكانت أبشع الميتات للمدعو (لحسين) الذي تشاجر مع عزيز فاتهمه أن ابنه ليس من صلبه فجن وتحولت الكراهية إلى سم فقتلته.
وأما (عبد الكريم) الساعة الناطقة فمات بدون سابق إنذار مات بصمت بالوهن وسوء التغذية وكان قد فقد شهيته للطعام وكانت علامة سيئة وكانت بداية النهاية.
ومات الملازم أول (عبد الله) بالإسهال المتواصل وصار يتبرز في ثيابه. ومات (فلاح) مجنونا مع انحباس البول وربما من بقايا سيفيلس ولم يحدو الطير كالعادة. وكان في السجن طير يطلق صوتا يعرفونه أنه علامة موت أحدهم.
وفي النهاية مات أستاذ القرآن ذو الصوت الجهوري وسمح المجرمون لهم أن يدفنوه بكفن بخشوع. وكان يسأل عزيز سؤالا غريبا كيف يعرف الإنسان وجهه من قفاه بسبب أنه فقد حاسة اللمس في يديه فإذا مر على رأسه لا يعرف هل يمسح ناصيته أو قذاله؟ ومات بدون أن يثور على الظروف في حالة عبودية خالصة لله.
وفي نهاية الرحلة مات (محمد وعيشو) في زنزانة 1 و 17 بسعال شديد غالبا من السل ماتا متلاحقين في أسبوع واحد.
وعندما قدم لهم طعام اللحم بعد ثماني عشرة سنة كلف أن يسقط واحد من المتبقين هو (عباس) فمات بعدم تحمل الطعام محموما في هذيان. فمعدتهم لم تعد تتحمل الطعام فلم يأكلوا اللحم 18 سنة. وهكذا اكتمل موت 18 شخصا من 23 في 18 سنة.
وعندما خرج في النهاية الخمسة كان أحدهم يتكيء على الحائط والثاني على أربع مثل الزواحف. ولم يستطع عزيز أن ينام على فراشه وعندما انتصب كان يحدق في وجهه لأول مرة وقد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا وفقد نصف أسنانه وبحدبة في الظهر فهو ينتصب لأول مرة منذ عشرين سنة.
وفور خروجهم من السجن أحيل السجن إلى كثيب مهيل بالجرافات فدفنت الذكريات مع عقارب الصحراء. وزرع النخل في محله فرفضت الأرض فاستبدل بالسنديان. وأعطي اسم بتلات الورد. وتمكن المجرمون من محو آثار الجريمة مع محو المكان، وأما من الذاكرة فهي باقية إلى يوم يبعثون. ويمر الناس من حين لآخر فيشعلوا الشموع على تلك الأرواح المعذبة.
وما هو أفظع من الفظاعة نفي وقوعها. فمن هو الصفيق الذي يقول أن فظاعات حدثت في تزما مارت وتدمر وسجن غريب وليمان طرة؟
وفي النهاية اجتمع عزيز بوالديه فأما والدته فكانت تحتضر بالسرطان وتقول له: لا تحدثني يا بني عن تزمامارت فأنا أعرف كم يؤذي البشر بعضهم. وأما والده فكانت تمشي بجانبه زوجته الشابة الصغيرة ويفوح منه عطر نسائي ويتجلبب بثوب من حرير؟
وفي النهاية لم يبق من السجن الحفرة سوى غابة سنديان ويقولون أنهم سوف يغيرون اسم البلدة ويقولون ويقولون.
ولكن أهم ما خرج فيه عزيز أنه تحرر من الكراهية وعندما اجتمع مع والده الذي كان (كركوز) السلطان قبَّل يده وهو لا يحمل في قلبه ذرة حقد لأحد فقد صعد فوق مشاعره الشخصية وتطهر.
إنها صفحات سوداء في سجل الخزي العربي يجب أن نحفظها ونتذكرها ونرويها لأبنائنا. إنها الهولكوست العربي. والويل لأمة لا تعرف تاريخها.
إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين.
إن القرآن ذكر نموذجين لوقوف رجل واحد في وجه الطوفان يفكر باستقلالية ويتحدى القطيع الانساني المتواطيء على الخطأ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
إن القرآن بنى فلسفته كلها على (المسؤولية الفردية) والحساب يوم القيامة فردي وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) فلو جنَّ كل الناس فصفقوا وألَّهوا فرداً منهم فليس مبرراً أن ينساق الفرد مع القطيع الضال، ولو أنحرف كل الناس فيجب أن يعتزلهم الفرد ومايعبدون من دون الله. وعندما شعر بعض الفتيان أن الحياة تسممت في مجتمعهم آثروا أن ينهوا حياتهم سعيدين في كهف بارد مظلم بعيداً عن مجتمع تحول الى قطيع هائم على وجهه يطيع ساداته وكبراءه فأضلوه السبيلا. وهذا مافعله برونو مع كل الفرق والأحزاب التي تواطأت على الخطأ فآثر الموت على الضلال.
إن الجنس البشري يتقدم ببطء ومعاناة بفضل هذه النماذج الانسانية المتألقة كمنارات فبهداهم اقتده.
ذكر القرآن نموذج رجل سورة ياسين حين أدلى بشهادته متحدياً كل المخاوف ولم يحدد لنا القرآن أن نهايته كانت القتل سوى أنه خوطب ( قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي). وذكر نموذجا ثانيا وقف أمام كل ضغط الحضارة الفرعونية ليعترض على محاولة قتل موسى (عليه السلام) لآراءه؛ فلايقتل الانسان من أجل آراءه مهما كانت ولكن يعاقب على فعل ضار فعله، وموسى لم يفعل أكثر من مواجهة حضارة مريضة بأفكار صحية. ويعقب القرآن على مصيره ( فوقاه الله سيئآت مامكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب).
وتعيد مجلة ( در شبيجل DER SPIEGEL) الألمانية فتح ملف هذا الرجل الذي لم تبرد حوله بعد ألسنة اللهب تحت عنوان (تحالف غير مقدس)، وتعني عمق الاشكالية التي طرحها في وجه الكنيسة والعلم معاً، بتصوره كوناً لانهائياً يعج بالحياة. وفي الوقت الذي أعادت الكنيسة الاعتبار لغاليلو عام 1992 م فإن هذا الرجل (العاصفة) لم تعيد الكنيسة تأهيله حتى اليوم. كما أن كتبه كانت على رأس قائمة الكتب المحظورة وبقيت ممنوعة النشر والتداول بقرار كنسي لفترة 362 عاماً من عام 1603 حتى رفع عنها الحظر عام 1965م!.
يروي لنا التاريخ أن حرق النساء كان أكثر من الرجال في التاريخ الأوربي، وحسب الاحصائيات التي ذكرتها مجلة الشبيجل الألمانية قفز الرقم الى خانة فلكية بحرق مليون انسان معظمهن نساء بتهمة السحر، ومن هؤلاء ( جان دارك JEANNE d,Arc ) التي تمت محاكمتها بين 21 فبراير و30 مايو من عام 1431 م من (محكمة التفتيش) الانكليزية بحضور ستين من القضاة ورجال الدين، وتضمنت التهمة مالايقل عن 70 نقطة، منها مزاولة السحر، وعدم قبول حكم البابا فليس لها من قاض الا الله، والـ ( الجرأة ) من فتاة في التاسعة عشر من العمرzwj;!
كانت جان دارك تؤكد للمحكمة إيمانها العميق بالخالق والمسيحية، ولكن كل هذا لم يشفع لها، وفي 7 يوليو تم حرقها على قيد الحياة، وتنبأ كاتب انجليزي مرموق بحكم التاريخ باكياً فقال (قضي علينا لقد أحرقنا قديسة)، وبعد 464 عاماً في عام 1920 م اعتبر البابا (بيندكت الخامس عشر) جان دارك قديسة.
لايمكن ولايعقل أن يواجه فرد مجتمعاً وفي أخطر أفكاره مالم يكن واحداً من اثنين مجنون أو قديس، وهما عل كل حال قطبان متقاربان بين الجنون والعبقرية، ولم يكن غريباً أن اتهم الانبياء أنهم مجانين، عندما وقفوا فرادى عزَّل في وجه كل التيار الاجتماعي المعاكس، وهذا مافعله الفيلسوف الايطالي (جيوردانو برونو) بالضبط في مطلع القرن السابع عشر، ولكنه دفع الثمن غالياً من حياته، ولم يكن هناك مفر، وهذه هي حركة التقدم في التاريخ، فلم تكن أوربا لتتقدم الا على جسر من حرية الفكر فوق طوفان عارم من الظلامية والتعصب والخرافة. حريق (برونو) هو يوم الفرقان بين عهدين في أوربا فمن حمم ألسنة اللهب ولدت أوربا خلقاً جديداً ونشأة مستحدثة، فمن طينه صارت جوهرا، ومن رماد برونو شيد كونا آخرا، وكل ماننعم به اليوم من ثورة (الانفوميدياINFOMEDIA)( المعلومات والاتصالات والاعلام ) هو من ذلك الحريق الهائل الذي روَّع العالم، وفتح الطريق للعقلانية وتوديع الفكر الكنسي الى غير رجعة.
ولد برونو عام 1548 م في (نولا NOLA) على بعد 16 ميلاً من (نابولي) وفي عام 1572 م رسم في دير الدومينيكان كاهناً، ولكنه اثناء مكثه في الدير كان قد التهم المكتبة بما حوت من مؤلفات عربية مترجمة الى اللاتينية وتأثر بابن رشد وابن سينا والفيلسوف اليهودي ابن جابيرول وسحر بافلاطون والفلسفة اليونانية وافتتن بمذهب ديموقريطس الذري الذي تابعه ابيقور، وفي عام 1576 م كان قد تسربت الشكوك الى قلبه بما فيه الكفاية فخلع بعد 11 عاماً لباس الرهبنة واختفى عن الأنظار، بعد أن أعلن شكوكه في فكرة الوهية المسيح والتثليث والقربان والتجسد ( فكيف يمكن أن يكون هناك ثلاثة آلهة في واحد) و(كيف يتحول الخمر والخبز الى جسد المسيح ودمه؟) كما أعلن ثورته على الفكر السكولاستي (المدرسي) وفكر أرسطو.
إن ثورة برونو الفكرية سبقت (فولتير) بقرنين وهذا قدر كثير من المفكرين الذين يسبقون أفكار عصرهم. بعد ذلك تابع برونو ولفترة 16 عاماً تجوالاً في أوربا لايعرف الاستقرار والراحة لعقل متمرد على العصر يطرح اسئلة مزعجة ويثير تساؤلات عن قضايا جذرية. فانتقل الى (البندقية) ثم (بادوا PADUA) في ايطاليا، ثم عبر الالب الى سويسرا وحاول أن يتقرب من المدرسة (الكالفينية) فكان مثله كالمستجير من الرمضاء بالنار ونار التعصب واحدة عند الفريقين، وحالما فتح فمه بالنقد تم القاء القبض على من طبع أفكاره ومثل أمام محكمة الكنيسة؛ فهرب من هناك الى فرنسا عام 1581 م طمعاً بظل عابر من التسامح الديني بين الكاثوليك والبروتستانت، وأعجب به الملك الفرنسي هنري الثالث لمعرفته بطرق تقوية الذاكرة، ثم غادر فرنسا بعد عامين في 1582 وهو يصف الوسط الفكري:(سترون فوضى مشوشة ونتفاً من النشالين، وألواناً من الزيف والخداع، ومغامرات الأوغاد،والقرارات الحمقاء، والآمال المشلولة، والصدقات الشحيحة، والرجال المخنثين، والسرطانات الروحية، والأفكار الهزيلة، وحب الذهب في كل مكان) ثم وقَّع على روايته الكوميدية التي حملت عنوان (حامل المشعل) والتي ضمنها هذه الألفاظ النارية: (برونو المتخرج من اكاديمية الازعاج). وفي عام 1583 تخلص منه هنري الثالث فأوصى به لسفيره في لندن حيث اجتمع برونو هناك بألمع عقول العصر من أمثال (ارلي ليستر) و (ادموند سبنسر) و (جبراييل هارفي) وكان اجتماعه مع الملكة اليزابيث الأولى لعنة عليه لإنها كانت من النقاط التي أخذتها عليه محكمة التفتيش بالاتصال بالهراطقة (الكفار) البروتستانت. وعندما غادر بريطانيا كان تعليقه على نظام التعليم في جامعة اوكسفورد أنه:(أرملة التعليم الصحيح وأنه:مجموعة من الجهل المتحذلق العنيد امتزجت بفظاظة خرقاء يمكن أن ينفد معها صبر أيوب). وفي عام 1585 قفل راجعاً الى فرنسا فحاضر في السوربون ولكن أنصار أرسطو كانوا له بالمرصاد فتابع رحيله في هذا الجو الخانق الى المانيا عسى أن يجد فيها متنفساً. وبين (ماربورج MARBURG) وجامعة لوثر في (ويتنبرغ WITTENBERG) قضى عامين ولكن لاهوت رجال الاصلاح لم يتفق معهم مما جعله يهرب من جديد الى (براغ) عاصمة جمهورية التشيك الحديثة، ولكنه مع تدريسه في جامعة (هلمستد HELMSTEDT) في برونزويك فاحت آراءه الخطيرة من جديد فاتهمه رئيس الكنيسة اللوثرية بالتجديف و (أصدر قراراً بحرمانه من الكنيسة) مما اضطره الى حزم حقائبه من جديد واللجوء الى فرانكفورت وزيوريخ عام 1591 قبل اعتقاله في ايطاليا بعام واحد. ثم شده الحنين الى جو إيطاليا الدافيء ومراتع الطفولة ولكي يأمن على نفسه اختار ( البندقية) التي اشتهرت بحماية المارقين على الكنيسة واختار رجلاً من عائلة عريقة هو (جيوفاني موسنيجو GIOVANNI MOCENIGO) الذي كان يريد منه تعلم طرق تقوية الذاكرة وكانت سمعة برونو أنه مليء بالاسرار والتجارب، ولكن المضيف أراد تبرئة ذمته من الأفكار الخطيرة التي كانت تتناثر من شدق هذا الفيلسوف الثرثار قليل الحذر فاعترف لكاهنه بذلك، فأوصاه بتبليغ محكمة التفتيش عنه، فهذه أمور لايسكت عنها ويجب التقرب بدمه الى الله، وكانت محكمة التفتيش قد أصدرت مرسوماً بألقاء القبض عليه بأن يؤخذ ( موجوداً ) من الحدود. وفي 23 مايو 1592 تم القاء القبض عليه، وبين عامي 1592 و1600 م حقق معه العديد من المرات وكانت محكمة التفتيش حريصة أن تهمله لفترات طويلة لتحطيم معنوياته واذلاله ولم يسمح له بالورق والقلم الا بعد ستة سنوات من اعتقاله وفي دفاعه عن نفسه كان يؤكد أن لجنة التحقيق تتعمد اصطياده بجمل منتقاة بعناية منتزعة من سياقها في حرص على إدانته، وقبل بسذاجة بأنه يرضى مايحكم به البابا، ولكن (كليمنت الثامن ) البابا وقتها وهيئة محكمة التفتيش ادانته بثماني جمل من الهرطقة الخالصة التي هي معلومة من أصول المسيحية بالضرورة ولايتجادل عليها اثنان، وأخيراً أمر البابا بالفصل في موضوعه فاستدعاه المحققون في 8 فبراير من عام 1600 م ووعظوه من جديد أن يبدي الندم ويتوب توبة خالصة ويتراجع عن آراءه الضلالية الضارة فقد كانت ثمانية أعوام من الاذلال والتحقيق كافية للتراجع! وأنه ارتضى حكم البابا وأن البابا اعتبره مارقاً وأن المتهم مازال مصرا على هرطقته سائراً في غيه عنيدا مكابراً ومن ثم صدر الحكم بإحالته الى المحكمة المدنية الى حاكم روما... (الحاضر هنا ليقرر العقوبة التي تستحقها ولو أننا نرجو جادين أن يخفف من صرامة القوانين بالنسبة لما تعانيه من آلام والا يكون جزاؤك الاعدام أو بتر الأعضاء) كما جاء في كتاب قصة الحضارة لديورانت.
وقَّع على الحكم في النهاية ثمانية كرادلة وكانت بالحرق حياً. وبعد تسعة أيام نفذ الحكم. برنو وهو يستقبل الموت كان يرى الوجود:(إنها وحدة تسحرني فأنا بقوة هذه الوحدة حر ولو كنت مستعبدا، سعيد في غمرة الحزن، غني في حمأة الفقر، حي حتى في الموت.. إني وأنا خاضع لهذا القانون وبرغم أني أقاسي أجد العزاء في التحقق أن شر الجزء يصبح غير ذي معنى في المشهد العام للكل... ومن ثم تكون معرفة الوحدة الأسمى هي هدف العلم والفلسفة) وعندما تلى مجلس الكرادلة عليه الحكم قذف في وجههم عبارته المشهورة:( ربما كنتم يامن نطقتم الحكم بإعدامي أشد جزعاً وخشية مني أنا الذي تلقيته).
يشكل ( برونو) جسراً بين بواكير النهضة العقلية في أوربا التي أطلقها أناس متمردون من نموذج (روجر بيكون 1210 - 1293) وتكللت في النهاية بالانفتاح العلمي وبناء المنهج العقلي النقدي كما جاء في قانون تأسيس (الجمعية الملكية العلمية) في بريطانيا. أما بيكون فقد كانت حياته كما وصفها المؤرخ البريطاني (ويلز H.G. WELLS ) في كتابه (معالم تاريخ الانسانية):(كانت حياة بيكون مأساة ذهنية)، ولكن ألمع ماعرف به الرجل عندما شهَّر بأسباب أربعة للجهل دفع ثمنها سجناً طويلاً:( احترام السلطة، والعرف والعادة، وروح الجمهور الجاهل، وماعليه ميولنا من عدم قابلية للتعلم تتسم بالغرور والكبرياء، فلو تغلب الناس على هذه وحدها لانفتح أمامهم عالم من القوة). ولم يضع رماد برونو سدى فقد ساهم في دفع الروح الأوربية الجدية ونطالع عن تأسيس الجمعية الملكية العلمية بلندن الذي صدر بموجب مرسوم ملكي من شارل الثاني عام 1662 م، وتبني المنهج العلمي الذي ينص على سبعة فقرات:1 ـ الا يفترض أي فرض لاضرورة له.2 ـ ألا يقبل أي خبر أو بيان من غير تحقيقه.3 ـ أن تختبر كل الأشياء بأشد قدرة مستطاعة. 4 ـ ألا يحتفظ بأي أسرار. 5 ـ ألا يحاول أحد أي احتكار. 6 ـ وأن يقدم الانسان خير مالديه في تواضع ووضوح. 7 ـ وألا يخدم أية غاية أخرى غير المعرفة.
يناقش استاذ الفلسفة (كيرشهوف KIRCHHOFF ) في مقالة نشرتها ( مجلة الشبيجل الألمانية عدد 7 من عام 2000) سبب إصرار الكنيسة على إحراقه ليصل الى بللورة عدة نقاط جديرة بالذكر في ذكرى حرقه بعد أربعة قرون وأهمها أن الكنيسة أعادت الاعتبار لغاليلو عام 1992 في الحين الذي لم يتزحزح موقفها من برونو لاعتبار جوهري هو أنه تناول قضية عقائدية تمس صلب المسيحية، والتهاون فيها يعني تبخر كل العقيدة التي عملت الكنيسة على ترسيخها عبر القرون من (الوهية المسيح)، وأنه أرسل للأرض للفداء على شكل (ناسوت). مع عدم وجود نص واحد يتيم في كل الأناجيل الأربعة يفيد بفكرة الأقانيم الثلاثة فضلاً عن ألوهية المسيح بذلك. كل ماذكره الانجيل كما يقول المؤرخ ( ويلز) كان تعليمات بسيطة يشار له بكلمة( معلم). في الوقت الذي تتحول فيه الكنيسة الى كهنوت ثقيل بألبسة خاصة وتدشين طبقة رجال دين لم يات بها دين، ورهبانية ابتدعوها ماكتبها الله عليهم، وعزوبية ضد الطبيعة تؤدي الى تعفن خلقي وشذوذ في النظرة الى المرأة أنها مصدر الفتنة والشيطان، ويجلس البابا في سدته من تعيينه حتى الممات في شيخوخة مستفحلة. ويستعرض المؤرخ الأمريكي (ديورانت) هذه المشكلة على النحو التالي: إن برونو رأى أن العالم لانهائي وأن النجوم شموس تتحرك وأن الفضاء والزمن والحركة كلها أمور نسبية، وربما كانت هناك كواكب كثيرة تسكنها كائنات ذكية فهل مات المسيح من أجلهم كذلك؟.
لايمكن فهم جريمة إحراق (برونو) بدون فهم الجو الذي عاش فيه من بطش الكنيسة ومحاكم التفتيش والقبض على الملايين على الشبهة، ووضعهم تحت أدوات تعذيب جهنمية للاعتراف في وسائل معترف بها مبررة قانونياً. وهو مانعيشه نحن اليوم في العالم العربي من تعريض الانسان للتعذيب مما يجعلنا نوقن أننا نعيش عصر محاكم التفتيش بأسماء جديدة.
كان قطع الالسنة وارد وعندما تقدم أحد المحكومين بالحرق بالرحمة به بقتله قبل الحرق من الملك الاسباني (فيليب) الذي كان يشهد حفلة حرق العشرات من الهراطقة في بلدة ( الوليد) رفض طلبه وهلل له الجمهور أنه حاكم تقي لاتاخذه في الله لومة لائم!
إن عصر برونو كان كارثة بكل معنى الكلمة فالطاعون يعصف ويفرغ مدناً باكملها من سكانها، والحروب الأهليةالدينية على أشدها، فبين عامي (1562 ـ 1598 ) عصفت بفرنسا ثماني حروب دينية بين البروتستانت والكاثوليك وفي عام 1572 م احتفل الكاثوليك الفرنسيين بعيد القديس ( برتولوميوس BARTHOLOMAEUS) بتقديم ثلاثين ألف من القرابين البشرية من خصومهم الهيجونوت (الفبروتستانت) ذبح منهم فقط في باريس ثلاثة آلاف بينهم أطفال رضع ونساء وألقيت بجثثهم في نهر السين. إن تاريخ المذابح الدينية فظيع ولقد تعامل أتباع الأديان وفرق الكنائس في التاريخ بماهو أشد من الهمج والمتوحشين وكأنهم أتباع الشياطين وليس الانبياء. عندما يقارن (ويل ديورانت) المؤرخ بطش روما بالمسيحيين وبطش الكنيسة بالمرتدين يعتبر أن روما كانت أرحم مع أن التاريخ شهد لروما أنها كانت فاتحاً لايرحم. (وإذا وازنا بين اضطهاد المسيحيين للضالين في أوربا من عام 1227 الى 1492 م وبين اضطهاد الرومان للمسيحيين في الثلاثة قرون الأولى بعد المسيح حكمنا من فورنا بأن هذا أخف وطأة وأكثر رحمة من ذلك... ونحكم عليها بأنها أشنع الوصمات في سجل البشرية كله، وبأنها تكشف عن وحشية لانعرف لها نظيراً عند أي وحش من الوحوش)
تاريخ الكنيسة ومحاكم التفتيش...
إن ماحدث في تاريخ الكنيسة لايمكن السكوت عنه بحال. إنه عار كبير الذي حدث. كيف يمكن أن تتم انتهاكات صارخة لحقوق الانسان، على هذه الصورة من الوحشية باسم الدين وحفظ العقيدة؟ كيف يمكن للانسان أن يسكت عن هذه الألوان من ممارسة العنف في صورة حروب دينية تشن ومحاكم تفتيش تصب العذاب على البشر باسم الايمان؟ إن مافعلته محاكم تفتيش العصور الوسطة كان التمهيد الفعلي لقيام أنظمة (توتاليتارية TOTALITARISM) في القرن العشرين وأنظمتها القمعية من نموذج (الجستابو GESTAPO) النازي و جهاز الاستخبارات الـ (K.G.B. ) الشيوعي و (STASI) استخبارات ألمانيا الشرقية السابقة قبل انهيار النظام الشيوعي.
هذا الاعلان المثير لم ينطق به خصم للكنيسة. لم يصرح به شيخ الأزهر. لم يقل به ملحد غربي أو شرقي معادي للمسيحية والكثلكة. هذا التصريح العجيب قال به رأس الكنيسة الكاثوليكية، البابا البولوني ( كارول فويتايلا KAROL WOJTYLA ) يوحنا بولس الثاني ( PAUL II ) هكذا صرح واعترف البابا الجديد في عام 1994 م: على الكنيسة وبمبادرة ذاتية استعداداً لدخول القرن الجديد أن تعيد فحص الزوايا المظلمة من تاريخها، وتقيمها على ضوء البشارة النبوية واعمال الانبياء ( EVANGELIUM ).
محاكم التفتيش ( INQUISITION ) أسسها البابا ( انوسنس الرابع INNOZENZ IV ) عام 1252 م وبقيت تعمل لمدة خمسة قرون، أرسلت خلالها الى المحرقة مليون امرأة، منها والدة الفلكي المشهور (كبلر KEPPLER) الذي أنقذها بإعجوبة، ويوصل الفيلسوف الفرنسي ( فولتير ) أرقام من ماتوا تحت الآلة الجهنمية لتعذيب محاكم التفتيش بعشرة ملايين.
كم بلغت كثرة الضحايا؟ قدر أمين محكمة التفتيش بين عامي 1889 و1801 (خوان ليورنت) بأن عدد الضحايا الذين أحرقوا بين عامي (1480 ـ 1488) قدر بـ 31912 أنسان وأن من وضعت عليه عقوبات صارمة بلغوا (ا291494) شخصاً. ولم يقف الأمر عند الاعدامات والعقوبات بل خلقت محاكم التفتيش جواً من الرعب لايطاق. يقول ديورانت (ولاتصور الاحصائيات أياً كانت الفزع الذي عاش فيه العقل الاسباني في تلك الأيام والليالي. فقد كان الرجال والنساء حتى في ستر منازلهم، أن يرقبوا كل كلمة يتلفظون بها حتى لايؤدي بهم نقد عارض الى سجن محكمة التفتيش. لقد كان ضغطاً عقلياً لانظير له في التاريخ). لقد نجحت محاكم التفتيش من تطهير المجتمع من الرأي المخالف وبناء رأي أحادي تماماً كما في بناء الطرق السريعة باتجاه واحد لارجعة فيه. ولكن هل تبني الشركات السيارات بدون قدرة رجوع الى الخلف بحيث تنحشر في الكاراج فإذا دخلت لم تخرج. كذلك كان مصير اسبانيا فقد دلفت الى البوابة الخلفية لأوربا وهبطت الى الحضيض. يعقب ديورانت على ماحدث من جرائم محاكم التفتيش:( ولكنها تبدت لنا الآن أكبر جريمة لاتغتفر من الجرائم التاريخية. ذلك لإن عقيدة سائدة لاتنازع عدو مهلك للعقل الانساني)
إن برونو كان شهيد (حرية الفكر) أكثر من بناءه فلسفة منهجية متماسكة، وإذا كان المقصود بالفلسفة الرؤية الهادئة المنظمة للاشياء (وفقاً لعلاقاتها وأهميتها النسبية والقدرة على الاحاطة بكل الجوانب والتسامح مع كل وجهات النظر المختلفة فإن برونو على هذا الاساس لم يكن فيلسوفاً).
وجه برونو نقداً لاذعاً للكنيسة والفكر السائد ولم يتورع عن استخدام الفاظٍ استفزازية للغاية عن نظام التلقين السائد في زمنه من حجم (حاولوا أن تكونوا حميرا أيها الرجال.. حتى تسيروا الى المكانة التي لايمكن بلوغها بالمعرفة والجهد بل بالتقليد والتلقين) ولكنه لم يدرك أنه سابق لعصره بقرون، أو أنه بكلمة ادق يشق الطريق الى ولادة أوربا جديدة عندها قدرة ان تنتقد حكوماتها كما فعلت أمريكا مع رئيسها (كلينتون) عندما شاهد الملايين في امريكا والعالم كيف شد القضاء أعظم شخصية سياسية للمساءلة والمحاسبة، وأنه لاتوجد شخصية مهما كانت قوية خارج النقد ودون الخطأ، فلم يعد الحكام آلهة لايسأل أحدهم عما يفعل وهم يسألون كل من تحتهم من العبيد، وقفز بذلك الغرب الى نصف التوحيد عندما حطم أوثان السياسة، وفعلت مجلة (الشبيجل) مع نفس العدد نفس الشيء الذي ظهرت فيه قصة برونو وهي تصف الحكومة الألمانية بأن ألمانيا أصبحت ( في بلاد الكذب IM LANDE DER LUEGEN ) بدون أن يخاف المحرر على أصابعه أن تهشم قبل تحطيم جمجمته، وعلى صفحة الغلاف الرئيسية رسوم كاريكاتورية لستة من أعظم أدمغة المانيا السياسية ومعهم المستشار الألماني (كول) الذي أنجز أعظم الأعمال عملقة في تاريخ المانيا الحديثة من توحيد أوربا والألمانيتين.
إذا كانت الكنيسة قد سارعت الى تبني نظرية الانفجار العظيم كـ (موديل) لإمكانية خلق الكون وهو استعجال متهور، فقد فعلت سابقاً مايشبهه في تبنيها نظرية بطليموس حول مركزية الأرض حتى بطلت، وهي تعيد اليوم حماقة الأمس، ولكن أفكار برونو تتجاوز هذه وتفرض تحدياً مزدوجاً لللاهوت وعلم الكوسمولوجيا، وبعد مرور أربعة قرون على افكاره مازالت تحلق فوق كل ماحققه العلم، إن برونو لم يكن عالم مخبر تجريبي، وكان بالأحرى فيلسوف عميق نظري يشطح بأفكاره الى مدى لم يصله العلم بعد، في رؤية شمولية للكون أنه لانهائي ويعج بالحياة وينسجم في وحدة خلف كل التناقضات والتنوع، مما يجعل اليوم كلاً من الكنيسة وعلماء الكوسمولوجيا يتحدون ضده في (حلف غير مقدس) على حد تعبير (كيرشهوف) كما جاء في عنوان مقالة الشبيجل، بعد أن تبين أن السماء لاتبث خبرها تبثيثاً حول كائنات ذكية تحدث أخبارها، وأن الكون أقرب ان يكون مقبرة ميتة لايسمع منها ركزا. ولكن هل عرف العلماء كل شيء؟
بعد 19 عاماً من حرق برونو عام 1619 م تجرأ مفكران آخران بالتعبير عن آرائهم هما ( فانيني) و(كمبانيلا) فأما الثاني فقد ألقي في السجن 27 سنة وعذب اثنتي عشرة مرة (استمر التعذيب في إحداها اربعين ساعة متواصلة) وأما الأول فقد:( سلم الى الجلاد وهو في قميصه وحبل المشنقة حول عنقه، حاملاً فوق كتفيه إعلاناً يقول(ملحد دنس كلمة الله) واقتيد الى كنيسة القديس ستيفن ليجثو على ركبتيه طلباً للغفران من الله والملك والعدالة عن تجديفه وإلحاده. يقول المؤرخ ديورانت أنه: قبض عليه في 2 أغسطس 1618 م بأمر الملك وليس الكنيسة بعد وشاية عليه أنه يسخر من ( التجسيد) ويعارض فكرة (وجود إله بشري) فسيق الى ميدان سالين في تولوز في فرنسا وشد الى خازوق مقام هناك ثم قطع لسانه وشنق ثم حرق جسمه وترك الرماد تذروه الرياح.
هذا هو ثمن الحرية على مايبدو.
بعد ذلك خنس العلماء وكتموا آراءهم الى حين فكان يردد (ديكارت (: عاش سعيداً من بقي في الظل، وكتب (سبينوزا) كتبه الأربعة على نحو مبهم نجد صعوبة في قراءتها حتى اليوم بعد أن هرب الى هولندا، وخر (جاليلو) على ركبتيه جاثماً خاشعاً معترفاً أنه أحمق مأفون وأن ماقاله إفك افتراه وأنه منكراً من القول وزورا وأنه يسحب ماقاله جملة وتفصيلا، حتى كان يوم الزلزلة في الثورة الفرنسية والثوار يرددون شعار فولتير اشنقوا آخر إقطاعي بامعاء آخر قسيس.