العلاقة بين الفلسفة واللعب، قديمة قدم الفلسفة ذاتها، فقد لاحظ مؤرخ الأفكار الهولندي quot; يوهان هويزنجا quot; أن هناك وشائج قربي تربط بين اللعبة الشعبية الأولي في العالم ونظام الفكر السائد آنذاك، لأنه في مجال الثقافة عموما يصعب الفصل بين عنصر اللعب وعنصر الجد، والنشاط الفكري لأي عصر من العصور، ينطوي بدرجة تتفاوت زيادة ونقصانًا علي سمة من اللعب، ولكنه لعب جاد.
الفلسفة اليونانية ارتبطت في نشأتها بلعبة المصارعة، التي عبرت عن الصراع والجدل والتناقض، وسائر الثنائيات التي لا تزال الفلسفة ترزح تحتها laquo;كلعنةraquo; منذ أفلاطون، كما قال الفيلسوف الألماني quot; فريدريك نيتشه quot;.
وهناك تزامن بين نشأة الجامعة في العصور الوسطي وانتشار رياضة quot; الفروسية quot;، فمدار حياة الجامعة كان هو المنازعات الدائمة والخصومات الجدلية، شأن منازلات الفروسية، حيث تقاتل العلماء بأسلحة القياس المنطقي، وعكس القياس الأرسطي بتركيبه الثلاثي، ثلاثية أخري هي الرمح والدرع والسيف، وتقلد أصحاب الدرجات العلمية كالدكتوراه أسلحة نبيلة شأن الفارس تمامًا.
الشئ نفسه يمكن أن يقال عن (ما بعد) quot; ما بعد الحداثة quot; ولعبة كرة القدم اليوم، التي تحمل كل سمات العالم المعاصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وquot; الأسطورية quot; أيضا ممثلة فى الأخطبوط الألمانى quot;بولquot; الذي شغل العالم بتحركاته وصحة تنبؤاته!

كرة القدم هي النموذج المثالي للعولمة اليوم وملعبها الأساسي، حسب quot; بسكال بونيفاس quot; مدير المعهد الفرنسي للأبحاث في العلاقات الاستراتيجية في كتابه quot; كرة القدم والعولمة quot; 2010، فقد اخترقت الحدود وأذابت الفوارق العرقية واللغوية والدينية وحشدت المجتمعات وراء منتخباتها. الأهم من ذلك أنها وضعت فروقا واضحة أمام أنظار العالم بين quot; العولمة quot; وquot; الأمركة quot;، وهي الفروق التي ظلت غائمة أو أريد لها ذلك، وأثبتت أن العولمة تهدد الولايات المتحدة ذاتها، فقد انفلتت كرة القدم من السيطرة والهيمنة الأمريكية، وسبقت بكثير مجال الجيوسياسية الذي يتجه اليوم إلي التعددية القطبية quot;.

ويستطرد قائلا: quot; مفارقة الظاهرة الكروية أنها تشكل الظاهرة الاجتماعية الأكثر عولمة وتفرز في الوقت نفسه الاحساس بالانتماء، وعلي حين أن العولمة تتجه إلي التماثل وإلغاء الهويات الوطنية، كرة القدم خلافا لذلك تذكي الاحساس بالهوية وتقوي الانتماء الوطني quot;.
سئلت laquo;ماري هارفيraquo; المسئولة عن احتراف النساء للعبة كرة القدم في الولايات المتحدة، عن سبب ولع الناس في العالم إلي حد الهوس بهذه الساحرة المستديرة، قالت: الشيء laquo;الإنسانيraquo; المشترك في الكرة الأرضية، علي الأرجح - حتي قبل المساواة بين المرأة والرجل ndash; هو quot; لعبة كرة القدم quot;.
ويبدو أن وجود كرة القدم في حياة العديد من الناس يشكل معني ذا دلالة، وهو ما دعا عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي quot; مارك أوجيه quot; إلي اعتبارها quot; ديانة جديدة quot; في عصر العولمة وما بعد الحداثة.
يستند أوجيه إلي فكرتين أساسيتين، الأولي هي فكرة quot; المساواة quot; التي نادت بها الأديان جميعا، وهو ما أكده quot; بونيفاس quot; أيضا، إذ أن خصوصية المنافسة أنها مفتوحة علي كل الاحتمالات، كل المتنافسين سواسية عند نقطة الانطلاق، الأمر الذي يجعل من كرة القدم نشاطا quot; ديمقراطيا quot;ا، فليس من الضروري أن يربح الفريق الأقوي دائما.
الفكرة الثانية هي quot; الأخلاق quot; وتطبيق العدالة الفورية أمام الجميع، بينما العدالة في معظم المجالات الأخري (عالميا ومحليا) قد لا تطبق أو قد تتأخر، فضلا عن كرة القدم أدرجت قيم quot; التسامح quot; وquot; الاعتذار quot; وquot; الاعتراف المتبادل quot;، وهي المنظومة القيمية الجديدة في القرن الحادي والعشرين.

[email protected]