التطور نحو التخصص الفائق تسبب في ردة فعل ترجمت إلى تقارب عدد من المناهج، واشتراكها في عدد من المفاهيم، من نحو مفهوم quot;البرادايمquot; - Paradigm أو النموذج الإرشادي الأساسي، وهو مفهوم بلورة quot;توماس كونquot; - Thomas Kuhn وعني به ما يملكه ويشارك فيه أعضاء جماعة علمية (فيزيائيون، علماء فلك، علماء اجتماع hellip;) وبالمقابل تتكون هذه الجماعة ممن يرجعون أو يستندون إلى نفس هذا النموذج.(1)
ويبدو أن استخدام هذا المفهوم كأداة تحليلية قد سمح بتعيين أكثر الإنجازات قيمة وأهمية في مسيرة العلم، باعتباره مجموعة من الفرضيات والقضايا الرئيسية التي تحدد المشاكل المنهجية والأساسية في مجال علمي معين، وتوجه النظر إلى الجوانب الأكثر دلالة في مرحلة تاريخية له.
ونتيجة لإحراز quot;النموذج الإرشادي الأساسيquot; - Paradigm لنجاح علمي مرموق، وتقديمه الحلول للمشكلة العلمية، عن طريق صوغ منضبط من التعميمات الرمزية المتصلة بهذه المشكلة، مثل قوانين نيوتن على سبيل المثال، فإن ميزة هذا النموذج هو أنه يوقف تنازع التيارات المتعددة والمختلفة المسيطرة في حقلها المعرفي، ويحولها إلى مدرسة واحدة، تمتلك نمطًا من العمل العلمي الأكثر فعالية.
وأيضًا مفهوم quot;التمثيلquot; - Representation((2) وهو من المفاهيم التي انتقلت من حقل معرفي إلى حقل معرفي آخر، واستخدمت كأداة تحليلية وأثمرت نتائج مذهلة. فقد كان من أكبر التحديات التي واجهت العقل الإنساني فهم (أو الوصول إلى) الأشياء التي نعرف أنها موجودة ولا نستطيع أن نراها، إذ أنه ليس كل ما هو حقيقي ومفيد، ملموس ومرئي. فالزمن، على سبيل المثال، حقيقي، ولكن لا يمكن إدارته بصورة كفء، إلا عندما تمثله الساعة والتقويم الزمني hellip; هكذا quot;واجه علم القرن العشرين مشاكل التعقيد بالاستعمال المتسق للنماذج التمثيلية، والنماذج التي تقتدي بالعناصر التي تبني العالم من حولنا بدلاً من تحليله، وهي استراتيجية نجحت في عدد متزايد من الحقول المعرفيةquot;(3).
وأدت الحاجة الماسة إلى روابط بين المناهج المختلفة إلى ظهور quot;تعددية المناهجquot; - Pluridisciplinarity وquot;المناهج البينيةquot; Interdisciplinarity، في النصـف الثاني من القرن العشرين، ظهورًا مشوشًا في المجتمع العلمي والأكاديمي.
ففي مقاربة أولى، يمكن القول أن عدة مناهج، في تعددية المناهج، تتشارك دراسة موضوع مشترك، لا يستطيع أي منها أن يرصد كافة مظاهره بالتقنيات والأساليب التي بحوزته وحدها، وحسب quot;ب. نيكولسكوquot; - Nicolescu فإن تعددية المناهج quot;تختص بدراسة عدة مناهج في آن واحد لموضوع واحد يتعلق بالمنهج الواحد نفسهquot;(4) إذ أن البحث المتعدد المناهج، يقدم شيئًا أكثر للمنهج المعنيquot;، لكن هذا quot;الأكثرquot; يكون في خدمة هذا المنهج عينه حصرًا.
أما المناهج البينية فهي تتعلق بنقل الطرائق والأساليب من منهج إلى آخر.(5) بغية توسيع فهم مجال معين أو حقل معرفي معين أو بلوغ هدف مشترك. وعلى سبيل المثال، أدى نقل طرائق الرياضيات إلى الظواهر الارصادية الجوية أو أسواق المال إلى توليد نظرية الشواش أو الفوضى - Theory of Chaos، ومثلها مثل تعددية المناهج، تتخطى المناهج البينية quot;المناهجquot; لكن غائيتها تبقى هي الأخرى مندرجة في البحث المناهجي.
quot;إن المعارف المختلفةquot; والمناهج المتعددة، تقدم الكثير من المعلومات الجديدة والتبصرات الثاقبة، وخلفها يوجد تاريخ واحد. إلا أن في كل من هذه المناهج العديد من الثغرات إذا أخذ منفردًا، لكن معالجتها مجتمعة قد يسهم في ملء الفراغات. من هذه العلوم علم الآثار القديمة (الأركيولوجيا) وعلم الوراثة وعلم اللغة، الأنثروبولوجيا الثقافية، علم السكان (الديموغرافيا، الاقتصاد، الأيكولوجيا، علم النفس، علم الاجتماع.. وكلها دعامات للتفسير والتأويل.
إن التاريخ عند البعض ليس علمًا (والتطور جزء من التاريخ)، فنتائجه لا يمكن أن تتكرر، ومن ثم لا يمكن اختبارها بالمنهج التجريبي. لكن دراسة نفس الظاهرة من زوايا مختلفة، من حقول معرفية ومناهج مختلفة - كل يوفر حقائق مستقلة - لها قيمة التكرار المستقل، الأمر الذي يجعل المعالجة متعددة النظم لا غنى عنهاquot;(6) وهي وحدها التي تمكن الباحث من رؤية الوحدة الجوهرية للعلوم ومناهجها، فضلاً عن أن تعددية المناهج اليوم أصبحت جزءًا من واقع معرفي إنساني جديد، لم تعد تغريه quot;الواحديةquot; في الرؤية وفي المواقف، بل هي تعددية في الفكر ومنطلقاته، والنزوع الإنساني الذي لم يكن ليقيم عند حالة واحدة تستحوذ عليه جميعه.

الهوامش :

1-Kuhn (T): The structures of scientific Revolutions, Chicago University Press, 1962.
2 - Representation تعني quot;امتثالquot;، وامتثل الشيء (تصوره) hellip;وهي في اللفظ الأفرنجي تعني التمثيل أيضًا.
مراد وهبه: المعجم الفلسفي، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998، ص - 96.
3- Levenson (T): Measure for Measure. A Musical History of Science. Simon amp; Schuster, New York, 1994, P. 276.
4 - نيكولسكو (ب): بيان العبرمناهجية، تقديم: أدونيس، ترجمة: ديمتري أفيرنيوس، دار مكتبة إيزيس، سلسلة quot;آفاقquot; 2، دمشق، 2000، ص - 54.
5 - المرجع نفسه: ص - 55.
6 - سفورزا (لويجي لوقا كافللي): الجينات والشعوب واللغات، ترجمة: أحمد مستجير، المشروع القومي للترجمة (205)، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص - 5.


[email protected]