لا تترقى القيم الإنسانية للرياضة إلى مصاف عالمية إلا عندما تكون قيما عابرة لطبيعة النشاط المتصلة به إلى آفاق أخلاقية وجمالية وكونية، بحيث يظل التعبير عنها صورة من حياة يعشقها كل شخص يتمتع بمطلق معنى الإنسان. لكننا سنجد أن الشرط الشارط للعروج إلى تلك الآفاق الكونية والإنسانية لا يتم إلا عبر الحرية. وهكذا حين عبر المعلق الرياضي التونسي المتألق عصام الشوالي عن حسرته كعربي حرمت أمته باستمرار من التألق في ذلك الكرنفال العالمي لرياضة كرة القدم، كان في صورة أخرى يعبر عن مفارقة عجيبة غريبة عن حال الرياضة في المنطقة العربية فبالرغم من أن أي صحيفة عربية كبرى محترمة كصحيفة الحياة اللندنية مثلا تفرد يوميا 4 صفحات لأخبار الرياضة فضلا عن الصحف الخاصة بالرياضة. وما أكثرها. بالإضافة إلى الدوريات والمهرجانات الكروية والرياضية في العالم العربي الذي لم يعرف أي نشاط آنساني آخر يوازي النشاط الرياضي، إلا أنه في النهاية ورغم ذلك الزخم تأتي الدول العربية في ذيل قائمة الدول والأمم الأخرى في المهرجانات الدولية للرياضة كمونديال كرة القدم مثلا بل وتكون النتائج دائما مخجلة ولا تساوي على الأقل الجهود والميزانيات المالية الجبارة التي تسخرها الدول العربية لهذه الرياضة فأين المشكلة؟ كيف يمكننا أن نفهم هذه (الفزورة)؟ هل المشكلة في الإمكانات والقدرات المادية؟ لا أظن ذلك فالعرب كأمة تظل بعض دولهم كدول الخليج مثلا ذات إمكانات مالية عالية يمكنها أن تعوض ذلك النقص لتحقيق فوز عالمي في المونديال يحتاجه العرب كأمة لا كدولة. هل المشكلة في العجز عن مهارات اللاعبين؟ أيضا لا يمكن أن يكون ذلك هو السبب لأن أي إنسان في هذا العالم يمكن أن تكون لديه مهارات في مجال ما من قدراته وطاقته. كما أن السبب لا يمكن أن يكون في غياب التكتيكات والبرامج الكروية والتنظيم المتصل بها فهذا لا يناسب ذلك الاهتمام الكبير الذي توليه الشعوب والحكومات لهذه اللعبة الرياضية الشهيرة إذن أين تكمن (الحزورة)؟. كرة القدم مثلها مثل كل ظواهر الحداثة في العالم يتم استيعابها عربيا بطرق متخلفة لا تعكس الشروط الحقيقية لظاهرة الرياضة كنشاط إنساني عالمي يحتاج فقط إلى الحرية والمعرفة (هنا المهارة) وهكذا يمكننا أن نجد ذلك التناسب الطردي والعكسي بين الرياضة كقيمة إنسانية تحتاج إلى الحرية والمعرفة وبين كونها في الوقت نفسه سببا لتحقيق نصر للأمم والشعوب حبن تكون لعبة عالمية وميدان للتنافس بين تلك الأمم والشعوب. وهنا سنجد أن ذلك التناسب الطردي والعكسي في الوضع المثالي لرياضة كرة القدم ينحاز للشعوب التي تحقق ازدهارا حقيقيا في ميادين الحريات والمعرفة، أي هنا يمكننا معرفة سر عجز الدول العربية الدائم للوصول إلى نتائج متقدمة في مناسبات المونديال العالمي لكرة القدم. فكرة القدم حين يتم تسويقها ونشرها كأداة لإلهاء الشعوب وشغلهما بها في ميدان الوعي العام المتصل بحقوقهم السياسية والاقتصادية والقانونية والحياتية بشكل عام، تكف عن كونها لعبة حيادية ذات طابع إنساني، وبالتالي تعجز عن تحقيق أي انجاز وطني عالميا وبهذا المعنى تعكس كرة القدم حقيقة الواقع الذي تعيشه الشعوب في علاقتها بها لهذا كانت دائما ألمانيا الغربية حاضرة في المونديال العالمي لكرة القدم بعد الخرب العالمية الثانية فيما كانت ألمانيا الشرقية غائبة عنه. ذلك أن أي تشاط إنساني متصل بالإبداع والأخلاق لا يمكن أن يتحول إلى أداة سياسية إلا بعد أن يفقد معناه الحقيقي فالمعنى الحقيقي للإحساس بكرة القدم كنشاط إنساني لا يزدهر إلا في المونديال عبر فعاليات فنية تكون في الوقت نفسه بمثابة تعبير عن سوية وطنية للأمم والشعوب الحية. فكما أن إدخال الطائفية والقبلية في السياسة هو إفساد للسياسة والطائفة والقبيلة معا ؛ كذلك استخدام كرة القدم سياسيا لإلهاء الشعوب عن الوعي العام الخلاق بحقوقها هو أيضا إفساد للسياسة والرياضة معا، لكن المفارقة أننا لا نكتشف مدى الفساد والعبث والخراب الذي تلحقه السياسة بالرياضة إلا في مثل هذه التظاهرة العالمية للمونديال حيث نتوارى ونخرج عن ميادينه بنتائج مخجلة ومتواضعة فالمونديال يعيد لنا باستمرار تعريف المعنى الإنساني والأخلاقي لكرة القدم كل 4 سنوات. وفي حين أن تلك الشعوب المتقدمة لا تولي كرة القدم اهتماما زائدا عن معناها كنشاط إبداعي فرعي ومجزوء في الفضاء العام نجدها تولي حقوقها السياسية والحياتية الفضاء العام من وعيها واهتمامها. هكذا يمكن أن تحضر الرياضة من باب الوطنية ولكن لا يمكنها أن تحضر من باب السياسة في الوعي العام. والحال أن ما انعكس لدينا من فائض الرياضة في كرة القدم ظل باستمرار علامة كاشفة عن التخلف من باب الرياضة هذه المرة. ولعل أبرز نموذج لذلك ما جرى بين مصر والجزائر على هامش نهائيات التأهل لكأس العالم فقد جرت حرب حقيقية في الفضاء الإعلامي العام بطريقة انخرط فيها الجميع ضد الجميع وعكست درجة عالية من القدرة على الاهتمام بالقضايا لكل من الشعب المصري والشعب الجزائري لكنها بطبيعة الحال كانت قضايا في كرة القدم لا تستحق ذلك الانخراط العنيف الذي يمكن أن يكون وسيلة ورافعة لتحقيق الفاعلية والتأثير الإيجابي في قضايا الشأن العام. لقد كشفت تلك الحرب أن الوعي العام العربي يمكن أن يتبنى قضاياه بقوة وفاعلية بحيث لو كان عشر هذا الوعي والاهتمام الذي أبداه كل من الشعبين المصري والجزائري لقضايا الشأن العام والحيوي لكل منهما في السياسة والاقتصاد والفكر لكان الوضع أفضل بكثير مما عليه الآن. هكذا نجد انعكاسا سلبيا للاهتمام بكرة القدم في المنطقة العربية حين تدور بعيدا عن فضائها الإبداعي والإنساني الحر، ولكنه يظل مع ذلك تعبيرا بليغا عن التخلف وعلامة كاشفة لمعنى العبث في تحويل النشاطات الفنية والإبداعية إلى وسائل تخدير وإلهاء وتحويل لطاقة الوعي العام إلى مكان آخر يفسد فاعليته تماما ويجعلها تشتغل بعكس الغاية التي تتوخاها الرياضة. إن سر الفشل العربي في المونديال العالمي بقع في انعكاس التخلف على مجال الوعي العام بهذه اللعبة بمعنى آخر أن غياب الوعي بفاعلية الاهتمام بالشأن العام ليست منعدمة لدى الشعوب العربية ولكنها فقط مستهلكة. بفعل سياسات النظم الشمولية التي تفسد السياسة والرياضة جميعا. في مجال آخر أصغر منها بكثير في الأهمية وفي الدور. أي أن هناك شلل إرادي لتلك الشعوب في طاقة توظيف الوعي العام حيث يشتعل التخلف. عندما تسبب لاعب من أصل بولندي. اختار الجنسية الألمانية. في هزيمة بولندا عبر إحراز هدف في شباكها حين لعبت ضد ألمانيا، دار خلاف في البرلمان البولندي حول سحب الجنسية من ذلك اللاعب لكن استقر الرأي أخيرا على عدم سحب الجنسية من اللاعب الألماني ذي الأصل البولندي لسبب بسيط وهو : أن كرة القدم نشاط رياضي إنساني وأخلاقي ومن ثم لا يتم التعامل مع نجومه سياسيا أي بمنطق الخيانة الوطنية.