تقل متع الحياة كلما اقتربت من عموم حاجات البشر وكمالياتهم لا سيما في هذا العصر الذي أصبح فيه الإنسان ينحو نحو فردية متمادية حيال الكثير من دوافع العيش. إلا أن الحداثة ظلت مع ذلك قادرة على تجديد بعض المتع الجماعية لشراكة الحس الإنساني بطريقة لا تضفي عليه بهجة متجددة كل 4 سنوات فحسب، بل تجعل من تلك البهجة لغة إنسانية واحدة لتنظيف الغرائز الحيوانية في الإنسان وإعادة الاعتبار لسمو الحس الإنساني حين يحول تلك الغرائز إلى طاقة نظيفة للمشاعر وتفريغ إيجابي لشحنتها في ألعاب وحركات رياضية غنية بالإبداع الذي ينحاز لإنسانية الإنسان حتى عبر الكثير من العناوين الوطنية والقومية في تلك الحرب الجميلة لكرة القدم.
فمنذ أن ابتدع الإغريق الألعاب الأولمبية بعد نهاية حروب اسبرطة وأثينا كانت الرياضة باستمرار هي امتداد نظيف لحروب الحس الإنساني دون أي ثمن للدم وهكذا حين استعادت الحداثة في أوربا ذلك التراث الروماني الإغريقي أعادت انتاج تلك الألعاب عبر تنظيمات حديثة لتكون بؤرة استقطاب لنشاط عالمي يجمع أمم العالم لتجديد ذلك الإحساس عبر دورات رياضية متنوعة.
بيد أن كرة القدم كانت هي اللعبة الأكثر شعبية منذ بدايات القرن العشرين. ومع تنظيم أول مونديال لكأس العالم في ثلاثينيات القرن العشرين أصبحت هذه اللعبة هي العنوان الأكبر للنشاط الرياضي في العالم.
هذه المستديرة حين تهتز في الملاعب الخضراء يصاحب اهتزازها الكثير من ضربات الحظ ومهارات الإبداع ولمسات اللاعبين وتقلبات القدر واختلاف المصائر المتجددة بين النصر والخسارة ؛ لكن في كل تلك الحالات يصاحبها أيضا إبداع حقيقي فلا يخرج المهزوم بإحساس الخسارة المرة في بعض الأحيان إلا لأن الحظ خذله عبر اهتزاز خفيف لتلك المستديرة في شباكه ، بالرغم من اللعب الجميل الذي يقدمه في الملعب.لا تتوقف الحركة ولا يفتقد المشاهد والمتابع حيوية ذلك الإبداع ؛ إنها حساسية جميلة لحركة الكرة تصنعها أقدام اللاعبين لتمرير مهارات متجددة تعكس باستمرار تموجات موازية لهسيس الأصوات البشرية في مقاعد الفرجة ومدرجات المشجعين. الحركة في الملعب تحتفل دائما بزخم العنفوان والسرعة في مشهد يتفاعل ويهتز باستمرار عبر تلك الحرب الرمزية للعواطف المتبادلة بين مشجعي الفرق ، ومحبي الإبداع الإنساني المنحازين لأحزاب الإبداع الكبرى في تلك الفرق العالمية كالبرازيل والأرجنتين. وإذ لا يكف هسيس الأصداء البشرية حين يموج في المدرجات عن شحن حركات الإبداع في أقدام اللاعبين فهؤلاء بدورهم أيضا لا يكفون عن تحريك ذلك الهسيس البشري مجددا بهز الشباك... تظاهرة المونديال حدث عالمي لتفجير الكبت الإنساني النظيف إلى أقصى درجات التوتر الحاد بالانخراط في موسم كوني للفرجة تشترك فيه مشاعر الملايين حول العالم نحو نزوع حقيقي للإحساس بإبداع إنساني صاف ، وتجديد مشاعر حماسية متبادلة بين مشجعي الفرق المشاركة ، كما للشعور الحقيقي بمواطنية عالمية ربما لا تأخذ صورتها الإنسانية الشفافة إلا من خلال المونديال. ففي هذا الشهر تتركز أنظار البلايين من البشر حول العالم في ملاعب الدولة المضيفة للمونديال ويشيع في العالم كله إحساس مهووس لمتابعة إبداع رياضي عابر للأجناس واللغات والهويات ومتخطيا لكل التوقعات التي تستقر عليها علامات البطولة في المونديال السابق. يصبح المونديال فضاء حرا لصناعة أمجاد جديدة في عالم المستديرة حيث تغيب أمجاد العالم الأخرى في المال والسياسة والقوة لتحضر مفاجآت الرياضة في لحظة سامية من لحظات الإنسانية السعيدة. إذ ينتظم الحدث شعور واحد لشهر واحد في أعظم موسم كروي يتوحد فيه إحساس العالم ؛ ففي ذلك الشهر يندر لأي إنسان في الأرض أن يكون تفكيره خارج هذه اللعبة أو الاستمتاع بها مهما كان موقعه ومهما كان بلده. كرة القدم في هذا الشهر هي مجاز مكثف لوحدة الشعور الإنساني ، وتذكير متجدد بإمكانية أن يكون هذا العالم مشتركا في الكثير من القيم العابرة للأجناس والألوان والهويات. ولوهلة ربما كان مستحيلا تصور إحساس واحد لبلايين البشر في مكان واحد بعيدا عن كل الانجذابات الأخرى التي تفرق البشر في ميادين السياسة والأفكار والأديان ؛ إنها الدرجة صفر لوحدة الإحساس بإنسانية مرحة في عالم مشحون بالتناقضات والاختلافات والهويات ؛ لكنها في الوقت نفسه أسمى لحظة تواصل جسدتها العولمة عبر تقنيات الاتصال لتصبح إحدى لحظات العولمة الأكثر إبداعا وبهجة. في فعاليات المونديال تظهر الكثير من المعاني الإنسانية المصاحبة للإبداع والحرية في كرة القدم ليس فقط للمهارات التي يعرضها لاعبو تلك الفرق ، وإنما أيضا للعلاقة الجدلية بين الإبداع والحرية. فربما كان موسم كأس العالم هو باستمرار موسم تجديد عميق لفكرة العلاقة النبيلة بين كرة القدم كإبداع وبين الحرية كبيئة لذلك الإبداع ؛ فحين يتجلى الإبداع في أسمى علاماته عبر ذلك المونديال يشيع إحساس لدى كل الناس بأن الرياضة الآن وهنا هي عود متجدد إلى متعة صافية لكل من ابتعد عنها لأي سبب من الأسباب التي جعلت من هذه الرياضة الإنسانية وسيلة لأغراض أخرى خارجة عن معناها النبيل كما هي للأسف في عالمنا العربي حيث تنفك العلاقة عن معناها الحقيقي بين كرة القدم وبين فلسفتها كلعبة إنسانية توظف للمتعة المجزوءة في حياة البشر ، وتدخل في علاقات أخرى تبدو فيها كنشاط ممل لإلهاء البشر عن حقوقهم الأخرى بحسب تلك التوظيفات التي اختطفت كرة القدم وشوهت مجازها ودلالتها التي لا يمكن أن تستعيدها إلا كل أربع سنوات في المونديال. ففي موسم المونديال تغيب في الغالب كل الدول التي تجعل من هذه اللعبة وظيفة لإلهاء الناس عن معنى حياتهم. والمفارقة هنا أن الزخم الذي تشهده كرة القدم في تلك الدول ـ ومنها الدول العربية ـ يتبخر فجأة عند موسم المونديال ويجد كل عاشق لكرة القدم في معناها الإنساني متنفسا حقيقيا للاستمتاع بجمال وإنسانية هذه اللعبة. وليس مصادفة أن تكون أغلب دول العالم التي تشارك في المونديال باستمرار هي الدول الديمقراطية المتقدمة ؛ تلك الدول التي تضع رياضة كرة القدم في مسارها الإنساني الصحيح أي كفضاء للحرية والمهارة وبعيدا عن أي توظيف في السياسة أو الآيدلوجيا. ولهذا ربما كان من المفارقات أيضا أن بعض الفرق التي تمثل بعض بلدان العالم الثالث ـ لا سيما إفريقيا والعالم العربي ـ تكون منتخباتها ذات مهارات مكتسبة عبر أسباب خاصة بلاعبيها ، وليس نتيجة لعلاقة طبيعية بين كرة القدم وفلسفتها في ذلك البلد ، أي أن قوة بعض منتخبات العالم الثالث تكون فقط لأن مجموع لاعبي الفريق هم من المحترفين في بلدان أوربية. وفي الأغلب الأعم تخرج مثل هذه الفرق منذ الدور الأول للمنافسات إلا في مناسبات نادرة.
وربما كانت (غانا) استثناء من ذلك لما لهذا البلد الإفريقي من حيوية ديمقراطية مرتبطة بكرة القدم. فهذا البلد الديمقراطي في غرب أفريقيا توازت حظوظه بين الديمقراطية والحرية الرياضية ليكون ضمن الفرق الصاعدة إلى أدوار أخرى. وربما كان أعمق دليل على علاقة رياضة كرة القدم بالديمقراطية والازدهار من حيث اعتبارها إبداعا لا يزهر إلا في أرض الحرية ؛ هو ظهور منتخبات لدول ديمقراطية أخرى من خارج أوربا مثل الولايات المتحدة ، وأستراليا ، ونيوزيلندة وكوريا الجنوبية
وبما أن المونديال هو موسم إبداع حقيقي لكرة القدم فإن الشرط الإنساني للإبداع يكون حاضرا باستمرار أي تلك اللحظات التي يكسب فيها من يلعب بمهارة ، فحين يحضر الإبداع تغيب كل التمايزات الأخرى لشعب عن شعب أو لدولة عن أخرى مهما كانت مكانتها ، وهنا في العادة تحضر المفاجآت وينتصر الإبداع مع بعض الحظ لمن يخلص له ويجتهد ؛ وهكذا حدثت مفاجآت عجيبة في هذا المونديال كخروج فريقا فرنسا وإيطاليا من منافسات الدور الأول حين لم تشفع لهما أي مكانة سابقة في المونديال السابق.
[email protected]