هناك ثلاث دوائر تلتبس بها الآيدلوجيا في المنطقة العربية فيحدث التباسها ذاك تشويشا كبيرا لا يكون مانعا من رؤية الذات فحسب بل وكذلك مانعا من رؤية الآخر القريب والبعيد. ففي هذا الجزء من العالم لم يحدث حتى الآن فرز يقوم على الوعي ويؤدي بالتالي إلى موضعة المفاهيم في إطارات معرفية يمكن أن تكون ملكية مشتركة للجميع ولها القدرة على التحرر من مضامين الآيدلوجيا.
هذه الدوائر الثلاث التي تتمثل في الدين والوطن والطائفة (القبيلة) تظل مفاهيمها الآيدلوجية باستمرار هي الشكل الظاهر للتخلف حيث تتداخل هذه المفاهيم عبر أفكار رثة ومتخلفة لتخلق تشويشا واضحا في ذهن الإنسان العربي وتعيق طاقته على الانطلاق. لو أجرينا استطلاعا عاما عن علاقة هذه المفاهيم الثلاثة ببعضها في تصورات الإنسان العربي لرأينا ملامح ذلك التشويش ظاهرة. سنرى الدوائر متداخلة ومتشابكة بصورة تؤكد معنى ذلك التشويش وتدل دلالة واضحة على عمق الأزمة التي يعيشها الإنسان العربي على مستوى المفاهيم التي تحرك حياته.
وفي مثل هذا الواقع يمكن بسهولة أن يكون الدين بديلا للوطن، وأن يكون حب الوطن من الإيمان، وأن يكون المحرك الحقيقي لسلوك الفرد هو غرائزه العصبية والطائفية والقبلية، كما يمكن بسهولة تصوير تلك الغرائز على أنها مشاعر وطنية ودينية. وبحسب هذه التأويلات المتخلفة يمكن أن يحل زعيم الطائفة مكان الزعيم الوطني والعكس صحيح.
صحيح أن هناك الكثير من الالتباسات التي رافقت مراحل تكوين وعي ونضال المجتمعات العربية ضد الاستعمار بصورة تداخلت فيها الكثير من هذه المفاهيم الثلاثة دون أن تتطور بعد ذلك باتجاه فرز معرفي يعيد موضعتها في ذهن الإنسان العربي للأسف. فأغلب حركات التحرر الوطني إبان الاستعمار كانت ذات محفزات دينية في الأصل وكان قادتها علماء دين (عبد القادر الجزائري في الجزائر ـ عبد الكريم الخطابي في المغرب ـ السنوسي في ليبيا والمهدي في السودان وغيرهم) لكن نفس هذه الحركات توصف في أدبيات المجتمعات العربية بالحركات الوطنية وهذا الخلط الذي شفعت له مرحلة التحرر من الاستعمار كان باستمرار مانعا من القدرة على تحويل الوعي بتلك المفاهيم إلى ثلاث مجالات يمكن أن يحكمها إطار واحد كإطار الوطن مثلا ؟ لكن ما جرى في الواقع هو أن هذه المفاهيم ظلت متداخلة باستمرار وبالتالي ظل تأثيرها على الواقع العربي المتخلف انعكاسا لذلك التشويش.
ربما كان هذا الالتباس عائد إلى طبيعة العلاقة المعقدة والملتبسة مع الغرب ؛ فهذا الغرب هو الذي استعمر هذه المنطقة في مرحلة سابقة، وهو أيضا الذي ابتدع مفهوم الوطن والدولة القومية كإطار حاكم لجميع علاقات المجتمع الأخرى. أي أن هذه الحركات التي كانت تناضل ضد الاستعمار بمحفزات ومشاعر دينية هي من طبيعة تكوينها التاريخي ظلت أيضا على إحساس مبهم بفكرة الوطن التي استلهمتها من تجربة الغرب على خلفية الحضارة الكبرى التي أنتجها في العصر الحديث وهي حضارة ذات تأثير كبير جدا في العالم لا سيما العالم العربي.
هكذا ظلت هذه المفاهيم متداخلة دون قطيعة مريحة أو فرز معرفي يمكن أن يؤثر في واقع هذه المجتمعات المشوشة حتى حدثت وقائع تاريخية كبرى في نهاية القرن الماضي زادت الطين بلة وأدت إلى خلخلة التوازنات الضامنة ـ ولو من ناحية شكلية ـ لثبات صورة الحياة الكلاسيكية في المجتمع العربي حتى ثمانينات القرن الماضي. فمع انهيار المعسكر الاشتراكي و العولمة و ثورة الأنفوميديا، ظهرت عصبيات ما قبل الحداثة: (الطائفية والقبيلة والاسلاموية) مرة أخرى وبصورة عارية لتحل تماما محل الشعارات الشكلية للوطنية الرومانسية المفترضة التي تغنت بها المجتمعات العربية طوال القرن الماضي دون أن تعي معناها الموضوعي، وبدت حيثيات كثيرة لتلك الأشكال ما قبل الحداثية هي المسيطرة في وعي الناس الأمر الذي دل تماما على فداحة ذلك التشويش وفداحة تأثير الايدلوجيا في الواقع العربي... لقد ظن كثيرون أن ثمة علاقة جدلية مباشرة بين التعليم ـ أي فك الحرف وتعلم الصنعة والاختصاص ـ وبين القدرة على التحرر من أسر تلك المفاهيم المشوشة بفعل التخلف، فيما كان الواقع يدل على خلاف ذلك ويؤشر على خطورة ذلك التشويش الآيدلوجي لتلك المفاهيم.
والحال أن ما يجري اليوم في لبنان مثلا كبلد نال حظا وافرا ومتقدما من التعليم لايدل على تلك العلاقة العضوية بين التعليم والتحرر من تأثير العلاقات الطائفية والقبيلة وغيرها. ولقد أخذنا لبنان كنموذج فقط وإلا فإن انعكاس تأثير الآيدلوجيا الدينية والطائفية والقبلية هو الطاغي في المنطقة العربية وبين دولها.
ثمة وعي مفقود في الإدراك العام للإنسان العربي بقيمة الفرز الضروري بين هذه الدوائر الثلاث لتأثير الايدلوجيا لحساب فكرة واحدة هي فكرة الوطن، وسيظل غياب فكرة الوطن بمعناها المعرفي وبكونها الفكرة الحاكمة لجميع علاقات المجتمع عبر علاقة المواطنة، مؤشرا واضحا على وجود التخلف كبنية فاعلة في تشويش نظم الإدراك، ما يعني أن الشعارات التي تطرحها تيارات الحراك السياسي هي شعارات تمس ذلك الشعور الرومانسي للأفكار الوطنية والقومية، فيما يظل وعيها الباطن رهين لتلك الآيدلوجيا الدينية والطائفية والقبيلة وبصورة متداخلة على نحو بائس غريب.
إن فك الارتباط العشوائي المؤدلج بين تلك المفاهيم الثلاثة سيظل هو رهان المعرفة والخلاص في مسيرة هذه المنطقة نحو الاستقرار والتنمية والسلام.
لابد من إعادة تحرير المفاهيم برؤية تضمن الخلاص من ذلك الإرث الثقيل للآيدلوجيا وما كلفته من أثمان دفعتها شعوب هذه المنطقة ومازالت تدفعها.
ربما لا يكون هناك استقرار سريع على نتائج المعرفة المؤدية إلى الخلاص من هذا التشويش الحاصل بين هذه المفاهيم الثلاثة بفعل تحولها عبر الآيدلوجيا إلى عقائد حلت محل الدين دون أن تدرك معناه المعرفي، وتقنعت بالطائفية والقبيلة دون أن تدرك ما يمكن أن تجره من أخطار تهدد النسيج الاجتماعي لهذه الشعوب، لكن مابات في حكم المؤكد أيضا هو أن آثار هذه الآيدلوجيا الكارثية في الواقع أصبحت من حقائقه المرة والماثلة للعيان الأمر الذي قد يؤدي بذاته إلى الاقتناع بضرورة الفرز بين هذه المفاهيم المؤدلجة للدين والوطن والطائفة.
[email protected]