التحولات السياسية والاجتماعية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط تجري دائما بطريقة نسقية أي في إطار مغلق، فهي لا تنفتح على آفاق يمكن أن تعكس ضوءا في نهاية النفق. ولعل أبرز مثال على ذلك هو قضية الشرق الأوسط ذاتها والتحولات التي تصاحب (عملية السلام). فهذه العملية ظلت باستمرار تصل إلى آفاق مسدودة يتم تنشيطها في كل مرة تحت أسماء أخرى وعناوين أخرى للاتفاقات إياها، فيما يظل المسمى واحدا ويحيل باستمرار إلى نهاية واحدة: الانسداد.
بالقطع ثمة قواعد خفية وقوانين تجعل من ذلك التحول النسقي هو الشكل الوحيد للحراك السياسي في هذه القضية.
والحال أن ما يتصل عميقا بذلك الشكل النسقي لا يظهر فقط في عملية الشرق الأوسط بل في مجمل الحراك السياسي والاجتماعي الذي تمر به هذه المنطقة.
وبالرغم من صعوبة التحديد الدقيق لتلك الموانع المعيقة للإصلاح والتقدم في هذه المنطقة فإن نظرة ما في طبيعة العلاقات المتصلة بالبنى الفكرية والاجتماعية والسياسية ورؤية العالم من خلالها تجعل من ذلك الاستعصاء قابلا للفهم بصورة عامة. وهو فهم لا يضمر تفصيلا وافيا ولكن بالتأكيد يشير إلى علامات حقيقية كامنة في ذلك الواقع.
لقد تم طوال القرن العشرين إطلاق الكثير من الأفكار والمشروعات في المنطقة العربية، حاولت أن تكون باستمرار مستلهمة ومواكبة لتحولات الحداثة في الغرب، فيما كانت في الواقع استنساخا فجا وبلا إبداع ؛ ابتداء من فكرة الدولة القومية، وفكرة الوطنية والديمقراطية وغير ذلك من المفاهيم التي حال دون تحقيقها ذلك الاستعصاء المزمن حتى أصبح الحال أشبه ما يكون باللغز، وإلى درجة بتنا نرى فيها الإجابات تتحول إلى أسئلة والعكس صحيح على ألسنة (المحللين السياسيين) الذين يملئون الفضائيات العربية كأن يقول أحدهم في محطة فضائية ما: (إن سبب غياب الديمقراطية هو الاستبداد والقمع) ثم يجيب في محطة ثانية بأن(سبب القمع والاستبداد هو غياب الديمقراطية) دون أي انتباه للتناقض الظاهر في مثل هذه العبارات الهوائية.
لقد بدا واضحا أن تفريغ المفاهيم من معانيها ليس فقط علامة على الجهل بها فحسب بل وكذلك على حقيقة التخلف الذي يضرب هذه المنطقة في أعمق بنياتها الاجتماعية والفكرية والسياسية.
إنه الولع المجاني لدى النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية بالتمثل الخادع والسريع مع الكثير من المفاهيم العصرية التي أنتجتها الحداثة، والتي بطبيعتها تحتاج إلى تاريخ أنطلوجي (تربوي) طويل لتأسيسها في الواقع ولتحويلها إلى ملكية عامة في أفكار الناس ورؤيتهم لها.
حدث كل ذلك عبر عقود طويلة من التجارب الفجة والفاشلة لتمثل المفاهيم الفكرية والسياسية في بنى تقليدية وما قبل حداثية وبطريقة تنحو إلى تشييء الأفكار ونزعها من سياقاتها التاريخية دون أن يتم تمريرها بحالة إبداع خاصة وتراكم خلاق.
لقد أخذ عصر الآيدلوجيات في المنطقة العربية، زمنا طويلا وبلا جدوى تقريبا وهي آيدلوجيات شغلت الأحزاب العقائدية الناشطة لأكثر من نصف قرن ليس فقط عن اكتشاف صورة خاصة للوطن و النظر إلى مشكلاته بحسبانها تحديات كيانية تقتضي فهم إشكالات البنية الداخلية لمعادلات النسيج الوطني الضامن لعملية التنمية المستدامة ؛ بل وكذلك عن مفهوم الحداثة عموما. ففيما كانت الكثير من مفاهيم الحداثة مثل: الدولةـ الأمة، والهوية، والطبقة الوسطى، والديمقراطية مفاهيم غير مؤسسة بمعناها المعرفي العميق ؛ كان هناك تصور طوباوي لدى تلك النخب رأى في البنية الاستعمارية للدولة، وفي بحبوحة عصر الاستقطاب الدولي 1945 ـ 1991 ما أوهمها بتحقق الكثير مما لم يكن متحققا في الحقيقة من مفاهيم الدولة القومية ـ الطبقة الوسطى ـ الوطنية وغيرها، بحيث لم تظهر أعراضه المدمرة الكاملة إلا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي حين أدرك الجميع معنى العبث في تلك ألأيدلوجيات التي حالت دون رؤية الأسس الحقيقية لمفاهيم الدولة ـ الأمة (الدولة القومية) أو مفهوم الهوية الوطنية كنسيج لتلك الدولة، أو حتى مفهوم الطبقة الوسطى وغيرها من المفاهيم الحديثة. وهو ما أدى بعد ذلك إلى عودة وظهور (هويات ماقبل الحداثة) أي ظهور البنى الطائفية والقبلية والاسلاموية ذات الطابع الأوتوقراطي المتخلف، والتي كانت كامنة بالقوة ـ طوال تلك الفترة ـ وظهرت بالفعل كنتيجة لغياب المعنى الحقيقي لتلك المفاهيم وغيرها لا سيما بعد العولمة التي سرعت من مسألة صعود الهويات في كل العالم.
واليوم تمر المنطقة بأزمات متراكمة ويحدث فيها خلط عجيب تتداول فيه تلك المفاهيم دون أي تمثلات موضوعية وواقعية لها، ولهذا نتجت الفوضى والحروب الأهلية الناشطة والنائمة دون أن يظهر في الأفق أي ضوء للخروج من هذا المأزق وبدا التفاعل السائب للفوضى هو الحراك الوحيد الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من الانسداد.
وبرزت الآيدلوجيا في أقنعة جديدة تعكس باستمرار أزمة مجتمعات هذه المنطقة وانعدام ثقتها بنفسها وخضوعها لأنظمة استبدادية لا تأخذ رصيدها في فعل الاستبداد من مجرد قوتها المادية فحسب، بل وكذلك وبالأساس من قابلية هذه الشعوب للاستبداد فالقابلية للاستبداد أسوأ من الاستبداد نفسه.
هناك حيثيات كثيرة ومركبة آلت بهذه المنطقة إلى ذلك الانسداد التاريخي الذي تمر به. وإذا جاز لنا التعريف بالسلب للتدليل على غياب ماهو مطلوب، دون أن يكون ذلك دليلا على تحديد ذلك المطلوب فيمكننا القول أن الحداثة هي الشرط الكوني للانخراط في العالم الحديث. ولكن هذه الحداثة لا تتحقق في كل منطقة إلا عبر إبداع حداثتها الخاصة. هكذا جرت تحولات الحداثة عبر هذا الأسلوب حتى في البلدان الأوربية، ولقد كانت الصورة أكثر وضوحا في بعض البلدان الآسيوية كاليابان وغيرها. للأسف لم يحقق العرب حداثتهم الخاصة لينخرطوا في العالم الحديث، وهذه الحداثة الخاصة رهينة بشرطين: الإبداع والحرية. بالإضافة إلى الكثير من الاستحقاقات التي تنتج عن زينك الشرطين كالمعرفة وما يتصل بها من علاقة بالمجتمع والتراث والتاريخ والدين والواقع. وهي كلها استحقاقات لو تم تحقيقها لانعكس ذلك في تحولات إيجابية وتقدمية.
للأسف يظن كثيرون أن القوة المادية والسياسية هي رافعة التغيير في هذه المنطقة، بيد أن التحولات التاريخية الكبرى في الشرق والغرب دلت على أن المعرفة والإبداع والحرية والحوار هي عناصر التغيير الحقيقي في كل مجتمع، وبغياب هذه العناصر كظواهر اجتماعية في هذه المنطقة فإن القوة السياسية والمادية الموجودة فيها لا يمكن أن تنتج واقعا مزدهرا، بل ستظل باستمرار تعيد إنتاج ذلك الاستعصاء المزمن.
[email protected]