ثمة الكثير من خطابات السياسة يتم تمريرها في المنطقة العربية عبر العديد من صور الآيدلوجيا و بأساليب قد لا تملك في ذاتها قناعة موضوعية إذا نظرنا إليها في سياقات أخرى، ولكنها تنهض بقوة على تلك الرافعة الآيدلوجية حيث تجد باستمرار تربة خصبة في عالمنا العربي. ونسبة للكثير من أوضاع الهشاشة والتشويش المتصلة ببنية المحيط العربي ودوله القطرية، والانسداد الذي يجعل من هذه المنطقة مفتوحة على الكثير من الأجندات الدولية والمصالح الإستراتيجية المرتبطة بها بصورة أو بأخرى ؛ فإن التحولات النسقية المغلقة والمعيقة لحراكها تضمن للكثيرين في المنطقة ساحة حية للتسويق الآيدلوجي، وبطريقة تتقاطع باستمرار مع مشتركات دينية وتاريخية في هذا الجزء من العالم.
والناظر المتأمل في الخطاب السياسي والآيدلوجي لبعض القوى الإقليمية (تركيا وإيران تحديدا) حيال هذه المنطقة يجد الكثير من المفارقات في بنية ذلك الخطاب. فهو خطاب استثمر بذكاء هشاشة المنطقة العربية سواء في الخلل الذي ظهرت به هذه الدول كدول قطرية عشية رحيل الاستعمار الكلاسيكي ـ رغم الإمكانية النظرية لتأسيس دولة أمة بشروط عقلانية ـ أو في قضية الشرق الأوسط التي أصبحت بصورة ما من معوقات النهوض العربي.
ومع أن التخلف هو السقف التاريخي الذي ينتظم المنطقة الإسلامية كلها بما في ذلك تركيا وإيران، إلا أن هناك بعض الفروق التي تلعب دورا كبيرا في كشف اختلاف مستويات تحقق مفهوم الدولة من ناحية، ومفهوم السيادة السياسة كإرادة حرة و سلمية في إدارة الشأن العام داخليا، وإدارة المصالح القومية خارجيا.
هكذا فيما تنشط خطى الدبلوماسية التركية والإيرانية على إيقاع ميزان القوى الدولية والمصالح الموضوعية لكل من تركيا وإيران، مع المحاور الإقليمية والدولية الأخرى ؛ تصبح الآيدلوجيا والشعارات هي المجال الحيوي في التعاطي مع قضايا المنطقة العربية ضمن الخطاب السياسي لكل منهما، وبطريقة قد تجعل من السهولة بمكان تحويل أردوغان إلى بطل، فيما تجعل من أحمدي نجاد قائدا تاريخيا لدى بعض شعوب هذه المنطقة.
يكمن السبب في تلك القابلية الهشة لدى شعوب المنطقة لتصديق خطاب الآيدلوجيا، كأسلوب يجعل من مجرد الشعار أو الموقف لهذا القائد أو ذاك كافيا لإثارة حماس يضخه المشترك الديني و التاريخي عبر إحساس خام ومؤدلج لا يقدر على الفرز والتجريد بين زيف الشعار وحقيقته.
صحيح أن التأييد للشعارات التي يطرحها كل من نجاد وأردوغان تجد صدى في نفوس هذه الشعوب المقهورة، ولكن الصحيح أيضا أن هذا التأييد هو الوجه الآخر لأزمة الكينونة وانعدام الوزن والخيبات المتجددة لتلك الشعوب حيال واقع الانسداد المزمن الذي تتخبط فيه.
وفي مثل هذه الحال من العجز عن إدراك رؤى مستقلة وقادرة على الإمساك بالمصير السياسي لتلك الشعوب ؛ تتحول طاقة الرموز إلى فضاء للتأويل الأيدلوجي ذلك أن العجز عن تفعيل المصالح الزمنية والمادية المنضبطة والقارة على رؤية للواقع السياسي ضمن حراك واع في حياة تلك الشعوب يجعل من الآيدلوجيا أداة تعويم للأوهام وإعادة تجديدها في العديد من المواقف التي يصاحبها الكثير من التشويش أحيانا، والدعاية المجانية أحيانا أخرى.
هكذا يمكننا أن نفهم تجيير موقف أردوغان الشهير في دافوس قبل عامين (كان في الأصل مجرد احتجاج على عدم المساواة في الوقت بينه وبين شمعون بيريز) ضمن سياق بطولي، صور للكثيرين كما لو كان انسحابه من الجلسة احتجاجا على وجود بيريز، الأمر الذي رفع من شعبيته في المنطقة العربية. وبطبيعة الحال فإن السياق الآيدلوجي في مثل هذا الموقف وطريقة تخريجه عبر مؤثرات إعلامية متقنة كاف بذاته لتجميد صورة تركيا الأخرى ؛ تلك التي يغيب معها حقيقة التحالف الاستراتيجي العسكري مع إسرائيل والعلاقات الطبيعية المندرجة في خانة الواقع الصلب للمصالح القومية التركية مع إسرائيل (وضمن هذه المصالح تأتي تهنئة الرئيس التركي لإسرائيل هذه الأيام بعيد quot; استقلالها quot; في العام 1948 أي عام النكبة الفلسطينية ذاته بحسب وكالات الأنباء).
أما مناقب القائد التاريخي (أحمدي نجاد) في المنطقة العربية فتأتي عبر ذلك الهجاء المجاني لأمريكا وإسرائيل ليطرب ويدغدغ مشاعر الكثيرين في المنطقة العربية. فأثناء حرب إسرائيل على غزة، فيما كانت إيران تضخ التهييج المجاني ضد إسرائيل وأمريكا عبر شعاراتها ؛ كان مرشد إيران علي خامنئي يمنع عبر فتوى دينية، شباب إيران عن المشاركة الفعلية في الحرب !!؟.
ثمة اطراد عجيب في علاقات كل من تركيا وإيران على مستوى الخطاب السياسي مع العرب يكشف التبديل المعكوس لوظيفة الإرادة السياسية الحرة. ذلك أن تلك الإرادة السياسية الحرة (شرعية الحكم في كل من تركيا وإيران) ظلت باستمرار توظف طاقة الكلام المجاني ـ لا سيما الكلام الإيراني ـ في المحيط العربي، فيما توظف المواقف الإستراتيجية والعملية لحساب المصالح المنضبطة والبعيدة عن الآيدلوجيا مع المحاور الأخرى: أمريكا وإسرائيل (مساعدة إيران للولايات المتحدة في إسقاط نظامي طالبان وصدام) في إدارة المصالح القومية حيث تغيب الآيدلوجيا تماما، فيما يراد للعرب وفق ذلك الكلام المجاني تغييب مصالحهم تماما وتحمل تبعات شعارات لا يمكن أن تجد لها وزنا في ميزان القوى الدولية وتؤدي بالتالي إلى استمرار وتجديد الكوارث السياسية في المنطقة. حيث ينظر إليهم كموضوع يتم التفاعل معه بدون ثمن.
إنه صراع القوى الحية في منطقة الشرق الأوسط الذي يعكس مدى فداحة غياب غطاء القوتين الأساسيتين للبقاء : (قوة الديمقراطية. والقوة النووية) عن المنطقة العربية وبالتالي يجعل منها ساحة للصراع.
وهكذا نجد أن قناع جانوس المزدوج في الخطاب الآيدلوجي لتركيا وإيران حيال قضايا المنطقة العربية لا يعكس ما تستحقه علاقات المصالح الحيوية لهذه المنطقة ولشعوبها، فيما يظل الوجه الآخر من القناع على الضد من ذلك حين يتمثل علاقات المصلحة والعقل مع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في العالم. وعلى ضوء هذه الحيثيات فربما كان المسكوت عنه في واقع السجال حول المشروع النووي الإيراني بين كل من الولايات المتحدة وأوربا وإسرائيل أو مايسمى المجتمع الدولي وإيران لا يندرج في خانة توازن القوى بقدرما يندرج في خانة توزيع النفوذ بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل على ساحة المنطقة العربية.

[email protected]

هامش: جانوس : إله في الأسطورة الرومانية له وجهان من الخلف والأمام