شكلت ظاهرة الحركات الإسلامية إبان ظهور وامتداد ما يسمى بالإسلام السياسي في عقد السبعينات من القرن الماضي، في أعقاب تراجع التيارات القومية واليسارية، أو فشلها بعبارة أدق، عن تحقيق الوعود المعقودة عليها مع قيام الدولة الوطنية بعد الاستقلال، مثار بحث وجدل كبير لم ينته حتى الآن، مع تحول تلك الحركات من مرحلة النضال السياسي، ولاحقاً العسكري، ضد أنظمة الحكم العربية المحلية إلى مرحلة الكفاح المسلح والنضال ضد ما تسميه بقوى الاستكبار العالمي، الغرب والولايات المتحدة، بعد مرحلة من التحالف غير المعلن بينهما في الحرب في أفغانستان ضد الهجوم السوفيتي آنذاك ضمن سياق الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
ويندرج هذا الكتاب ضمن سياق الدراسات المهتمة بنبش الجذور المعرفية لفكر هذه الحركات، فيرى المؤلف المعروف باهتمامه بهذا المجال المعرفي، أن جدلية الديني والسياسي تمثل إشكالية كبرى ورئيسية لم تحسم بعد في فكر الحركات الإسلامية، مما يؤكد أنها ستسيطر على نقاشات النخبة الثقافية مستقبلاً، حيث تبدو المنفعة بين ممثلي السلطتين الدينية والسياسية محصورة بشكل رئيسي في تحقيق المنفعة لكلا الجانبين، وهو أمر تحرص بشدة كلتا السلطتين في توطيد أركانها وحفظ مكانتها في الهرم السلطوي في مجتمعاتنا المنهكة بانقساماتها الداخلية.
ومع قيام الدولة الوطنية الحديثة، انفصلت المرجعية الدينية عن المجتمع بضغط النخبة السياسية الجديدة، وانقسم المجتمع السياسي إلى فئتين متمايزتين: حاكمة ومحكومة، أما في دولة الإسلام فقد تداخل كل من السياسي والديني، فبعد أن وطد النبي صلى الله عليه وسلم دعائم الوجود الإسلامي بالمدينة وفق أسس دينية، قامت الخلافة بعده على اعتبار أنها امتداد شرعي لحكمه، لكن سرعان ما استعر الصراع السياسي في النصف الثاني من خلافة عثمان وانتهى بمقتله، وأفلت الزمام من يد الإمام علي بعد حروب دامت لسنوات خمس مع معاوية، وكانت الأطراف المتصارعة تستند جميعاً إلى النص الديني مع أن الخلاف كان في الأصل سياسياً.
ويناقش الكتاب عبر مجموعة من الأبحاث والدراسات والمقالات laquo;الظاهرة الإسلاميةraquo; الراهنة وجذورها النصية (القرآن والسنة) وتفاعلهما في الواقع، من خلال تعميق النظر في أطروحات ومقولات الحركات الإسلامية، ويردها إلى انتماء تلك الأطروحات إما إلى الرؤى العامة حول ظاهرة laquo;الإحياء الإسلاميraquo;، أو إلى وحدة المنطلقات التي تتأسس عليها كل جزئيات الكتاب واتساقها مع بعضها البعض، دون إنكار تأثر طرحه في الكتاب بمواقف المؤلف وتحيزاته الفكرية الخاصة.
وتناول الكتاب مسائل متفاوتة تتراوح بين الجذري: laquo;كالديني والسياسي في الإسلامraquo;، وlaquo;المرجعية الدينية والتشيع السياسيraquo;، والإجرائي: laquo;كالدستور في فكر الحركات الإسلاميةraquo;. وlaquo;الدعاة الجدد وما بعد الحداثةraquo;، وlaquo;قراءة لبرنامج الإخوان المسلمين في مصرraquo;، وlaquo;الصوفية ودورهم الموزع بين خدمة الحكام وإصلاح الأنامraquo;، وlaquo;قراءة في فكر أيمن الظواهري من خلال كتابه الأخيرraquo;، وlaquo;الحق في المقاومة بين الإسلام والمواثيق الدوليةraquo;، وlaquo;تساؤلات حول الشريعة في زمن العولمةraquo;.
ويرى المؤلف أن إصرار البعض على الاحتفاظ بالمرجعية الدينية كوعاء لهويتهم السياسية يشير إلى الدور الخطير الذي تلعبه المرجعية في تشكيل الوعي الديني والسياسي على حد سواء، إذ تعبر المرجعية عن نفسها بشكل عفوي في الممارسات اليومية وتحدد استجابات البشر وردود أفعالهم تجاه القيم والثقافات الأخرى، ومن ثَم تكمن خطورتها من ناحية في الدور الذي تقوم به خاصة فيما يتعلق بتشكيل الوعي وصياغة الإدراكات السياسية والأخلاقية والاجتماعية. كما تكمن خطورتها في سهولة توظيفها سياسيًّا وأيديولوجيًّا دون فهمها، فضلاً عن عدم القدرة على تحمل تبعاتها. ويؤكد على غموض مفهوم المرجعية الدينية في خطاب الإسلاميين وتشرذمها بين المرجعية السنية والسلفية والصوفية والشيعية وغيرها، وفي موقفها من باقي المرجعيات الأخرى، حال تبني إحداها.
ويرى المؤلف أن مسؤولية المرجعية الدينية في الفكر الشيعي تتنوع ما بين الإفتاء، والولاية، والقضاء. وتعني المرجعية في الفتيا رجوع الأفراد الذين لا يمكنهم معرفة الحكم الشرعي بصورة مباشرة إلى أهل العلم والخبرة (المجتهدين العدول) وتقليدهم في معرفة الحكم الشرعي.
لكن الملاحظ أن السمة العامة للكتاب تظل المسحة الصحفية باعتبار كونه مجموعة من المقالات والأبحاث المجموعة على مدى فترة زمنية، وهو ما أفقد الكتاب نزعة العمق والتخصص البحثية، وجعل فصول الكتاب أقرب إلى محاولة تقريب بعض ما يجول في فكر الحركات الإسلامية، دون إغفال النزعة التحيزية في مقاربتها.
هشام منور...كاتب وباحث
[email protected]