لا تزال الدراسات الأكاديمية التي تتناول كيفية تشكل القوى العظمى، وبالذات الولايات المتحدة، تتناسل محاولة كشف أسرار التوليفة التي تتشكل منها القوى العظمى والبنى السياسية والاقتصادية التي ساعدت على تبوئها المكانة على الساحة الدولية.
لغريب في كتاب د. عبد القادر محمد فهمي quot;الفكر السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركيةquot; (دار الشروق، عمان، 2009م)، أنه يطرح إشكالية صعود وتفوق الولايات المتحدة على أساس أنها واحدة من المسلمات أو الحتميات التاريخية التي مهدت لحالة التفرد الأمريكي في العالم، كما يستعرض الكتاب الأسس البنيوية للفكر السياسي والاستراتيجي الأميركي من خلال عدة محاور، ففي المحور الفكري الديني، يؤكد المؤلف أن المجتمع الأميركي يجمع بين كونه مجتمعاً علمانياً يفصل بين الدين والدولة، ويمنع دستوره اعتماد دين معين، وبين كونه مجتمعاً متديناً يشكل المتدينون فيه نسبة تتجاوز 80%. ويصف هذه الخاصية المركبة بالدين المدني الذي ارتضاه الجميع، وهو نوع من الاقتناع الشعبي لا تختلف في نهايتها الفكرية الإيمانية عند العلمانيين والمتدينين، وهو نقطة التقاء بين المعتقدات والالتزامات الدينية والفلسفية الغربية وبين المعتقدات الشعبية لدى الأميركيين عامة.
المحور الثاني هو المحور السياسي ـ الاقتصادي الذي تشكل بأسلوب تراكمي، وكان للحرب الأهلية الأميركية دور كبير في ترسيخه. وهو ما طرح فكرة الارتباط بين القوى السياسية والاقتصادية وعزز من توجه الدولة نحو مزيد من الحرية الاقتصادية، والتوجه نحو مزيد من السيطرة والاحتكار والتكتل لتدعيم فكرة الدولة القوية. أما المحور الثالث، فهو المحور الفكري ـ البراغماتي، وهو اتجاه فكري فلسفي يركز على المنفعة كقيمة عليا، وتكمن في القدرة على تحقيق المصلحة الذاتية. وظهر هذا الاتجاه كنتاج للتحولات التي مر بها المجتمع الأميركي خلال تحوله من مجتمع زراعي تقليدي إلى مجتمع صناعي معاصر ليتربع بعد ذلك على عرش الثقافة الأميركية، ولتصبح السياسة الأميركية الترجمة السلوكية الحقيقية لنمط التفكير البراغماتي.
ويتحدث الكتاب عن أدوات السيطرة والتحكم على الصعيد العالمي لاستكمال المشروع الأميركي للهيمنة، فعلى المستوى الاقتصادي أكدت السياسة الأميركية باستمرار على تنمية علاقاتها الاقتصادية مع باقي دول العالم. ومن بين المؤسسات التي أسهمت الولايات المتحدة في تأسيسها صندوق النقد والبنك الدوليان ومشروع laquo;مارشالraquo; المقدم عام 1947 بهدف إنعاش اقتصاد أوروبا الذي انهار بعد الحرب العالمية الثانية. وكان لهذا المشروع بعض الأهداف السياسية ـ الأيديولوجية لمنع وقوع الدول الأوروبية تحت الاستقطاب الاشتراكي، والتوجهات الاقتصادية التي تهدف إلى أن تكون أسواق أوروبا سوقاً لتصريف منتجات الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى المستوى السياسي، شكلت المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، ثمرة سياسية لجهد عسكري كلل نجاح الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، عملت على دعم الهيمنة على المستوى العالمي، وأداة لصياغة نظام عالمي جديد يتوافق وإرادة الدول المنتصرة في الحرب. كما استخدمت مفردات الشرعية الدولية والديمقراطية وحقوق الإنسان كذرائع للتدخل العسكري لتغير الأنظمة لأخرى لتكون أكثر موالاة للولايات المتحدة في إطار سعيها لإحكام سيطرتها على الصعيد العالمي. وعلى المستوى الاستراتيجي العسكري ـ الأمني، استخدمت الولايات المتحدة عدة استراتيجيات في إطار صراعها مع المعسكر الشرقي، ومن هذه الاستراتيجيات: استراتيجية الاحتواء، والانتقام الشامل، والاستجابة المرنة، والتدمير المؤكد. وإلى جانب الاستراتيجيات الأمنية، تقف القوة العسكرية بشقيها التقليدي والنووي، ومنظمة حلف شمال الأطلسي التي لا تزال تحتفظ بدورها الاستراتيجي على الرغم من زوال حلف laquo;وارسوraquo;.
خلاصة القول: إن الكتاب مثّل محاولة لتوضيح صورة تحول الولايات المتحدة إلى قوة عظمى والأدوات التي ساعدتها واستخدمتها للوصول إلى ذلك، إلا أنه كان بحاجة إلى مزيد من التركيز على الأدوات السياسية والعسكرية التي أسهمت في تربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش العالم بشكل أكبر، ومآل ومستقبل هذه القوة العظمى في ضوء التطورات الجارية، وصعود منافسين آخرين كالهند والصين، ومدى تأثر المصالح الأمريكية بالاضطرابات السياسية التي تتعرض لها في مناطق الشرق الأوسط وأفغانستان.

كاتب وباحث
[email protected]