عنوان الكتاب: التحول الكبير (الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر).
المؤلف: كارل بولاني.
المترجم: محمد فاضل طباخ.
الناشر: المنظمة العربية للترجمة، طبعة أولى، 2009م.
عدد الصفحات: 570 صفحة.


لا تزال الدراسات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة تدين في كثير من إصداراتها إلى مرحلة الثورة الصناعية ومنعكساتها على تاريخ البشرية. ولما كانت دراساتنا العربية لا تزال، في كثير من نتاجها، تنزع إلى الاقتباس والأخذ عن نظيراتها الغربية، فإن اكتناه تلك الدراسات الأصلية يسهم في توضيح دارسينا ونتاجاتهم العلمية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
يحاول الكتاب دراسة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي جلبها التحول الكبير بعد الثورة الصناعية التي يعتبرها الكتاب منعرجاً في تاريخ البشرية. فيرى أن القرن التاسع عشر أنتج ظاهرة لم يسمع بها في تاريخ الحضارة الغربية، وهي سلم المئة سنة (1815-1914)، وهذا السلم لم يكن ناتجاً لانعدام أسباب النزاع، بل يعود إلى ما يسميه المؤلف إلى التمويل العالي المستوى. ويقصد به المؤسسات المالية الكبيرة التي تقوم بإقراض المؤسسات الأخرى والدول، وتمارس نوعاً من السيطرة عليها، مما هيأ الوسائل لإقامة نظام سلم عالمي. وكان على التمويل العالمي أن يتصدى للطموحات المتنازعة ولدسائس القوى العظمى. وتمثل تأثير التمويل العالي المستوى على القوى العظمى في صالح السلام في أوروبا دوماً، حيث كانت القروض وتجديدها متوقفين على الائتمان، والائتمان متوقف على حسن السيرة والسلوك، ونتيجة لذلك لم يصادف أي وقت لم تتمثل فيه الرغبة في السلام في مجالس المجموعة الأوروبية.
يضاف إلى ذلك الرغبة المتنامية في السلام داخل البلدان، حيث ضربت عادة توظيف المال بجذورها، مما نتج عنه هذا السلم المسلح بعشرات من الدول المستنفرة عملياً، والتي تحوم فوق أوروبا من 1871 إلى 1914 من دون أن تنفجر في نزاع هدام. ويرى الكتاب أن القبضة الحديدة للتمويل على الحكومات المغلوبة تستطيع أن تتجنب الكارثة، ويستشهد بحالة تركيا، فهذه الأخيرة حين تخلفت عن دفع التزاماتها المالية عام 1875 اندلعت الحرب فوراً، وعندما وقعت معاهدة برلين استمر الحفاظ على السلم لست وثلاثين سنة. وفي الفترة الأولى كانت الطبقات الوسطى قوى ثورية تهدد السلم كما شهدت بذلك الانتفاضة النابليونية، فكان أن نظم الحلف المقدس سلمه الرجعي ضد العنصر الجديد الذي بعث الفوضى، وفي الفترة الثانية انتصر الاقتصاد الجديد فأصبحت الطبقات الوسطى نفسها مدافعة عن مصالح السلم في ظل الطابع الوطني العالمي للاقتصاد الجديد.
ينطلق الكتاب من أن الفكر الاقتصادي الحديث يستند إلى مفهوم للاقتصاد كنظام متداخل للأسواق التي تلائم آلياً بين العرض والطلب من خلال آلية السعر. ويرى أن الاقتصاديين ظلوا يعتمدون المفهوم للاقتصاد كنظام يحقق التوازن بين الأسواق، إلا أنه يؤكد أن هذا النظام مختلف تماماً عما هي عليه المجتمعات الإنسانية عبر تاريخ البشرية. ويستند المؤلف في هذا الرأي إلى تمييزه بين السلع الحقيقية والسلع الزائفة. وتعرف السلعة بأنها الشيء الذي أنتج كي يباع في السوق، ووفقاً لهذا التعريف تعتبر الأرض والعمل والمال سلعاً زائفة؛ لأنها في الأصل لم تنتج لبيعها في السوق، وانطلاق الاقتصاد الحديث من اعتبار هذه السلع سلعاً حقيقية له مخاطر كبيرة على المجتمع.
يرفض المؤلف اعتبار هذه السلع الزائفة سلعاً حقيقية وذلك لسببين، الأول أخلاقي يعتبر معاملة الطبيعة والبشر على أنهما أشياء يتقرر سعرهما من قبل السوق هو انتهاك للمبادئ التي سادت في المجتمعات لفترة طويلة. والسبب الثاني هو دور الدولة في الاقتصاد، والذي يجب أن تقوم بدور مستمر في ضبط عرض المال والقروض لتجنب مخاطر التضخم والانكماش، وتقديم العون في فترات البطالة.
ويذهب إلى أن مجتمعات السوق تنشأ من حركتين متعارضتين، حركة دعه يعمل، والحركة النقيضة لها وهي المحافظة، والتي تحاول رفع طوق المجتمع عن السوق، وهي محاولة قامت بها كل فئات المجتمع، ذلك أن الانكماش الاقتصادي الذي يحصل بين الحين والآخر يؤدي إلى تعطيل النظام المصرفي. لقد أراد ليبراليو السوق إنشاء اقتصاد عالمي فيه أقصى ما يمكن من الفرص لتوسيع مجال الأسواق عالمياً، وكي يحقق الاقتصاد العالمي التنظيم الذاتي، كان لا بد من الالتزام بثلاث قواعد: أن يحدد قيمة عملته بالنسبة إلى كمية ثابتة من الذهب، وأن يلتزم ببيع وشراء الذهب بذلك السعر المحدد. وأن يؤسس كل بلد مخزونه المالي الداخلي على كمية الذهب التي يحتفظ بها في احتياطه، فتكون عملية التداول مدعومة بالذهب. وأن يعطي كل بلد المقيمين فيه حرية قصوى للدخول في صفقات اقتصادية عالمية.
وفيما يرى الكتاب أن معيار الذهب وضع آلية مدهشة للتنظيم الذاتي، إلا أنه يرى أن ثمة مخاطر كبيرة ناجمة عن العمل بمعيار الذهب، فعندما تم تبني معيار الذهب في سبعينيات القرن التاسع عشر كان له التأثير الكبير في تقوية أهمية الأمة. ويؤكد أن معيار الذهب الذي حلم به ليبراليو السوق كآلية تفتح مجال العالم للازدهار، انتهى على عكس ذلك حيث أرغمت صدمات معيار الذهب الأمم على تحقيق نفسها ضمن حدود منيعة. وحتى عندما انهار هذا النظام عند وقوع الحرب العالمية الأولى، سعى المسؤولون في مختلف الدول لاسترجاعه، وأعيد العمل به في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين عندما أرغمت الأمم على الخيار بين حماية معدل التبادل وبين حماية مواطنيها، وكان من خلال هذا المأزق أن ظهرت الفاشية، التي جاءت لكي تحمي المجتمع من أخطار السوق عبر التضحية بحرية الإنسان.
إلا أن النظام المالي العالمي الحالي يختلف كثيراً عن معيار الذهب، فمعدلات التبادل والعملات الوطنية لم تعد ثابتة في علاقاتها بالذهب، فمعظم العملات يسمح لها بتقليب قيمها في أسواق الصرف الأجنبية، كما توجد مؤسسات مالية عالمية قوية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تؤدي دوراً رئيسياً في إدارة النظام العالمي. إلا أن ليبرالية السوق تجعل الطلب على الناس العاديين لا يستمر، فالعمال والمزارعون وصغار الكسبة لن يستطيعوا تحمل نمط من تنظيم الاقتصاد يكونون فيه عرضة لتقلبات دراماتيكية.
فاشتداد حالات السخط تدفع النظام الاجتماعي إلى منحدرات خطيرة، يلجأ على أثرها القادة السياسيون إلى تحويل النقمة للتضحية بين أمرين إما الداخل أو الخارج، فتصور الليبراليين الجدد لن يؤدي إلى السلام، بل إلى نزاعات مريرة. يؤكد المؤلف ختاماً أن دورة الصراع يمكن إيقافها، ويستشهد على ذلك بإصلاحات روزفلت في الولايات المتحدة حيث وضع مجموعة من الآليات يمكن بواسطتها حماية الإنسان والطبيعة من ضغط قوى السوق عليها، وعبر سياسات الديمقراطية تقرر حماية المسنين بالاعتماد على الضمان الاجتماعي، ووسعت حقوق الطبقة العالمة لتشكيل اتحادات فعالة، منتقداً الرأي الليبرالي الذي يعتبر أن تدخل الحكومة في الاقتصاد سيؤدي إلى نتائج اقتصادية سيئة، فيرى أن توسيع دور الحكومات يمكن أن يكون بداية لحقبة من الحرية. مؤكداً على إمكانية الحفاظ على ليبرالية السوق دون أن تؤدي إلى أزمات اقتصادية، عبر تضافر جهود الأمم حول العالم لإخضاع الاقتصاد لسياسات الديمقراطية، ولإعادة بناء الاقتصاد على أساس التعاون الدولي.


كاتب وباحث
[email protected]