لئن شكلت حالة التقهقر والتراجع الحضاري التي أصابت الحضارة العربية الإسلامية حالة اتفاق، ولو ضمني، من قبل أطياف المشهد الحضاري العربي والإسلامي، فإن حالة laquo;الاتفاقraquo; تلك ما تلبث أن تتصدع مؤذنة بانحلال حالة التوافق على النتيجة، وذلك عندما يتم التطرق إلى أسباب ذلك التقهقر أو التراجع، وعوامله البعيدة منها والقريبة على حد سواء.
فالرؤية الحاكمة لـlaquo;الآخرraquo; فيما يخص تحمل جزء من المسؤولية عما آل إليه حال الحضارة العربية الإسلامية، تستند إلى مقولة (هنتنغتون) في laquo;صدام الحضاراتraquo;، ومحاولة النأي عن إيجاد أي قاسم مشترك بين كلا الحضارتين (الإسلامية والغربية)، وإنكار أي وجه لوجوده من خلال قيام laquo;الآخرraquo; بتأسيس حضارته على الأسس اليهودية ـ المسيحية وحدها، وجحود أي دور أو نصيب في ذلك للحضارة الإسلامية. وقد نسي أو تناسى بذلك laquo;الآخرraquo; أن الحقب التي ساد فيها الصراع بين المسيحية والإسلام تعد قليلة جداً إذا ما قورنت بتلك التي ساد فيها الصراع بين اليهودية والمسيحية، والتي بلغت شأوها وذروتها في المحرقة التي أقامها النازيون ضد اليهود.
لكن السبيل إلى تجاوز الأفكار المسبقة بين الجانبين يظل في تفعيل آليات الحوار وأساليبه، وتجاوز محاولات المغرضين للإيقاع بكلا الطرفين في مستنقع الصدام والجدل العقيم والمواجهة. ويشكل كتاب (الحوار مع الغرب.. آلياته ـ أهدافه ـ دوافعه) جزءاً من مشروع تأصيلي للعلاقة بين الحضارات والحوار مع الغرب، كما يدعي مؤلفوه (د. منى أبو الفضل أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة) و(د. أميمة عبود الأستاذ المساعد في جامعة القاهرة)، و( د. سليمان الخطيب رئيس قسم الفلسفة في جامعة المنيا).
تتناول الدكتورة ناديا محمود مصطفى (أستاذة العلاقات الدولية في بجامعة القاهرة) في مبحث مقدمة تحرير المشروع مقدمات مشروع حوار الحضارات الذي رعته كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في أبريل 2002م ، والذي هدف إلى تحقيق جملة من الأهداف تتعلق بدراسة الإطار النظري لموضوع برنامج العلاقة بين الحضارات وتشخيصه. ورصد وتحليل للمدارس النظرية والاتجاهات الفكرية المتنوعة. ورصد المبادرات العلمية في ساحة حوار الحضارات والثقافات والأديان على سائر المستويات. وتحديد أشكال مختلفة للحوار الغربي الإسلامي مع الدوائر العالمية الثقافية والغربية والشرقية. فضلاً عن التنسيق والتعارف بين المنظمات العربية والإسلامية في شأن تأسيس الحوار مع الآخر.
وتطرح المحررة مجموعة من التساؤلات حول صلة علم السياسة بمجال الدراسات الحضارية، شارحة الاجتماعات التحضيرية التي عالجت عدداً من القضايا والإشكاليات المعرفية والمنهجية النظرية في ضوء مجموعة من المحاور، وخلصت إلى تأسيس فكرة واحدة عن أهداف وغايات المشروع الحضاري.
في بحثها المعنون بـquot; النظرية الاجتماعية المعاصرة نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديلquot; للدكتورة منى أبو الفضل، ترى الدكتورة منى أن موضوع النظرية الاجتماعية المعاصرة هو شأن معقد وشامل بحيث يستعصي على التناول، ولا يمكن إنجاز نظرية اجتماعية عالمية إلا بمبادرة تقدمية بناءة، ثم تتناول النظام المعرفي التوحيدي والنظام المعرفي التجريدي المرتكزين على نموذجين ثقافيين متحاورين عبر التاريخ، هما النموذج الثقافي السطحي والنموذج الثقافي المتأرجح، وتوظيفهما في النظريّة الاجتماعية المعاصرة؛ ثم تعرض لمواقف وأفكار بعض الفلاسفة في مجال الميتافيزيقا والأخلاق، وآراء الشك في الأمور الغيبية، معرجة على مناقشة مفهوم الصراع في الثقافة الوسطية والتسامح الديني في الإسلام. إلا أنها لم تتعمق في طرح المواضيع المبحوثة بقدر ما اهتمت بسوق الانتقادات والاستنتاجات حول المفاهيم والأنظمة والأفكار المتداخلة في ثنايا أفكار الكتاب.
وناقشت الدكتورة أميمة عبود بحثها مفهوم الحوار والخطاب، في أربعة أقسام، تناول القسم الأول أسلوب الحوار وأنواع الحوار، والفرق بين الحوار والمناجاة الذاتية، والأساليب المتداخلة مع أسلوب الحوار كالاتصال الاجتماعي، والنقاش، والمحادثة، والمجادلة، والمناظرة، والسرد، والتنازع أو التخاصم، أو المثاقفة والتواصل، مع بيان أهداف وشروط وقواعد الحوار، ثم تعرض في القسم الثاني السياقات المختلفة لأسلوب الحوار. وفي القسم الثالث الإطار المفاهيمي والمنهاجي لتحليل الحوار. وفي القسم الرابع موضوعات الحوار وأطرافه ونتائجه.
وفي بحثه quot;أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب: دراسة العلاقة بين عالم الغرب وعالم المسلمينquot; تناول الدكتور سليمان الخطيب دراسة العلاقة بين عالم الغرب وعالم المسلمين من خلال أربعة محاور هي، حقيقة الغرب كمرجعية للخطاب والاستلاب. والخطاب الاستلابي في نقل أفكار الغرب. والتجربة الإسلامية في التفاعل الفكري. وآلية الانتقال: الضوابط والشروط. متعرضاً للأزمة الفكرية الَّتي يعاني منها العالم الإسلامي، وضرورة اليقظة الفكرية للعالم العربي والإسلامي من أجل مسايرة الركب الحضاري في ضوء انتقال الأفكار من حضارة الآخر (الغرب) إلى حضارة الأنا (الإسلام).
كما عرض لآراء فلاسفة الغرب حول تحقيق معنى الذات الحضاري، والمسار التاريخي لتطور الحضارة الغربية التي تحولت إلى تكالب استعماري على الشعوب المستعمرة، مبيناً مشكلة التبعية الحضارية، ومواقف الاتجاهات العربية منها. وقدم دراسة للتلاحق الفكري الحضاري، وما تميزت به الحضارة الإسلامية خلال الأطوار التاريخية، كما تناول في معرض حديثه عن آليات الانتقال، الضوابط والشروط المتعلقة بها مع بيان أثر الاستلاب الحضاري الغربي في العالم الإسلامي، وما يثيره من الانبهار الشديد بمثالية وحركية الحضارة الغربية، وأن الأزمة الحضارية التي يُعاني منها العالم الإسلامي والعربي تكمن في الانفصام الشارخ بين ذاتنا الثقافية وواقعنا الحضاري المُر، وأن لا سبيل للخروج من التردي الحضاري المعاصر سوى بالاقتباس من الآخر، ضمن الشروط والضوابط الدينية للعقيدة الإسلامية. ويختم بحثه ببيان إشكالية التغريب والعلمانية وآثارها على مستقبل العالم العربي والإسلامي، متسائلاً عن موقف الإسلام من تيار التغريب والاستلاب الفكري، وكيفية مواجهة هذه المعركة.
ويمكن القول: إن مستقبل العلاقة بين الحضارتين (الغربية والإسلامية) لن يشهد انفراجاً في المدى القريب ما لم يحكمها عدد من العوامل التي يجب أن تسود صيغة العلاقة بينهما، منها: أن يكف كل جانب عن محاولات الإلحاق الحضارية لكل منهما بالآخر، والاعتراف بأوجه التشابه والتماثل التي تطفو على ما بينهما من خلافات أو اختلافات، والإقرار بإمكانية التعايش السلمي بين الحضارتين لصالح البشرية جمعاء، وضرورة تحمل الغرب لمسؤولياته حيال العالم الإسلامي، بما يعني ذلك من وجوب التوقف عن النأي بنفسه عن تحمل ذلك الجانب من مسؤوليته في إنهاض الحضارة الإسلامية من غفوتها.
كما يتوقف مستقبل العالم الإسلامي ومستقبل علاقته بالآخر على مدى قدرته ونجاحه في تجاوز مخاضه الحالي، وحل نزاعاته الداخلية وحسمها بين إسلام معتدل يشكل الغالبية العظمى من أبنائه، وآخر متطرف هامشي قد سدّ الغرب أمامه منافذ الحوار والتعايش، ووجد في الإلغاء والتصفية حلاً لمشاكله ومخرجاً لها. وهو الأمر الذي لا يمكن أن يؤتي أكله إلا من خلال الحوار الهادئ والهادف والمعقلن.

كاتب وباحث