عنوان الكتاب: الإستراتيجية الروسية بعد الحرب الباردة وانعكاساتها على المنطقة العربية.
المؤلف: د.لمى مضر الإمارة.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة أولى، 2009م.
عدد الصفحات: 460 صفحة.
إذا كانت نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي قد دشنت مرحلة تاريخية جديدة على صعيد العلاقات الدولية، فإن أكبر المتأثرين، سواء كان سلباً أو إيجاباً، من تداعيات نهاية تلك الحقبة التاريخية كانت روسيا الاتحادية، والتي وجدت نفسها بتاريخها وعراقتها دولة وليدة، فقدت مكانتها الدولية الرفيعة، وبات عليها أن تواجه طموحات الجمهوريات التي كانت تابعة لها بالانفصال والاستقلال.
يسلط هذا الكتاب الضوء على التوجهات الروسية بعد الحرب الباردة, وعلى هواجسها الأمنية في ظل تحولها من دولة كانت تعد القطب الثاني على الساحة الدولية، إلى دولة مضطربة وغير مستقرة في بداية ظهورها في العقد الأخير من القرن العشرين. وكيف تمكنت روسيا بعد عام 2000 من إعادة بناء هياكل الدولة بشكل أعاد هيبة ومكانة روسيا على الصعيد الدولي، خصوصاً بعد حرب القوقاز الأخيرة ضد جورجيا.
تعتبر المؤلفة روسيا الاتحادية واحدة من القوى الدولية الأساسية على المسرح الدولي, ليس فقط لأنها تعتبر الوارثة الرئيسية للاتحاد السوفيتي السابق, بل لأنها تتوفر على مجموعة من العوامل. فمن زاوية عناصر قوة الدولة, تتوفر روسيا على موارد هائلة تجعلها واحدة من أغنى دول العالم. ومن الناحية الجيوسياسية, تعد روسيا الاتحادية قلب أوراسيا, وتقترب من قوس النفط وقوس الأزمات في آن واحد. فضلاً عن الإرث السياسي والإستراتيجي نتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي السابق.
ثم يبحث الكتاب في أثر تفكك الاتحاد السوفيتي على روسيا، والتي أدت إلى تحول روسيا من دولة كانت تعد القوة العظمى الموازية للولايات المتحدة وقائدة لحلف عسكري يضم كل دول أوروبا الشرقية, ومن بلد كان يمتلك أكبر قوة عسكرية تقليدية في وسط أوروبا, وجدت روسيا نفسها أمام واقع مختلف. إذ انشقت 14 جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق عنها, وانفصلت لتشكل جمهوريات مستقلة لكل منها أهدافها ومصالحها القومية، ولم يعد يجمع بينها سوى منظمة فضفاضة هي كومنولث الدول المستقلة. ووجدت روسيا الولايات المتحدة الأميركية وكأنها حسمت أمر السيطرة والهيمنة على العالم خدمة لمصالحها الحيوية والقومية.
يشير الكتاب إلى أن مرحلة التحول التي مرت بها روسيا الاتحادية, في عقد التسعينات, ولدت تحولات متوالية في الموقف السياسي في البلد, وتمكنت روسيا عبر الرئيس السابق فلاديمير بوتين وخليفته ميدفيديف, من إنهاء عملية التحول والوصول إلى مرحلة الاستقرار على الصعيدين الاقتصادي والسياسي, واستطاعت أن ترسم لها خطاً إستراتيجياً بعد مرحلة التحول إثر تفكك الاتحاد السوفيتي, وإقرار نظام اقتصادي يعمل وفق آليات السوق, مدعماً بنظام يعمل وفق التعددية السياسية والإثنية والدينية.
ينتقل الكتاب إلى توضيح سمات الإستراتيجية الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة، فيحددها في الواقعية السياسية، وتتجسد في سعي القيادة الروسية إلى بناء سياسة براغماتية عن طريق الابتعاد عن الحجج الأيديولوجية وإحلال مبررات سياسية واقتصادية أكثر وضوحاً وتعبيراً عن تطلعات روسيا المستقبلية. كما اتصفت الاستراتيجية الروسية بالديناميكية، وظهرت فاعلية الإستراتيجية الروسية من خلال الإصرار على عدم العودة إلى الوراء منذ غياب الأيديولوجيا الشيوعية، وظهر (بوتين) في نظر الغرب كحام للخط الإستراتيجي الجديد الذي انتهجته روسيا في عصر العولمة وحرية الأسواق, مع الإصرار على وحدة تراب الاتحاد الروسي وعدم التفريط بها, كما في الموقف من تمرد الشيشان. كما برزت (المنافسة) بوصفها هدفاً جديداً للسياسة الروسية, فأجاز الدستور الروسي الجديد المنافسة على الأسواق العالمية محل المواجهة الأيديولوجية. وأدى ذلك إلى خطط الإصلاحات البنيوية الجديدة, وحركة الانفتاح المالي والاقتصادي على الخارج.
واتسمت الاستراتيجية الروسية الجديدة بحرية الحركة، إذ إن ظهور نظام دولي جديد لم يفرض شروطاً على مصالح روسيا أو على حرية حركتها أو عناصر قوتها، فوضعها الجديد لم يجعلها مجبرة على الانصياع لموقف الدول الكبرى, سواء داخل مجلس الأمن ضمن منظمة الأمم المتحدة أو خارجه، الأمر الذي مكنها من القدرة على التحرك والتحدي والمعارضة لأي نمط جديد في العلاقات الدولية بما يتفق مع مصالحها.
ويرى الكتاب أيضاً أن استراتيجية روسيا اتصفت بالمرونة، ففيما ترى الولايات المتحدة مناطق العالم الحساسة على أنها جزء من النفوذ الغربي, وعلى الغرب تأمين الحماية اللازمة للمحافظة على الوضع السياسي القائم فيها, تؤيد روسيا الجهود الجماعية, والاقتراح الداعي إلى إشراك جميع أعضاء مجلس الأمن والأطراف المعنية لحل أي أزمة تنشب في العالم. وترى المؤلفة أن أهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها, وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية. لذلك تعتبر روسيا أن قضية انضمام جورجيا وأوكرانيا, وحتى أذربيجان, إلى حلف شمال الأطلسي, تشكل خطراً كبيراً على أمنها القومي واستقرارها وإمكانية حركتها وتوجهاتها.
وعلى الصعيد العربي، يرى الكتاب أن قادة روسيا يعتبرون أن مصالح روسيا تتطلب منها السعي لتقديم نفسها بديلاً للغرب في المنطقة العربية، إلا أن هذا المدخل ينبغي ألا يجري في سياق المواجهة التي سادت إبان الحرب الباردة، وتعتبره شرطاً ضرورياً لدخول روسيا منطقة الشرق الأوسط، التي ما زال وجود الغرب فيها يتمتع بالتأثير الكبير. وتحدد المؤلفة خمس نقاط تستند إليها الإستراتيجية الروسية حيال المنطقة العربية:
1-السعي إلى تحقيق الأمن للحدود الجنوبية من خلال العمل على وضع حد للنزاعات والصراعات المنتشرة على مقربة من حدودها, حيث يشعر القادة الروس بأن جيرانهم المسلمين ما زالوا غير قادرين على خلق دولة قابلة للحياة, وأنه ينبغي لروسيا أن تأخذ الدور على عاتقها من أجل ترتيب الأوضاع السياسية في المناطق المحاذية لها. 2- دخول روسيا المنطقة من جديد هو سياسة وقائية لمنع الاندفاع الإسلامي, أو مواجهة ما يوصف بالتهديد الإسلامي الشامل الذي تتحدث بشأنه نظرية الدومينو, حيث تسعى إلى وجود نظام إقليمي مستقر قرب حدودها. 3-السعي إلى إيجاد حزام أو كتلة من الدول تقف في وجه القطبية الأحادية, وتساهم في ممارسة الضغط على الولايات المتحدة كي تتاح لروسيا فرصة الدخول في عملية السلام, وإثبات أن لديها قدرة ومكانة على الساحة الدولية, وهو ما يفسر السعي إلى إقامة العلاقات مع الدول المناهضة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة, مثل إيران وسورية.
4-إعادة تأكيد الوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط, إذ ترى روسيا أنه إذا ما أرادت أن تحفظ هيمنتها على آسيا الوسطى, فيجب أن تعمل على تطوير العلاقات مع إيران. فأضحت قضية نقل التكنولوجيا النووية وإمداد إيران بالسلاح مصلحة مزدوجة, فمن جهة تزيد من اعتماد إيران على روسيا, ومن جهة أخرى يفتح هذا التعاون الباب لتوظيف الأيدي العاملة الروسية, 5-حاجة روسيا إلى إيجاد شركاء اقتصاديين وأسواق تجارية وسوق للسلاح, إذ تسعى روسيا إلى الحصول على مكاسب اقتصادية, ولا سيما على فرص للاستثمار والحصول على العملات الصعبة جراء بيعها أسلحة.
وقد اتسمت هذه الإستراتيجية بالحيوية والمبادرات الإيجابية خلال فترة فلاديمير بوتين، وذلك من خلال محاولات روسيا في عهده استمالة البلدان العربية، وإبداء الرغبة في التوسط لحل الأزمات في المنطقة. لكن المؤلفة تتساءل عن مدى التزام الرئيس الجديد (ميدفيديف) بذات النهج الذي اتبعه سلفه حيال المنطقة العربية، سيما أن الولايات المتحدة أصبحت على مشارف حدود روسيا بعد حربي أفغانستان والعراق. ويبقى أن يعي العرب لطموحات روسيا الاستراتيجية وأن يتم توظيفها لخدمة المصالح العربية أولاً.

كاتب وباحث
[email protected]