على الرغم من مضي أكثر من قرن ونيف على المرحلة التاريخية التي يعتبرها المثقفون العرب والمسلمون، على حد سواء، مرحلة النهضة بأسئلتها وإشكالياتها وطروحاتها المتعددة والمختلفة، وعلى الرغم من quot;تغنيquot; كتب التاريخ في مناهجنا التعليمية بتفاصيل تلك المرحلة التي دشنت، من وجهة نظر كثير من الباحثين، بداية وعي الأمة بذاتها مرة أخرى وتلمسها لأوجه القصور والتخلف والتقهقر الحضاري الذي شلّ مفاصل حراكها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فإن حالة الاستعصاء الحضاري التي ما زالت تلازم الأمة في سبيل إنجاز نهضتها الذاتية، وفشل المشاريع التي قدمتها نخب الأمة المثقفة والسياسية في اجتراح quot;مخارجquot; لاستئناف الدور الحضاري المفتقد قد كرس حتى وقتنا الراهن مرحلة النهضة بأسئلتها وإشكالياتها وظروفها الموضوعية quot;يويتوبياquot; بات من الصعب تجاوزها ما لم تفلح الأمة في الإجابة على سؤالها الوحيد والبسيط، وهو سبيل الخروج مما شخصته نخب الأمة من حال التخلف الحضاري الشامل، دون المسّ بالهوية الحضارية لأمتنا.
يحمل (بومدين بوزيد)، الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة وهران، ورئيس الجمعية الفلسفية الجزائرية، في كتابه laquo;التراث ومجتمعات المعرفةraquo; الخطاب السياسي في الوطن العربي مسؤولية ما يجري؛ لأنَّه خطاب يقوم بالتهام كل شيء حتى رأسمالنا الرمزي، ويعيد تنشيط مخيالنا ويستثمره في تأبيد وعي يعيق تقدمنا، هذا الرأسمال laquo;الرمزيraquo; هو الذي يلعب به ويتحوَّل على يديه إلى قوَّة قهرية أقوى من وسائله المادية.
ويرى المؤلف أن هناك خطابات أخرى تتقاطع وتلتقي مع الخطاب السياسي في ميكانيزمات واحدة، وأن الكشف عن هذه الميكانيزمات هو فضح أي خطاب يكرِّس التبعية، أو يحاول الهيمنة بما فيها الخطاب الذي يتبنى الحداثة بعقلية ومنهجية غير حديثة. وعليه، لا يتمُّ نقد العقل العربي ـ الإسلامي إلا انطلاقاً من نقد آلياته، الماضية والحاضرة على حد سواء، دون الاقتصار على تيار فكري محدد أو نوع من أنواع الخطاب.
فالبداية الحقيقية لكل حداثة، من وجهة نظر المؤلف، هي في تفكيك أسس مناهج تفكيرنا، والكشف عن العوائق الابستمولوجية التي تحجب عنا عيوبنا المنهجية والنظرية، ودراسة وتحليل مخيالنا المشحون بالمقدَّس وبتراث من التعاليم والتوجيهات، يظهر تأثيره في وعينا السياسي وفي اختياراتنا، وله علاقة بالسلوك العنفي المتزايد في السنوات الأخيرة، ولذلك لا بدَّ من الاهتمام بالأنثربولوجية وتفرعاتها، وكذلك بالعلوم الإنسانية، فالمجتمعات التي كان فيها laquo;الإلحاد العلميraquo; عقيدة للدولة، كانت تنضح بالتدين، وهكذا كانت تعتقد أنَّها علمية ضد ـ الفكر الثيولوجي ـ لكنَّها كانت في الوقت نفسه ثيولوجية في تفكيرها.
وينتقد الكتاب كلاً من فكر السلطة والمعارضة، واللذان يلتقيان في تأبيد كل منهما الآخر فكراً وممارسةً وقوَّة في التسلط، وينتج كل منهما الآخر، حتى إن بعض الأنظمة العربية منذ استقلالها وقعت في المزايدة في ما يتعلَّق بالدين مع الحركات الإسلامية، وهو ما قوَّى النزاع حوله، ونشَّط التأويل السياسي للنص القرآني. كما تمّ استخدام laquo;المقدَّسraquo; من طرف النظام قبل المعارضة، ففي الوقت الذي كانت تنتزع آيات قرآنية كريمة أو أحاديث نبوية شريفة من سياقها العام وتعطى لها تأويلات اشتراكية، كانت في نظام آخر تعطى لآيات أخرى تأويلات ليبرالية بالآليات نفسها. وهذه الممارسة في قراءة المقدَّس هي التي قوته ونزعت ثوب قدسيته من كثرة المبالغة في دنيويته.
ويبدو المؤلف مهجوساً بحال العقل العربي وما وصل إليه، الذي لم ينجز معرفته الخاصة لا بالاتكاء على التراث ولا بالاستفادة من الحداثة؛ فكان النقد موجَّهاً على أساس ثنائية التراث والحداثة أو التقليد والتجديد. وحاول كل مشروع أن يكون تجاوزاً وتدشيناً جديداً، لكنَّنا بعد هذه المسافة من المسار الفكري وفي ضوء التطورات الجديدة الحاصلة في حقول المعرفة الإنسانية، نعاود طرح ما طرحه هؤلاء المفكِّرين العرب ونسأل: هل استطاعوا تجاوز الرؤية التقليدية وتحقيق العملية الإبداعية، وما هي حصيلة أكثر من نصف قرن من فكر عربي حاول أن يواصل خطاب النهضة والتحديث.
ويعتبر بعض مفكِّري هذه الفترة أنَّ خطاب النهضة هو تقليدي، وأننا ما زلنا نحتاج إلى عصر نهضة جديد، ولكنَّنا بعد هذه التجربة الفكرية ـ التأملية تساورنا نفس الأسئلة التي طرحها الحداثيون والعصريون بخصوص زمن محمد عبده وعبد الحميد بن باديس وسلامة موسى وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم من أعلام عصر النهضة ورموزها.

عنوان الكتاب: التراث ومجتمعات المعرفة.
تأليف: بومدين بوزيد.
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف، بيروت، طبعة أولى، 2009.
عدد الصفحات : 175 صفحة.

كاتب وباحث
[email protected]