عنوان الكتاب: الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر.
المؤلف: عبد الإله بلقزيز.
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، طبعة أولى، 2008م.
عدد الصفحات: 176صفحة.

لا تزال الدراسات السياسية والاجتماعية المهتمة بدراسة العلاقة بين quot;الدولةquot; وquot;المجتمعquot; في العالم العربي تتمتع بخصوصية واهتمام كبيرين، نظراً لحداثة عهد الباحثين العرب بهذه المسألة، وعدم حسمها، من جهة أخرى، بما يكفل إيجاد صيغة quot;تصالحيةquot; للعلاقة بينهما، في ظل تحميل معظم الباحثين والدارسين لأسباب فشل العرب في تحقيق نهضتهم الخاصة، للجانب السياسي، وبالذات علاقة الدولة بالمجتمع.
يوضح (بلقزيز) في مقدمة كتابه أن كتابه لا يمثل بحثًا نظرياً في الدولة والمجتمع - رغم دعوته إلى وجوب تدشين تفكير نظري في هذه المسائل، وإنما هو تأمل في جدلية حادة تحْكمُ الاجتماعَ العربي المعاصر، وهي جدلية التوحيد والانقسام التي تعتمل في نسيجه الداخلي وتحيله إلى حال من المُراوحةِ بين التماسُك النسبي (التوحيد)، والتشظي (الانقسام). ويطالب بداية بإعادة التفكير جدياً في مسألة الدولة وفق الأصول النظرية، والارتفاع عن مستوى العموميات، والكف عن إقحام الأيديولوجيا في مسائل الاجتماع السياسي. وإعمال النقد المُزدوج لكل من واقع الدولة العربية والمجتمع. وأن تتنبه النخب السياسية العربية إلى بعض الخيارات السياسيةِ التي قد تدمر مجتمعاتنا؛ من فتن وحروبٍ أهلية طاحنة. غذ يرى المؤلف أن انسداد المشروع التاريخي للأمة من جهة، وطغيان التفكير الأيديولوجيّ من جهة ثانية، يقتضي تدشين مرحلة جديدة من التفكير النظري في مسائل الدولة والسُلطة والمُجتمع المدني.
يبحث الكتاب المقدمات النظرية لمسألة الدولة من خلال الحديث عن الجماعة السياسية، باعتبارها المقوم الأول للدولة، وعقد مقارنة لتصور الدولة في كل من المذاهب الليبرالية والماركسية والفوضوية. وفيما يخص علاقة الحرية بالدولة، يؤكد خطأ بهذه المفاهيم دون العودة إلى البيئة النظرية والتاريخية التي نشأت فيها، فلا يمكن التفكير في الدولة الديمقراطية الحديثة من داخل الفكر السياسي الليبرالي، إلا بالحديث عن مركزية الفرد في هذه الدولة، كما لا يستقيم الحديث عن المجتمع المدني دون التسليم بمكانة الأفراد في هذا المجتمع. فإعلاء الحرية الفردية إلى حدود التقابل مع الدولة، واعتبار الأفراد والحرية رهنًا بتقييد الدولة، يعد جزءًا من تقليد ليبرالي غربي متأخر، وقد تأثر الجيل الأول من الليبراليين العرب (خاصة لطفي السيد وتلامذته) بأفكار هذه الموجة المحافظة المتأخرة من الليبرالية الغربية التي تم تجاوزها في الغرب.
يقسم المؤلف كتابه إلى قسمين رئيسين: بحث في الأول منهما ما سماه بـ quot;الدولة والأمة: ديناميات التوحيدquot;، فيما اشتغل في القسم الثاني بتوضيح ديناميات الانقسام. ويؤكد ميل الوعي العربي إلى التبرم من الدولة، كلما استحضرها في صورة السلطان القاهر الذي يفرض عليه الخضوع والامتثال. ومع ذلك، تبدو الحاجة إلى الدولة ملحة في حالتين حرجتين، هما: حدوث فتنة داخلية، وحدوث عدوان خارجي. وهما حالتان تمتحنان المجتمع والجماعة والأمة، ومن المفارقة أن فكرة الدولة، والتي لم تكد بعد تستقر في الخيال الجماعي العربي عبر التاريخ، وأن الحاجة إلى الدولة كانت تولد في رحم الفتنة، وتبعًا لذلك كانت مهمة الدولة في الفكر السياسي الإسلامي تكمن في وظيفتين رئيستين: منع الفتنة، وحماية دار الإسلام من الخطر الخارجي.
ثم يعرض الكتاب أربع معضلات تواجه تكوين الدولة وتطورها في البلاد العربية. بعضها داخلي (اجتماعي أو سياسي)، والآخر خارجي. أولى المُعضلات هي تعذر قيام مجال سياسيّ حديث يقعُ بقيامهِ الاستقلالُ الضروريُّ لحيّز الدولة عن المجال الاجتماعي؛ والثانية تتمثل في فقدان الدولة العربية الشرعية الديمقراطية والشعبية، ولجوئها المستمر إلى استخدام القوة والاستبداد والعنف لتثبيت سلطانها في المجتمع. والثالثة تتمثل في إرادة الحدّ من وظائف الدولة وأدوارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وأخيراً تتمثل في آثار النتائج السلبية للعولمةِ على كيان الدولة في الوطن العربي، خاصة ما يتعلق بتماسكها الذاتي وسيادتها الشخصية. وهو ما يعرض الدولة العربية للانحلال والاضمحلال. ويرى أن الأوضاع الثقافية العربية الراهنة توشك تتفسخ وتنحل نتيجة ما تشهده وتعانيه من صراعات وتناقضات حادة، ومن شأن هذا التشظي الثقافي إذا امتد وترسخ أن يولد حروب عقلية داخلية.
ثم يميز بين مفهومي quot;الصراع الثقافيquot;، وquot;الانقسام الثقافيquot;، فعلى العكس من الصراع الثقافي تعاني الحال العربية الراهنة من ظواهر الانقسام الثقافي، التي تلقي بظلالها على العلاقات الاجتماعية، والعلاقات الثقافية في أوساط النخب والجمهور على حد سواء، ويخرج عن قواعد المنافسة الثقافية والاختلاف الفكري المعتاد، ويتوسل بأساليب العنف الرمزي اللفظي والأيديولوجي. فالصراع الثقافي الذي أُنجز تاريخيًا كان في الأساس صراعًا بين مرجعيتين في الثقافة والاجتماع والسياسة: بين مرجعية إسلامية أصيلة موروثة، وبين مرجعية غربية وافدة. ومع ذلك فإنه كان يجري وفق قاعدة وحدة الجماعة الوطنية. فيما أصبح الانقسام الثقافي صراعاً مذهبياً تقود إلى تفكيك عرى وحدة الجماعة الاعتقادية وتمزيق نسيجها، مما يفضي إلى تمزيق وحدة الجماعة الوطنية.
وفيما يخص الانقسام الثقافي؛ يستبعد المؤلف أثر العامل الخارجي في توليد الانقسام الثقافي، ويبحث في العوامل الداخلية التي تنتج أسبابه وشروطه، وأول تلك العوامل هي أزمة المشروعية السياسية التي تعاني منها السلطة والدولة في البلاد العربية المعاصرة. ثم أزمة الاندماج الاجتماعي والانصهار الوطني في البلدان العربية المعاصرة. وهشاشة البنى الاجتماعية الداخلية وانكشافها أمام التأثيرات الخارجية وسهولة اختراقها. وغياب مشروع اجتماعي تقوم على أساسه السلطة والدولة وقواعد الحياة العامة. وإخفاق المشروع الثقافي العربي النهضوي وما يفضي إليه ذلك من تدهور وانحطاط في النظر إلى مسائل الدين والهوية والتراث الثقافي.

كاتب وباحث
hichammunawar@gmail.com