عنوان الكتاب: عبد الوهاب المسيري.. من الماديِّة إلى الإنسانيَّة الإسلاميَّة.
المؤلف: ممدوح الشيخ.
الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، طبعة أولى، 2008م.
عدد الصفحات: 285 صفحة.


يمكن القول: إن الكتابة عن الدكتور عبد الوهاب المسيري مهمة صعبة؛ لأنه عالم شديد الاتساع والثراء، حتى أنه يكاد يكون صاحب مشروع متكامل لإعادة تأسيس العلوم الإنسانية وفق رؤية عربية إسلامية (إنسانية)؛ بعيدًا عن تراثها الضخم الواقع في أسر المركزية الغربية، أو بتعبير آخر تأسيس حداثة إسلامية. بهذه الكلمات حاول مؤلف الكتاب تلخيص الصعوبات التي واجهته في كتابه عن المسيري، فتعدد مجالات كتابات المسيري وتنوع اهتماماته وتغيره الفكري كل فترة زاد من صعوبة الكتابة حوله، ففي مرحلة من حياته كان ماركسيًّا ماديًّا، وفي مرحلة تالية إسلاميًّا إنسانيًّا، وهو في مرحلة أخرى كان أكاديمياً تخصصه الأدب الإنجليزي، ثم استقال للتفرغ للكتابة في دراسة الظاهرة الصهيونية.
ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين، يدرس القسم تحت عنوان: quot;المسيري الإنسانquot; سيرة المسيري الذاتية في ثلاثة فصول. فقد ولد في الثامن من أكتوبر عام 1938 في مدينة دمنهور المصرية، وفي عام 1955 التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وفي عام 1959 تخرج وعُيِّن معيدًا، وفي عام 1963 سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كولومبيا، ثم التحق بجامعة رتجرز وحصل منها على درجة الدكتوراه عام 1969. وفي العام نفسه عاد المسيري إلى مصر ليصبح عضوًا بهيئة التدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس. وفي العام 1970 عُيِّن المسيري مستشارًا لوزير الإرشاد القومي الذي كان آنذاك الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل. وشهد العام 1972 صدور كتاب (نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني) الذي يصفه المسيري بأنه أول مؤلفاته الحقيقية. ثم أصدر المسيري أول مؤلفاته الموسوعية عام 1975 (موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية)، وفي العام نفسه عاد إلى أمريكا وخلال هذه الفترة التي امتدت حتى عام 1979 عمل مستشارًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة.
ثم عاد إلى مصر عام 1979 للعمل بكلية البنات بجامعة عين شمس قبل أن ينتقل إلى السعودية ثم إلى الكويت للتدريس، وفي العام 1990 انتهت علاقة الدكتور المسيري بالتدريس فاستقال وتفرغ للكتابة، وقد بدأت مؤلفاته تتوالى، بدءًا من عام 1996 بصدور كتابه: الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة، ثم صدرت الموسوعة عام 1999. وفي يناير 2007 تولى الدكتور المسيري منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير(كفاية)، وقد نشأ المسيري في أسرة تجارية ثرية، وفي أمريكا بدأ عبد الوهاب المسيري يتحول من الاهتمام بدراسة الأدب الإنكليزي إلى دراسة الظاهرة الصهيونية. وتكشف تجربة المسيري، كما يرى المؤلف، حجم معاناة المثقف العربي وضآلة المردود المادي لعمله، فعندما انتهى من كتابة الموسوعة كان قد أنفق كل ما يملك، فقدَّمَ طلبًا للحكومة المصرية ليعالَج على حساب الدولة، وفي النهاية عَلِمَ مكتب الأمير عبد العزيز بن فهد بالموضوع، فتكفل بتكاليف العلاج. وقد توفي الدكتور عبد الوهاب المسيري عن سبعين عامًا في الثالث من يوليو 2008.
ثم يتناول الكتاب المراجعة الفكرية للمسيري عبر شرح مفهوم المراجعة ومناخها في السبعينات والثمانينات، فقد عُرف كماركسي سابق، لكن الجديد أنه قبل انتمائه الماركسي ولفترة قصيرة انضم لجماعة الإخوان المسلمين، وبعد يوليو 52 انضم لهيئة التحرير وترجم كتاب (ماوتسي تونج) عن التناقض، وكانت أول ترجمة عربية لهذا الكتاب. ثم بدأ إعادة اكتشاف الإسلام وهو في الغرب، وهو يلخص هذا التحول بالقول: خلاصة الأمر أنني اكتشفت أن الدين كمقولة تحليلية، وليس مجرد جزء غير حقيقي من بناء فوقي ليس له أهمية في حد ذاته، ويمكن تفسيره في إطار العناصر الاقتصادية، وأن المكون الديني ليس مجرد قشرة، وإنما هو جزء من الكيان والهُوِيَّة.
ويعرض المؤلف رؤيته لتجربة المراجعة عند المسيري من خلال قراءة نقدية، حيث يعتبر أن المسيري يمثِّل حالة من حالات مراجعة فكرية مماثلة شهدها الواقع الثقافي المصري خلال سنوات السبعينات والثمانينات بشكل متزامن تقريباً (طارق البشري، عادل حسين، محمد عمارة، خالد محمد خالد)، ولكن المؤلف يرى أن المسيري ينفرد عنهم بأهمية معرفية استثنائية؛ إذ لم تكن مراجعته الفكرية ردَّ فعل لنكسة يونيو 1967 كغيره، أو بحثاً عما يمكن أن يحرِّك الشارع، كما فعل سياسيون نفعيُّون نظروا للهُوية الإسلامية كورقة رابحة، بل دخل هذه المرحلة من باب التساؤلات الكونية والتأمل في قضايا شديدة العمق، وفي مواجهة أسئلة تركيبية معقدة.
في القسم الثاني من الكتاب، يعرض المؤلف لتجربة المسيري النقدية كأديب ناقد للتفكيكية، بعد أن يعرض الملامح العامة لرؤيته النقدية، ثم يدرس نموذجاً من النقد التطبيقي لرؤية المسيري في شعر المقاومة الفلسطيني. تلا ذلك باباً خاصاً لقضايا المنهج في فكر المسيري (التحيُّز والموضوعية والنماذج الإدراكية)، وتناول الفصل الأول منه quot;الرؤية العامة لقضايا المنهج في فكر المسيريquot;، ويرى المؤلف أن أهمية ما يقدمه الدكتور عبد الوهاب المسيري تكمن في استناده أثناء نقده للخطاب الغربي إلى أدوات تحليلية مقاومة ومؤسسة في الوقت نفسه لمسار جديد في الخطاب المعرفي الإسلامي المعاصر، يضمن للمناهج العلمية الإسلامية استقلالاً من القفص الحديدي الأكاديمي الغربي وتحرُّرًا منه؛ وهذا لا يعني قطيعة معرفية مطلقة مع ما أنتجَتْهُ الحضارة الغربية، بل يُعَدُّ من قبيل الاستيعاب والتجاوز.
وتُعَدُّ موسوعة quot;اليهود واليهودية والصهيونيةquot; من أهم الأعمال التي قدمها المسيري وأبرزها. ولا تكمن أهميتها في كَـمِّ المعلومـات المُقـَدَّمة، بل تتعداها إلى النموذج التفسيري التي تقدمه بالاستناد إلى آليات تحليلية ونماذج تفسيرية متميزة. فيما تتَّسِمُ أبحاثه ودراساته في مجال العلوم الإنسانية باحتوائها العديدَ من المفاهيم والمصطلحات، والتي يسعى الباحث من خلالها إلى تفسير الظاهرة الإنسانية؛ موضوعِ الدراسة. بيْد أنَّ عملية التفسير لا تستقيم دون تحديد وإيضاح معاني ودلالات هذه المفاهيم قبل الخوض في دراستها ونقدها.
ثم يتناول قضية الموضوعية والتحيز عند المسيري، وفيه يؤكد المؤلف أن قضية المنهج لا تنفصل عنده عن قضية المصطلح والانحيازات المسبَقة التي تنطوي عليها المصطلحات. وقد كان أول مصطلح يقهر المسيري مصطلح الوَحْدة العضوية في النقد الأدبي، فقد كان في صباه معجَبًا بالشعر الجاهلي، وخاصة مسألة الوقوف على الأطلال، وكان يراها تعبيرًا عن الوفاء الإنساني، وعن صمود الإنسان في مواجهة الطبيعة، ولكن كان الجميع يهاجم هذا التقليد الشعري. وفي الستينات كان الجميع يتحدث عن الوحدة العضوية والْتِحَام الشكل بالمضمون وعن المعادِل الموضوعي، وهو ما يعني أن كثيرًا من الأعمال الفنية العربية والإسلامية تعاني من انعدام الوَحدة العضوية. فبدأ يبحث عن منهج آخر، وبدأ في تطوير ما أطلق عليه quot;مفاهيم للوحدة الفنية مختلفةquot;. ثم يتناول quot;الخريطة الإدراكية والنماذج: (نموذج العلمانية الشاملة مثالًا)quot;، متحدثاً عن رؤية المسيري للعلمانية ومسارها ومآلاتها في العالم العربي. ويبقى أن المسيري ومشروعه الفكري بحاجة إلى المزيد من الدراسة والبحث، وقد يستغرق ذلك عمل مؤسسة فكرية لعدة سنوات.


كاتب وباحث
[email protected]