قلنا في الأسبوع الماضي، وفي الجزء الأول من هذا البحث، أن الليبرالية الفرنسية متمثلةً بفولتير فيلسوف الثورة الفرنسية، والليبرالية السعودية متمثلةً بمفكر الليبرالية السعودية، يوسف أبا الخيل، الذي يحفر، ويفكك، وينقد التراث الديني من داخله (وهذه هي أهميته العلمية الكبرى، واهتمامنا المتواصل به والمركز عليه) وليس من خارجه أو من فوقه، كما يفعل آخرون من الليبراليين السعوديين.. قلنا أن الليبرالية الفرنسية والسعودية على ذلك المستوى، قد رسخّت الإيمان بالله.. وكان فولتير يعتبر أن الإلحاد أمر صعب المسالك. ويقول:
quot; وجود الله هو أقرب شيء الى الاحتمال، يمكن للبشر أن يفكروا فيهquot;.
ويضيف:
quot;القول المعاكس من أبعد الأشياء عن العقل والمنطق.quot; ويختم بقوله:
quot;لو لم يكن الله موجوداً، إذاً لوجب اختراعه.quot;
وكان يوسف أبا الخيل من جانبه ومن خلال نصوصه قد عزز هذا الأيمان ورسَّخه وعمَّقه، من خلال النصوص التي عرضناها له سابقاً.

الأخلاق والليبرالية والثورة
فماذا الآن عن الأخلاق في المفهوم الليبرالي من خلال الإسلام، ومن خلال الثورة، في نصوص هذين الممثلين للثورة الفرنسية والإسلام النقي. وهل تلتقي قيم الأخلاق والثورة الفرنسية كما عبَّر عنها خالد الفيصل في quot;تحالف القيمquot;، ودعا إلى قيام quot;تحالف القيمquot; بين الإسلام والثورة الفرنسية، في خطابه أمام مجلس الشيوخ الفرنسي في 11/3/2010؟

فلسفة فولتير الأخلاقية
فلسفة فولتير في الأخلاق، تتلخص في أن الأخلاق في جوهرها هي نفسها في كل مكان وزمان؛ بمعنى أن قيم الخير، والشر، والعدل، والظلم، هي نفسها لم تتغيّر، ولم تتبدل، في كل مكان وزمان، وعلى مدار التاريخ. وفيما لو تمَّ تبدُّل أو تغيُّر طفيف فيها، عُدَّ انحرافاً عن الأصول، فذلك يعود إلى كتبة وفقهاء السلاطين والملوك والحكام، الذين دأبوا على ليّ عنق النصوص، لكي تتلائم وتتماشى مع سياسات الحكام والسلاطين. وامتد هذا التحريف للقيم، منذ فجر التاريخ حتى الآن.
إن هذه القيم ليست فطرية، ولم تُوجد بوجود الإنسان على الأرض. فليس فينا ما هو فطري، كما يؤكد الفيلسوف الانجليزي جون لوك (1632-1704)، جذر الليبرالية الأول في أوروبا. وحجة جون لوك في هذه المقولة، أن المفاهيم الأخلاقية تتحقق حين تصل طبيعتنا إلى درجة معينة من التطور. وفولتير يؤكد على ممارسة الإنسان لكل لذّات الحياة، شريطة أن لا يؤذي الآخرين. ولخّص فولتير فلسفته بهذا الخصوص بقوله:
quot;أعبد الله وكن صالحاًquot;.
وهو ما قالته كل الأديان ولكن بأساليب مختلفة.

الأخلاق في الليبرالية السعودية
مفهوم الأخلاق في الليبرالية السعودية، لا يختلف عن مفهوم الإسلام للأخلاق. وأنا هنا، لا أريد أن أكرر ما قيل عن مفهوم الأخلاق في الإسلام. فقد كُتبت في هذا الموضوع آلاف الأبحاث، وصدرت آلاف الكتب، ومعظمها - للأسف الشديد - يُكرر نفسه، أو يُعيد ما قاله الآخرون. ومن النادر أن تجد الجديد في هذه الأكوام الضخمة من الكتابات والأبحاث في الماضي والحاضر.

الحديث التنويري عن الأخلاق
وما يهمنا اليوم في هذا المقام، ما كتبه يوسف أبا الخيل، أحد الغصون الكبيرة اليانعة في شجرة الليبرالية التنويرية السعودية. فأبا الخيل لم يقتفِ أثر المؤلفين التقليديين من تراثيين ومعاصرين، في شرحه لـ quot;الأخلاق الإسلاميةquot;، والحديث عن ثواب الفضيلة، وعقاب الرذيلة في الإسلام، كما أنه تحاشى التمجيد، والتبجيل، والتقديس، المتكرر للأخلاق الدينية. ولكنه لجأ إلى ربط مفاهيم quot;الإخلاق الدينيةquot; بمفاهيم الأخلاق عند فلاسفة التنوير الأوروبي. فنقرأ في مقاله (التنوير.. قلب معادلة الوسائل والغايات):
quot;ما أن جاء القرن الثامن عشر، وتحديداً النصف الثاني منه، حتى تلقَّف الفلاسفة التنويريون في أوروبا حصاد بذور العقلانية الديكارتية، ليتحول التنوير إلى حركة فكرية شاملة، يقودها تيار ضخم من الفلاسفة، الذين ذهبوا يحاربون مثبطات العقل الإنساني بمنطق التنوير الداعي إلى تخليص الفكر الإنساني من الخرافة والدجل وادعاء العلم، بالكشف، والذوق، وتحرير العقل الإنساني، من سطوة الوصاية الكنسية الكاثوليكية. ومدوا تساؤلات التنوير، لتصل إلى كل شيء تقريباً. وقد تولّى هذه المهمة الكبرى فلاسفة وعلماء، توزعوا على مستوى القارة الأوروبية، من لوك، ونيوتن، وهوبز، وبركلي، وهيوم في انجلترا، إلى دالمبير، وديدرو، وفولتير، وجان جاك روسو في فرنسا، إلى هيجل، ثم إيمانويل كانط في ألمانيا مؤسس المذهب النقدي في أوروبا، الذي أكمل مسيرة الإصلاح الديني في أوروبا، التي بدأت في القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر، بمناداة كانط بمد حدود العقل، لتحكم على المذاهب القولية غير البرهانية. كما طوّر كانط المبدأ العملي للأخلاق، آخذاً في الاعتبار أن قيمة الأفكار، والأيديولوجيات عموماً، تكون بمقدار ما لها من قدرة على عون الإنسان على الرقي والتطور الاجتماعي. وبمعنى أوضح، بما لها من قدرة على إصلاح الواقع المعاش. لا بربطها بدور ميتافيزيقي غير معاش. وهكذا يمكن القول بأن هذا الفيلسوف أول من طرح مفهوم الأخلاق بطريقة واضحة وصريحة.quot;
وفي هذا المقتطف، يؤكد أبا الخيل على التالي:
1- إن حركة التنوير الأوروبية لم تكن مكرَّسة للهجوم على الكنيسة وطقوسها، ولكنها التفتت إلى مسائل حياتية ومعاشة مهمة، ومنها مسألة الأخلاق.
2- أن حركة التنوير الأوروبية، ربطت ربطاً محكماً، مفهوم الأخلاق بالحياة والواقع المعاش. وهذا يعني أن قيم الأخلاق هي في خدمة الحياة، وليس العكس.
3- أن إتباع الخُلق الحسن لا يكون طلباً لثواب، وتجنباً للعقاب ولكنه يُتَّبع من أجل سعادة الإنسان على الأرض.

الأخلاق من المعرفة وليس العكس
وفي مقال أبا الخيل عن quot;الإعجاز العلمي بين الشرع والعلمquot;، يؤكد أن الأخلاق تنطلق من المعرفة، ولا تنطلق المعرفة من الأخلاق كما هو الأمر في التراث. ويؤكد أبا الخيل أن الفرق بين هذا وذاك كبير جداً، ويشرح:
quot;إن النظر في الظواهر الطبيعية من زاوية أخلاقية بحتة، سيمكن الناظر بلا شك، من الحصول على معرفة معينة عن آلية عمل تلك الظواهر، لكن بقيد ضروري هو: ارتباط تلك المعرفة بالمعهود الحضاري لمن نزل فيهم النص. ومع ذلك، فإن ثمة فرقاً كبيراً بين الانطلاق من المعرفة إلى الأخلاق، كما هي الحال في الفلسفة والعلم الأوروبيين، وبين عكسها المتمثل بالانطلاق من الأخلاق إلى المعرفة، كما هو شأن النص الطبيعي الديني.
ففي الحالة الأولى، تتأسس الأخلاق على المعرفة، فتصبح الأخلاق مؤسَسَة على العلم، كما هو الشأن مع فكرة أداء الواجب عند الرواقيين. أما في الثانية، فتتأسس المعرفة على الأخلاق، وتتأطَّر بإطارها، لينحصر دور المعرفة، بالدور المعياري الأخلاقي فقط.quot;

أسباب تخلُّف المعرفة العربية
ويضيف أبا الخيل في مقاله: (العقل العربي بين المعيارية والموضوعية):
في حالة الفكر العربي، تأسست المعرفة على الأخلاق. والمعرفة في حالة الفكر العربي، ليست اكتشافاً للعلاقات التي تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض. وليست عملية يكتشف العقل نفسه من خلال الطبيعة، بل هي التمييز، في موضوعات المعرفة نفسها، (حسيّة كانت أو اجتماعية) بين الحسن والقبيح، بين الخير والشر. ومهمة العقل ووظيفته، بل وعلامة وجوده، هي حمل صاحبه على السلوك الحسن، ومنعه من إتيان القبيحquot;.
وهذان النصان، يسندان النص الأول ويدعمانه، ويؤكدان أن الأخلاق ليست وسيلة للرضى الميتافيزيقي، بقدر ما هي وسيلة لضبط (صواميل) ماكينة الحياة، لكي تسير بالشكل الصحيح والسليم. ولعل العطب الماضي والحالي في الحياة العربية، وربما المستقبلي أيضاً ndash; فيما لو لم نُغيّر مفاهيمنا الأخلاقية ndash; ناتج عن تأسيس المعرفة العربية على الأخلاق، ونفي كل معرفة تتعارض مع الأخلاق الدينية، التي وضعها الفقهاء ورجال الدين، وليست النصوص المقدسة.

التفريق بين الدين والأخلاق الدينية
وقد هاجم الشيخ المصلح السياسي والاجتماعي خالد محمد خالد (1920-1996) في كتابه (لكي لا تحرثوا في البحر) عام 1955، quot;الأخلاق الدينيةquot;، وفرّق بين الدين وquot;الأخلاق الدينيةquot;، التي اختلطت بالأعراف والتقاليد والطقوس. ونفى أن تكون هناك quot;أخلاق دينيةquot;. وقال إن الصدق، والأمانة، والإخلاص.. الخ. ليست أخلاقاً دينية، بقدر ما هي أخلاق إنسانية، وُجدت قبل ظهور الأديان. وفي حياتنا هناك ملايين البشر بدون دين، ورغم ذلك، فهم يتّبعون الصدق، والأمانة، والإخلاص، وغيرها من القيم الأخلاقية الجميلة.