هل تحقيق الليبرالية هو نهاية التاريخ؟
وهل الليبرالية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق هي الخطوة الأخيرة في مسار الفكر البشري؟
لقد ركّز الفكر الليبرالي تاريخياً على الحرية، واعتبرها المدماك الرئيسي في بناء مفهوم الليبرالية، الذي ظهر في القرن السادس والسابع عشر. وربما تعود جذور الليبرالية إلى العهد الإغريقي قبل الميلاد، وفي كتابات الكثيرين من فلاسفة الإغريق كأرسطو وأفلاطون، وفي أحاديث وكلام الشارع الذي كان يتجادل فيه سقراط مع تلامذته ومع المارة، ويتخذ له شعاراً مشهوراً وهو quot;اعرف نفسك بنفسكquot;.

بيركليس.. هذا العظيم النادر
ولعل الديمقراطية التي جاءت بها أثينا في عهد بيركليس (490-429 ق.م)، الأب الحقيقي للديمقراطية في التاريخ، هي التي رسّخت الليبرالية في التاريخ الأثيني، حيث لا ديمقراطية بدون الليبرالية. وكما أن بيركليس يُعتبر الأب التاريخي للديمقراطية، فهو أيضاً الجذر الأول الغليظ لليبرالية التاريخية، من حيث إقراره وتطبيقه لمبدأ المساواة أمام القانون بين كافة أفراد المجتمع. وبذا استطاعت أثينا بيركليس إقرار وتطبيق مبادئ أساسية ثلاثة لليبرالية: الديمقراطية والحرية والمساواة. كما بدأ الفرد الإنسان يلعب دوراً مهماً في ليبرالية أثينا، كما نقرأ في خطبة فيلسوف السفسطائيين بروتاغوراس (485-410 ق.م) التي قال فيها quot;الإنسان مقياس الأشياء جميعهاquot;.

بداية الليبرالية الأوروبية
وفي القرن السادس والسابع عشر، برزت الليبرالية من خلال بدء نقد العقل المسيحي، وظهور الفرد الإنسان، واعتلائه مكانة رفيعة، وهو المظهر المهم من مظاهر الليبرالية. فإذا كانت الحرية هي المدماك الأساسي لليبرالية، فإن تموضع الفرد الإنسان، وبروز دوره في الحياة، واعتباره بالتالي مركز الكون، من أهم عناصر مفهوم الليبرالية. فتاريخياً يعتبر جون لوك (1632-1704) الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الانجليزي، المؤسس الأول لليبرالية الأوروبية. فقد لعب لوك دوراً سياسياً وثقافياً غير مباشر، في اندلاع الثورة الأمريكية فيما بعد، من خلال كتابه quot;رسالتان في الحكمquot;. وكان الأمريكيون يرددون عباراته المشهورة ومنها قوله المهم، الذي ينطبق تماماً على حالنا الآن:
quot;الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً، وتتم مقاومتها غالباً، لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد.quot;

لا مفهوم جاهز الصنع لليبرالية
ومن المعروف أن لا مفهوم واحداً لليبرالية. بل إن الليبرالية لا تتقدم في التاريخ كمفهوم جاهز الصنع للاستعمال. ففي كل حقبة وفي كل بلد، كان لليبرالية مفهوم متغير ومتميز. فالليبرالية التي كان يقودها بيركليس قبل الميلاد، تختلف عن الليبرالية الأوروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر. وهذه الليبرالية تختلف عن الليبرالية التي يتبناها المثقفون العرب الآن. والأخيرة تختلف عن الليبرالية التي يتبناها المثقفون السعوديون في هذه المرحلة كذلك. ومن هنا يقول الباحث التونسي منوبي غباشي: quot;ليس من السهل تحديد مفهوم الليبرالية، فهو من المفاهيم التي لا يمكن مقاربتها من جانب واحد، أو من زاوية نظر واحدة، فالليبرالية منزع فكري، وتوجه نظري، نظرية قوامها الحرية. ومعنى ذلك، فإن تحديد مفهوم الليبرالية لا يتأتى إلا انطلاقاً من تصور معين للحرية.quot; وكما يلتبس مفهوم الحرية في عدة مناطق من العالم، وفي مختلف الحقب، فإن مفهوم الليبرالية يلتبس كذلك.
وهذا ما سبق أن قلناه عن الليبرالية السعودية، التي نحن بصدد الحديث عنها.

عناصر الليبرالية السعودية
فالمثقفون السعوديون المعاصرون شكلوا ليبراليتهم الخاصة بهم. وهم على حق وهدى في ذلك. وهذه الليبرالية تنبثق من التاريخ، والأرض، والمجتمع، والماء، والطين، والتراث، والعادات، والتقاليد، والثقافة السعودية. ومكونات الليبرالية هذه، تختلف عن مكونات الليبرالية في باقي أنحاء العالم العربي، وخاصة مصر التي كانت في النصف الأول من القرن العشرين مصدر الإشعاع الليبرالي الكاسح. كما أن لجوء بعض السلفيين والأصوليين الدينيين المتشددين السعوديين، إلى إسقاط الليبرالية الأوروبية على الليبرالية السعودية بقصد التشنيع عليها، والتنفير منها، والتكفير الرخيص لها، يعتبر محاولة فاشلة غير موضوعية.

كل جديد مرفوض لأنه مجهول نسبياً
كما أن تبني بعض الجامعات الدينية السعودية لرسائل الماجستير والدكتوراه، التي تبحث في الليبرالية الغربية التاريخية، وإسقاطها على الليبرالية السعودية، محاولات فاشلة وغير علمية، غرضها إثارة الغرائز، واستعداء أجهزة الدولة البوليسية على الليبراليين السعوديين، انطلاقاً من التعصب الإيديولوجي، وحماية للعقيدة السلفية والأصولية المتشددة، التي تقوم بمهمتين مختلفتين: الأولى سلبية، وهي الرفض والممانعة لكل خطوة تطويرية جديدة. والثانية ايجابية، وهي القبول أخيراً والمشاركة فيما كان مرفوضاً بالأمس. والأمثلة على ذلك كثيرة منها رفض وممانعة استعمال التليفون، والسيارة، والتلفزيون، والساعة.. الخ. ثم قبول هذه الأدوات، والإقبال عليها بشدة فيما بعد.

فتنة القول بتعليم البنات
وهذا ما تمَّ كذلك في قضية تعليم البنات منذ عام 1959 على إثر المرسوم الملكي الذي صدر ببدء افتتاح مدارس البنات. وما تلى بعد ذلك في الستينات من معارضة وممانعة السلفيين والأصوليين المتشددين لتعليم المرأة، كما جاء في الكتاب المهم للباحث السعودي عبد الله الوشمي: quot;فتنة القول بتعليم البنات في السعوديةquot;، 2009.

رفض التعصب الديني
إن أهم ما في الليبرالية السعودية مناداتها ودعوتها إلى ما تدعو إليه معظم الليبراليات في العالم، وهو التسامح الديني القائم على عدم تكفير الآخر والقبول به، ورفض التعصب الديني، وعدم رفض المعتقدات الدينية الأخرى. والدليل على ذلك أن رأس السلطة السياسية السعودية، قام بافتتاح ثلاث مؤتمرات لحوار الأديان ورفض التعصب الديني في 2008. ففي نوفمبر من عام 2008، عُقد مؤتمر حوار الأديان في نيويورك بمقر الأمم المتحدة، بمشاركة أكثر من 80 دولة، وبمبادرة من السعودية. وجاء في البيان الختامي للمؤتمر، الذي استمر يومين، quot;أن الدول المشاركة فيه تؤكد على أهمية تعزيز لغة الحوار والتفاهم والتسامح بين الناس، واحترام مختلف الأديان والثقافات والمعتقدات. quot; وقبل هذا المؤتمر عُقد مؤتمر آخر في مدريد في يوليو 2008 وبمبادرة سعودية أيضاً لحوار الأديان حضره 200 عالم وفقيه يمثلون الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحية، وافتتحه الملك عبد الله بن عبد العزيز وملك اسبانيا خوان كارلوس.

إجماع إسلامي على ضرورة الحوار
وأوضح الأمين العام للرابطة الإسلامية عبد الله بن عبد المحسن التركي في ذلك الوقت، أن المبادرة التي أطلقها العاهل السعودي للحوار بين أتباع الرسالات الإلهية والحضارات والثقافات، واعتمدها quot;المؤتمر الإسلامي العالمي للحوارquot;، حظيت بإجماع إسلامي، برز واضحاً في quot;نداء مكة المكرمةquot;. وأشار التركي إلى أن ندوات هذا المؤتمر ستُناقش من خلال أربعة محاور. ويأتي المحور الأول تحت عنوان quot;الحوار وأصوله الدينية والحضاريةquot;، ويناقش موضوع الحوار لدى أتباع الرسالات الإلهية والفلسفات الشرقية، والمحور الثاني جاء تحت بند quot;الحوار وأهميته في المجتمع الإنسانيquot;، ويتضمن مناقشة الحوار وتواصل الحضارات والثقافات، وأثر الحوار في التعايش السلمي وفي العلاقات الدولية، وفي مواجهة دعوات الصراع ونهاية التاريخ. والمحور الثالث quot;المشترك الإنساني في مجالات الحوارquot;، ويبحث المشاركون فيه الواقع الأخلاقي في المجتمع الإنساني المعاصر، وأهمية الدين والقيم في مكافحة الجرائم والمخدرات والفساد، وعلاقة الدين والأسرة في استقرار المجتمع، ومسؤولية الإنسانية في حماية البيئة. أما المحور الرابع quot;تقويم الحوار وتطويرهquot;، فسيناقش المشاركون من خلاله مستقبل الحوار، وجهود الدول والمنظمات العالمية في تعزيز الحوار ومواجهة معوقاته، ومهمة الإعلام وأثره في إشاعة ثقافة الحوار والتعايش بين الشعوب.

مؤتمران آخران لحوار الأديان
وقبل هذا المؤتمر عُقد في مكة المكرمة في يونيو 2008 بمشاركة 500 شخصية من 50 دولة إسلامية، دعا المسلمين إلى أن يُبعدوا خطر التطرف، وتقديم quot;رسالة الإسلام الخيّرةquot; للعالم. وهذه المؤتمرات الثلاثة في سنة واحدة 2008 من بشائر الليبرالية السعودية. وهي من داخل الإسلام وليس من خارجه. فالإسلام quot;الرسالةquot; وليس quot;إسلام التاريخquot;، أو quot;إسلام الفقهاءquot;، دين ليبرالي. وليبراليته تتجلى بالحرية والمساواة، ودور الفرد الإنسان الرائد في الحياة. ومن يقرأ كتاب quot;إسلام المجددينquot; لمحمد حمزة، وكتاب quot;إسلام المصلحينquot; لجيهان عامر، يدرك هذه الحقيقة التاريخية إدراكاً تاماً. وتلك هي أهم مباديء الليبرالية التي جاءنا بها فيلسوف الليبرالية جون لوك في القرن السابع عشر.