-1-
نعم، رزق الهبُل على المجانين..
هذا ما كانت تردده جدتي، عندما تسمع بحالة نصب واحتيال. لقد كانت أهم مظاهر الأصولية، بروز مجموعة من الشباب المصريين، الذين قرأوا عدداً قليلاً من الكتب السلفية الدينية، وأصبحوا دعاة دينيين، ثم أصبحوا من أصحاب الملايين (قالت مجلة quot;فوربسquot; أن أحدهم بلغ دخله السنوي حوالي اثنين ونصف مليون دولار، ويتقاضي حوالي 40 ألف دولار في دول الخليج مقابل إحياء ليلة دينية دعوية، وهو ضعف أجر الراقصة أو المغنية الشهيرة) ونجوماً تتخاطفهم الفضائيات، وهم لم يدرسوا الفقه الإسلامي، ولا الشريعة الإسلامية، ولم يتخرّجوا من المعاهد الدينية المتخصصة كالأزهر وغيره. ولا تعترف بهم (الفيفا) الأزهرية، كما قال الشيخ خالد الجندي. وهذه في الواقع علامة من علامات الانحطاط الثقافي، التي تجتاح الأمة العربية منذ فجر الحادي عشر من سبتمبر 2001 إلى الآن.
وأما المظهر الثاني والدال على عصر الانحطاط الشديد، فهو الفترة الممتدة من مطلع القرن الحادي والعشرين إلى يومنا هذا، والتي شهدت صدور أكبر عدد من الفتاوى الدينية، إلى درجة أن الأزهر أنشأ خطاً تلفونياً ساخناً لتقديم الفتاوى، وقامت مؤسسة quot;إسلام اليومquot;، بإنشاء قناة فضائية متخصصة للفتاوى برئاسة الشيخ السلفي السعودي سلمان العودة.
-2-
وظاهرة ازدياد عدد الشيوخ الذين يفتون ممن يفقهون، وممن لا يفقهون، وزيادة عدد السائلين من طالبي الإفتاء على هذا النحو الكبير، دليل واضح جداً على عصر الانحطاط الثقافي، الذي نعيشه هذه الأيام، وذلك للأسباب التالية:
1- زيادة نفوذ الأصولية الدينية، صاحبة الحق الوحيدة في الإفتاء، وتصدُّرها للإجابة على كل ما يعتري الإنسان العربي من مشاكل اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية، ودينية. وهو ما يشير إلى تزايد نفوذ رجال الدين في المجتمعات والدول. ومن هنا، حرص كمال أتاتورك على تخليص المجتمع، والدولة التركية، من سيطرة رجال الدين في مشروعه الكبير لبناء الدولة العصرية. واعتبر أن إنهاء سيطرة رجال الدين على الدولة، هي أولى الخطوات المهمة، لبناء الدولة العصرية. لذا، قام بإلغاء منصب quot;شيخ الإسلامquot;، وإغلاق المدارس الدينية، وإلغاء وزارة الأوقاف، التي كانت تكية كبرى من تكايا رجال الدين، ومنع المظاهر الدينية في الشوارع والمدارس، وخاصة الطرق الصوفية ودراويشها.
2- أصبحت الأصولية الدينية في العالم العربي، هي المصدر الوحيد للمعرفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. وتغلّب الفقهاء على العَلْماء والخبراء. وهذا يذكرنا بما كان عليه الحال في القرون الوسطى بالنسبة لرجال الدين المسيحي. ففي العصور الوسطى، كان الفاتيكان يملك - اعتماداً على حق الوصاية الدينية - كامل الأراضي التي تشغلها الدول التي تدين بالمذهب الكاثوليكي، وهو ما يعني معظم القارة الأوروبية. ولم يقتصر احتكار الفاتيكان على مُلكية الأرض، بل ادّعى امتلاكه لمملكة السماء. وأخذ يبيع أراضي في الجنة، للملوك، والأباطرة، وكل من يدفع المال، تحت مُسمى صكوك الغفران .
وكان الملوك يستمدون شرعيتهم في الحكم من التفويض الإلهي. وكان بابا الفاتيكان هو الذي يتوّج الملوك. وامتدت سيطرة رجال الدين، لتشمل كل نواحي الحياة، مما تسبب في إعاقة التطور كل مناحي الحياة. وهذا ما حاول رجال الأزهر عمله، برئاسة شيخ الأزهر، في الثلاثينيات، الشيخ المراغي، حين طلبوا تتويج الملك فاروق في الجامع الأزهر، بدلاً من مجلس الأمة، إلا أن النحاس باشا العَلْماني رفض ذلك، وأصرَّ على تتويج الملك فاروق في مجلس الأمة.
3- إن زيادة أعداد السائلين، من طالبي الفتاوى الدينية، ينمُّ بما لا يدع مجالاً للشك، عن انحطاط مستوى وعي العربي العام بشؤون حياته. ويدلُّ على أن غالبية العرب، لا تستطيع أن تسلك طريق الحياة إلا بقيادة وإرشاد رجل الدين الذي نصّب نفسه وسيطاً بين الله وعباده. وكأن المواطن العربي السائل للفتوى، أصبح كالأعمى، لا يقوده إلا بصير ديني. وبذا، أعاد العرب إلى رجال الدين أهميتهم القصوى، التي كانت لديهم في المسيحية، قبل عصر التنوير الأوروبي، وفصل الكنيسة عن الدولة.
ففي موقع ديني واحد فقط على الانترنت، نقرأ الأخبار التالية:
- الأزهر يحوِّل فتوى quot;توريث جمال مباركquot; الحكم، لأعلى هيئة فقهية.
- عالم سعودي يكفِّر الداعية عمرو خالد، لأنه أنكر تكفير إبليس.
- عالم سعودي يعلن تراجعه عن تكفير عمرو خالد.
- فتاوى سعودية، تعتبر مسابقات ملكات جمال الإبل (مزايين الإبل) من المنكرات.
- جمال البنا ( ليس شيخاً أزهرياً)، يُفتي بتحليل القبلات بين الشباب والفتيات، ثم يتراجع عن فتواه.
- مفتي سوريا ndash; أحمد الحسون ndash; يفتي بوجوب المشاركة بالقمة العربية، كفرض عين، ومن يتخلف فهو آثم.
- وزير مصري يطلب فتوى بتحريم إطعام الطيور بالخبز المدعوم.
- قاريء يسأل: هل يحلُّ لي إيقاظ زوجتي من نومها لنكاحها؟
- قارئة تسأل: هل مصُّ عضو الرجل الذكري حلال أم حرام؟
-3-
وتمتد القائمة إلى ما لا نهاية. والمفيد من هذه القائمة:
1- أن الفتاوى الدينية تراوحت ما بين السياسي والاجتماعي والجنسي، وهناك طلب فتاوى أخرى لم نذكرها في الجانب الاقتصادي، والفلكي، والتاريخي. وفي رمضان يكثر طلب الفتاوى وخاصة حول السلوكيات الجنسية، وحول حكم الشرع في أكل القطايف والمهلبية والسحلب، بدل التمر المبارك.. الخ. وهو دليل كبير على شلل العقل العربي، وعدم قدرة الإنسان العربي على سبر أغوار الحياة ومسالكها، دون قيادة وإرشاد من رجل الدين.
2- أن سلطة رجال الدين المتعاظمة في كافة المجالات التي نراها الآن، ليست متأتية من قوة ثقافة ومعرفة رجال الدين، بقدر ما هي متأتية من ضعف وهشاشة وجهل الشخصية العربية ( يوجد مائة مليون أمي في العالم العربي) التي كبُرت سناً وصغُرت عقلاً، ولم تعد تقوى على اتخاذ قرار صغير، في حياتها، دون الحصول على الضوء الأخضر من رجال الدين. وهو ما يذكرنا بحال الأوروبيين في القرن السادس والسابع عشر للميلاد. كما ينطبق عليه صدق القول، بأن العرب في القرن الحادي والعشرين لا يزالون يعيشون في القرون الوسطى. مظاهر وأجسام القرن الحادي والعشرين، وعقليات القرون الوسطى.
السلام عليكم.
التعليقات