-1-

لا أريد أن أزيد أو أعيد على ما شاهدتموه، وسمعتموه، وقرأتموه بالأمس، من تعليقات غربية وعربية عن فوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما الكاسح (334 صوتاً انتخابياً، والمطلوب للفوز 270 صوتاً فقط)، للانتخابات الرئاسية الأمريكية.
فلم يدع المحللون والمعلقون السياسيون من العرب والعجم شيئاً عن هذا الحدث الكوني، وهذا الزلزال العنيف الذي ضرب أمريكا، إلا وكتبوه، وقالوه. وهذا شيء متوقع. فأمريكا هي شاغلة العالم، حين كانت تشارك الاتحاد السوفيتي القوة العظمى، وحين انفردت بهذه القوة العظمى منذ 1991 وإلى الآن. والانتخابات الرئاسية الأمريكية هي انتخابات كونية، وليست رئاسية فقط. وقد شاهدنا، وقرأنا، وسمعنا كيف كان العالم.. كل العالم مشغولاً ومنهمكاً بهذه الانتخابات، طيلة الفترة الماضية، وسيظل مشغولاً ومنهمكاً إلى حين بعد هذه الانتخابات. وسرُّ هذا الانشغال والانهماك، هو التغيير الجديد الذي حققت جزءاً منه أمريكا بالأمس بانتخابها أوباما. فليس انتخاب رئيس أسود لأمريكا لأول مرة في التاريخ الأمريكي وفي تاريخ الغرب كله، هو التغيير كله. ولكن التغيير كله- كما قال أوباما لمائة ألف أمريكي، تجمعوا بالأمس في جرانت بارك في شيكاغو ليسمعوا خطابه بعد انتخابه- هو إتاحة الفرصة لأوباما، من أجل أن يتم التغيير المنشود.

-2-

نعم، العالم يتغير نحو مزيد من الانفتاح، ومزيد من التسامح، ومزيد من الحداثة، ومزيد من الحرية والديمقراطية.
والحدث الكبير الذي تم في انتخابات أمريكا بالأمس، مثال على هذا التغيير.
فليس الحدث الأكبر، مجرد انتخاب شاب أسود فقير الحال، ولكنه متخرج من أعظم جامعات العالم(هارفارد) كمحامٍ فصيح. ولكن الحدث الكبير هو مرونة الأمة الأمريكية وقدرتها على التغيير، وكسر التابوهات، ومنها تابوهات السود، الذين كانوا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عبيداً مضطهدين، ثم أصبحوا في مطلع القرن الحادي والعشرين أسياداً وقادة ورؤساء جمهورية، لأكبر دولة في العالم.
نعم لقد بدأت منذ اليوم أمريكا بالتغيير.. التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. وقدرة أمريكا ومرونتها على التغيير باستمرار، هو سر بقائها، وسر عظمتها. فلا زالت أمريكا مثلاَ إلى هذه اللحظة تتغير اجتماعياً من خلال آلاف المهاجرين الذي يفدون إليها من كل أصقاع الأرض. وهذا التغيير الاجتماعي كان واحداً من الأسباب التي أدت إلى فوز أوباما. فالمهاجرون الجدد من أمريكا اللاتينية والعرب والأفارقة والآسيويون وما يطلق عليهم quot;الأقلياتquot;، هم الذين أحدثوا تغييراً اجتماعياً في أمريكا وانتخبوا أوباما.

-3-

فوز أوباما درس عظيم للعرب، لو كانوا يعقلون.
فعلى العرب ألا ينتظروا التغيير من أمريكا، التي بدأ فيها التغيير بالأمس.
فأمريكا ndash; وبكل وضوح وصراحة ndash; تقول لنا :
إن أمريكا لا تغيّر ما في قوم حتى يغيّروا ما في أنفسهم.
أمريكا تدعم وتساند التغيير وتبذل فيه الأموال والأرواح، نحو الأفضل، ولكنها لا تخلق التغيير في بلد ما من العالم من العدم. والمثال الواضح على ذلك أفغانستان والعراق.
وأمريكا ليس معها (برشامة) للتغيير، أو أي دواء آخر. ولكن لديها القوة الكافية من جميع النواحي على حماية التغيير على أي مستوى، إذا كان هذا التغيير يتماشى مع مبادئها في الحرية والديمقراطية.
لقد أحرز العرب الاستقلال منذ أكثر من نصف قرن، فماذا غيروا في جلودهم، وعقولهم، وأفكارهم؟ بل على العكس، من ذلك لقد عاد كثير من العرب، إلى مناهج القرن التاسع عشر وربما القرن الثامن عشر، في شتى شؤون الحياة.
لقد أصبحوا كالمسوخ. يستهلكون منتجات القرن الحادي والعشرين، ويملكون عقول القرون الوسطى.
فكيف نتوقع تغييراً في السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط، كما يأمل كثير من العرب الحالمين، ونحن لم نتغير قيد أنملة، بل إننا في نكوص دائم؟

-4-

العرب البسطاء السُذَّج، يأملون من التغيير الأمريكي، تغييراً في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
فما هو التغيير الذي يريدونه من أمريكا الآن؟
إنهم يريدون تغير السياسة الأمريكية نحوهم، وهم بحالتهم الراهنة هذه من التخلف العلمي والثقافي والسياسي والاجتماعي.
فتقرير quot;التنمية الثقافيةquot; الذي ستطلقه quot;مؤسسة الفكر العربيquot; في مؤتمر quot;فكر7quot; بالقاهرة (13-16 نوفمبر الحالي) يقول لنا بحزن شديد، أن معدل الالتحاق بالتعليم في الدول العربية لا يتجاوز 21.8%، بينما يصل في كوريا الجنوبية إلى 91%، وأستراليا 72%، إسرائيل 58%. ويبلغ أعلى معدل لالتحاق الإناث بالتعليم في الإمارات 76%، والبحرين 68%، ولبنان 62%، بينما في مصر 45%، والسعودية 49%، واليمن 25%. وعلى مستوى كفاية عدد الأساتذة في التعليم العالي إلى عدد الطلاب، فإن متوسط النسبة في العالم العربي هي أستاذ جامعي لكل 24 طالباً، بينما في اليابان أستاذ جامعي لكل 8 طلاب فقط! وفي أمريكا أستاذ جامعي لكل 13 طالباً. هذا عدا سوء المناهج وحشوها بالأساطير والوقائع المتخيلة، وبعدها عما نحتاجه في حياتنا الجديدة.
وفي مجال حركة التأليف والنشر تضمن التقرير تحليلاً استند إلى قاعدة بيانات ضخمة عن إجمالي الكتب التي نشرت في العالم العربي في عام 2007 وبلغت 27809 كتب، ولا تمثل الكتب المنشورة في العلوم والمعارف المختلفة من هذا الرقم سوى 15%، بينما تصل نسبة الكتب المنشورة في الأدب والأديان والإنسانيات إلى 65%. وهناك كتاب يصدر لكل 12 ألف مواطن عربي، بينما هناك كتاب لكل 500 إنجليزي، ولكل 900 ألماني، أي أن معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4% من معدل القراءة في إنجلتراquot;.
وعلى صعيد الإعلام الفضائي، يتضمن التقرير بعض الأرقام اللافتة، حيث يبلغ مجموع الفضائيات العربية 482 فضائية والرقم في تزايد مستمر، أما على صعيد القنوات الفضائية المتخصصة، فالقنوات الدينية تمثل نسبة 19% وقنوات الأغاني 18%، أما قنوات الأدب والثقافة فتبلغ 4.8% فقط، ولا قنوات علمية أو تعليميةquot;.
هذا غيض من فيض التخلف العربي.
وهذا مثال واضح على أننا نتغير إلى الأسوأ والأردأ.

-5-

التغيير الذي يريده العرب الآن من أمريكا يتلخص في التالي:
1- دعم قيام الدولة الفلسطينية ومساندتها، رغم أن الفلسطينيين أنفسهم مختلفون، وغير متفقين على قيام هذه الدولة. فـ quot;فتحquot; تريدها دولة علمانية، وquot;حماسquot; تريدها خلافة إسلامية كما فعلت بغزة. وإسرائيل سعيدة جداً بهذا الخلاف، الذي يُبعد عنها شبح إقامة الدولة الفلسطينية.
2- التخلّي عن التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل، رغم وجود لوبي يهودي قوي الشكيمة والتأثير في أمريكا.
3- عدم التدخل في شؤون الدول الديكتاتورية، وعدم المطالبة بإخلاء سبيل المعتقلين المعارضين السياسيين.
4- عدم المطالبة بتغيير المناهج الدراسية العربية، وخاصة المناهج الدينية التي تحضُّ على محاربة وقتل أهل الكتاب.
5- عدم العمل على خلع أي ديكتاتور عربي. فهذا شأن عربي داخلي.
6- استمرار منح الدول العربية الفقيرة المساعدات المالية الأمريكية السنوية، دون ربط هذه المساعدات بالإصلاح العام في هذه الدول.
فذلك هو التغيير في السياسة الخارجية الأمريكية الذي تطمح الدول العربية أن تراه في المستقبل القريب.
فماذا فعل العرب بأنفسهم، قبل أن يطالبوا بكل هذا؟
سؤال حائر في زمن عربي أغبر ورديء.

السلام عليكم.