ما الذي يدفع المشاهد العربي كي يتسمّر أمام الشاشة الصغيرة، محتبس الأنفاس، مشدود الأوصال، مشدوه الملامح، ضاربا عرض الحائط كافّة التفاصيل الحياتيّة الخاصّة به والتي تقع خارج إطار الحملة الإعلامية الأميركية الناشطة، والعربية المماثلة المنقطعة النظير على مدار البثّ الفضائي والتي تتناول سيناريو السباق بين quot;باراك أوباماquot; و quot;جون ماكين quot; إلى البيت الأبيض، ليتابعها بلهفة استثنائية لأكثر من 48 ساعة، ناهيك عن الأشهر المنصرمة التي قضاها متابعا أمينا لأدقّ حيثيات الحملة الانتخابيّة على التوالي يتقصّى من محطّة إلى أخرى كافة النتائج المعلنة أوّل بأوّل، يضع رهاناته اللا مبررة نصب عينيه، ويدأب مع الدائبين على متابعة المحللين السياسيين، والمتشدقين عن كثب بخصوص الرئيس الأميركي المُرتقب، وعلى الرغم من كافّة التدابير الذهنيّة التي حرصتُ على اتّخاذها لتفادي مطبّ الوقوع في شرك الانغماس في ملاحقة الحدث، وجدّتني في حمّى الساعات الأخيرة انتظر مع المنتظرين بذات الشغف وربما أكثر حسم النتائج الانتخابية ولمن ستكون الغلبة فيها بحماسة كان يصعب تلافيها، حيث واكبت البثّ المباشر حتى إعلان quot;باراك أوباما quot; رئيسا شرعيا للبلاد، تضاعفت لحظتها الحماسة والغبطة الاعتباطية التي انتابت الجميع وعبّر عنها كما عبّرت بابتسامة رضى مجهولة المنشأ!
ربما لأنّ باراك أوباما الرئيس الشاب أعطانا تلك الحماسة التي أعادتْ إلى الأذهان صورة الرئيس الشاب أيضا quot;بشار الأسد quot; وهو يعتلي سدّة الرئاسة في سورية ويحمل في أعطافه وأجندته ورؤاه، الكثير من الوعود والآمال والأحلام والانفراجات والإصلاحات والتغيير والانفتاح الاقتصادي ومعالجة البطالة والقضاء على الفقر ومحاربة الفساد وإجهاض الوساطات والتجاوزات والمحسوبيات اللا منطقية واللا معقولة المنتشرة في خلايا مؤسسات الدولة انتشار السمّ والسرطان والتي تشلّ أوصال التفاؤل عموما، وتصيب مقتلا في قلب الثقة مباشرة بحكم القبضة الحزبية المُحكمة التي تنفي ما عداها.
حين انطلق الرئيس الشاب بدأ قريبا جدا من نبض الشارع السوري والتي كانت بدايته الرائعة هذه مع المواطن السوري الذي توسّم من رئيسه الشاب كلّ الخير وهو يراه جنبا إلى جنب في مناسبات عدّة، كما حصل في حلب ذات مسرح، وكما حصل في دمشق في العديد من التظاهرات الثقافية والاجتماعية، عندما ظهر الرئيس الشاب أعزلا إلا من حبّ الناس وفرحتهم ودهشتهم كذلك، حتى أصبح الناس يشاركونه نبضه برهافة فائقة، يُفاخرون برئيسهم الشاب ومخلّصهم المنتظر من رواسب الماضي وأزلامه وما نجم عنها من تراكمات فاحت على أثرها الكثير من الروائح المنفّرة، كما الحال الذي ينتهجه باراك أوباما كبداية واعدة للمواطن الأميركي، الذي يعوّل الشيء الكثير على تحسين الأوضاع وأهمّها الاقتصادية من الرئيس الشاب الجديد الذي لا يخفى على أحد أنه يرث عبء أخطاء الولاية الدستورية السابقة كاملة تلك الفترة التي شغلها جورج بوش الابن وأعاث فيها ما سوّلت له نفسه وطموحاته المريضة.
جورج بوش الذي عمل بضوضاء أقلقت منام العالم أجمع على مدى مرحلتين رئاسيتين لم يترك فيها طبلا للشؤم إلا وقرعه ولم يوفّر فيها حربا إلا وخاضها، ولم يمنّي الشعب الأميركي إلا الخسارة تلو الخسارة ومع هذا كله، خرج جورج بوش من البيت الأبيض بكامل الصمت من الباب الخلفي أو ربّما الباب الرئيسي إلا أنّ الناس لم تكن لتنتبه لخروجه مجرد انتباه، ولم تخلع نِعالها لتنهال ضربا على ظلّه، ولم يكن من نُصُبٍ يُطاول السحاب حتى يشمّر الشعب لاقتلاعها، أو صور بعرض الشوارع ليمزّقها، كان مجرّد جورج بوش محمي باسم قانون ودستور البلاد، تجاوز قليلا فتظاهر الشعب ليردعه وعندما بيّن حجّته أيّده، وهاهو الشعب الأميركي اليوم يخرج إلى الشوارع طوعا، لا قسرا يلزمه المشاركة أو تهديدا أو وعيد، لهذا كانت تصلنا الصورة بوضوح تام تنضح بالحيوية والحب والعفوية والتلقائية اللا مبرمجة، التي ترصدها في العادة عدساتنا المحلية في الكثير من المظاهرات الاحتجاجيّة فقط، والتي لا تعرفها الشوارع العربية إلا بمرسوم تشريعي صادر عن الجهات الحكومية العليا. مما أفقد التظاهرات قيمتها الفعلية لأنها لا تعبر إلا بالضرورة عن رأي الدولة ونظامها الأعلى، فلا احتجاج للمواطن إلا باسم الدولة، لتظلّ بالمقابل جميع احتجاجاته في ذمّة المجهول والنسيان والتغاضي إلى غير رجعة، فهل يُمكن أن نشهد في الشارع السوري غَضبة مشروعة للمواطن السوري في ظلّ الرئيس الشاب مثلا، كأن يعبّر عن استيائه بارتفاع الأسعار، أو يمارس بحرية معلنه سخطه ضد التلوّث البيئي الذي بلغ حدّا خطيرا لا يُمكن السكوت عنه، أو أن يعترض على المفاضلات الاستنسابيّة لوظائف الدولة التي تمنح دون قيد أو شرط للوافدين إلى العاصمة في الوقت الذي تشحّ فيها الفرص أمام أبناء العاصمة بشكل جارح ومريب للغاية، حتى الممارسات التي تمّت بحق المعتقلين في سجن صيدنايا هل كانت ستتسع الشوارع والصدور لذويهم ويترك لهم حقّ التعبير عن اعتراضهم شكلا أو مضمونا وإن لمجرّد الاعتراض؟..
لا شكّ أن الرئيس الشاب بشار الأسد انغمس في غياهب السياسة الداخلية والخارجية ومعضلاتهما التي أخرجته من الشارع، وأبعدت نبضه عن نبض الناس، وربّما انهماكه في إعداد الرئيس التالي quot; حافظ جنيور quot; بعد عمر طويل بمشيئة الله، أتاحت الفرصة للانتهازيين القدامى أن يعودا إلى الساحة ويُواصلوا نشاطهم المشبوه على أكمل وجه.
فهل يصلح القول أن العمر ليس كفيلا لاستنهاض التفاؤل دائما، وأنّ الرئيس الذي يدخل باب السلطة لن يتركه على غاربه، بل هو أيضا من حقّه أن يُغلق الباب وينصرف إلى شؤونه وشجونه وطموحاته الشخصية التي تعيقها ربّما طموحات الشعب لو أخذت في التنامي والمزاحمة والإنجاز!!!.
تُرى هل باراك أوباما سيزكي مفهوم الشباب، وينجز أكثر مما استطاعه الملك المغربي الشاب quot;محمد السادس quot;؟ وأن يحمل تفاؤلا أكبر من الذي حمله الملك الشاب quot;عبد الله quot; الذي حلّ محلّ وليّ العهد الأمير quot;حسن quot; للمواطن الأردني؟.
وهل يُمكن أن يعيد الرئيس الشاب بشار الأسد شرعية حلم وطموح المثقّف الأعزل من امتيازات البعث ورجاله الأشاوس؟.
وحده التاريخ يملك عين الراصد، ووحده الذي يدوّن بأمانة أو بغش كل ما يعرفه هو، وكل ما نجهله نحن.
ولا يسعني في هذه المناسبة إلا أن أتوجّه بأحرّ التهاني للحكام العرب بفوز quot;أوباما quot; الذي يُنتظر منه عربيا ربّما أكثر مما يُنتظر منه غربيا بجميع الجهات، وأتوجّه بتهنئة مماثلة إلى المواطن العربي قبل الأميركي لحسرة مزمنة في أعماقه لأنّ مناسبات كهذه لا تحصل على المدى المنظور أو حتى المُرجأ فجميع أنظمتنا أنظمة مزمنة ومؤبّدة دون منازع، المواطن العربي الذي تابع المشهد بحواسّ مصادرة تماما لصالح الانتخابات الأميركية، وخاصّة أنّ مشهد الاستلام والتسليم مرّ بسلاسة وسلام دون خراب مالطة كالذي شهدناه في العراق، وفلسطين، ولبنان الذي يحبس الأنفاس منذ اللحظة تأهّبا لكوارث الانتخابات القادمة.