عبد العزيز خوجه... هو ليس شاعرا متمكّنا لغةً وحضورا ومعنى وحسب، وليس سفير المملكة العربية السعودية في لبنان يمثّل بلاده ولهفتها وإدارتها وإرادتها خير تمثيل لا غير، وليس عرّاب الجولات الدبلوماسيّة التي خاضها بمهارة فائقة على هامش التوتّر المزمن الذي كان ولمّا يزل ينذر بالشيء الكثير من المفاجآت والمخاطر في الشارع البيروتي وسائر المناطق اللبنانيّة، بل هو الشخص القادر على إثبات الإضافة والتمايز كلّ حين، فهو فوق هذا وذاك إنسان يحترم إنسانيّته أيّما احترام، ورجلٌ يُوقّرُ ذاته ما طاب للرجل الوقور أن يزهو ويَعتدَّ بالوقار، وصديق لا يملكُ إلا أن يَصْدقَ القول ويُصدِقَ الفعل ويُصادق من كان أهلا لما ترتئيه النيّة وتنتقيه، يكترث.. حيث يكون الاكتراث ضرورة لا ضرار، يبالي.. في زمن لا يعرف المُبالاة إلا أصحاب الضمائر ومالكي الوجدان، يحتفي.. بما يستحق الاحتفاء وعيا كاملا لا تهوّرا أو سوء تقدير، يُبارك.. عندما تكون النفس مطمئنّة للتأييد والثناء لا مرتابة فيما لا علم لها فيه، يَنْصَحُ.. درءا لكلّ المضللين من شرّ الوقيعة بإضاءة شمعة لا يغويه كما كثيرون حين يتلذّذون بشتم الظلام، يُرْشِد.. إيمانا بحكمة العارف الذي بِمُستطاعه أن يتحدّى ثقةً كلّ أشكال الالتباس، يسمو.. تواضعا بمنتهى التواضع ويُدرك ترفّعا متى الرفعة سموّا تكون، يتجلّى.. وهو الزاهد في ترف الحمقى والناسك في محراب اللباقة دون كلل أو تلكأ أو إهمال، وكأنّ المضارعة هنا قد وُجِدَتْ لتخصّ عبد العزيز خوجه دون سواه بما يليق الفعل وهو كنهه الضارب في أدغال المعنى والمبنى والمقام، سيقول أحدهم وله العُذر كلّ العُذر فيما سيقول، وربما سيقول معظمهم، بل أجزم أنّ الجمع ودون استثناء ربما سيقولون ما بال quot;الغادا quot; هذه، وكأّنّ حرفها قد صار على شفير التملّق، لكأنّه هوى متهالكا على عتبة المجاملة، ويأبى حرفي الأبيّ اعتباط التوصيف ويستنهضني منطق الحكاية لأقول، يحدثُ أني قد عرفت كل قاصٍ وكل دانٍ ومجمل عابري السطور قراءة وقبلها الكتابة ومابين بين وما فوق ذلك وما دون، لفتني أنّ الغالبية العُظمى تتقن فنّ النميمة وقلّما تجد أحدا يجيد قول الحقّ لمجرّد الجدارة تحت طائلة الجدوى وإن لمرّة قد لا تتعدّاها وهذا كاف لو قدّر له الوجود، فلطالما عرفنا من يشجب ويستنكر ويلعن ويسبّ ويشتم وينتقد وينتقص ويبخس المرء قيمته الفضّلى إكراما لتكريس الإساءة بحقّ الغير، وقلّما اعترتنا لهفة البوح كي نخصّب أبجديّتنا بكلمةٍ طيّبةٍ، مع اليقين التام أنه دائما ثمّة من يستحقّها ومع ذلك لا نملك إلا أن نوارب أو نغفل صاحب الحق بتلك الكلمة الطيبة حقّه في مروءة الحبر ونبل الحرف وَجُود الكلمة كأنّ نقرّ بمثاليّة أحدهم ومناقبيّته العالية، وكلمتي الطيبة هنا وإن بدت تغالي بما تودّ أن تفصح عنه وتقول فهي ولا ريب قاصر عن اكتمال بدر الأثر الجميل الماثل أبدا في لدن البال والروح والخاطر، إليكم الحكاية وبأقلّ التفاصيل: ألو: سعادة الشاعر عبد العزيز.. أسعدت أوقاتاً، اعذر مجازي هنا بالقول سعادة الشاعر فقد اعتاد اهتمامي أن يصبَّ في مسار الدائم غير آبهٍ بكلّ ما هو راهن أو إلى حين، وهذا لا أخفيك مبدأ اعتمدّته مع أصحاب المقامات الرفيعة، فلا يسعني إلا أن أستحضر اللحظة المؤجّلة التي يُسدل فيها الستار على مرحلة مشرقة مكتظّة بالوهج ومهددة قطعا بالأفول لتنطوي في أعطاف الاسم الماضي الناقص مهما طال، وقتها ينحرف المتجمهرون عن النجم المقصود طوال سنوات السطوع بحثا عن نجم آخر ليسطع في درب أيامهم الشاحبة التي لا تعرف الاكتفاء، أعلم أني استطردت أكثر مما ينبغي، لكنها فلسفتي وأرجو أن تكون مدخلا سليما لغايتي المُرجاة..
في تلك اللحظة أدركت أنّ الإصغاء فنّ يؤسفني أني أفتقر أحيانا إليه، لحظة من التفكير سادتني إثر استرسالي وطلاقتي الموسعة هذه، قاطعها الطرف الآخر بصوت وادعٍ، وقور، هادر باللباقة، مفعم بالحيويّة، معلّقا بالقول: أهلا بك وبما تجيزه تحيّتك من مجاز وجوازات تتيح لسامعها أن يفوز وبثقة بالغة بمزيّةِ سلطان لا ميزة سفير وحسب، أتمنى أن تكون ثقتك محققة على قدر الغاية التي بفضلها كان تواصلك هذا. قلت: أخشى أن أودع الكلام في ذمّة الأثير، والأثير وسعادتك تعلم قد أصبح كما الشارع وكما أعناقنا في قبضة أصحاب القرار وكتبة التقارير وما أكثرهم، لديّ استشارة ملحّة، ولديك فائض في جدول المواعيد، كيف نحلّ تلك المعادلة؟!!
وأقفلُ على سؤالي بإشارة استفهامٍ وبشيء من الصمت وأتذكّر أنها ليست المرّة الأولى التي ألتمس لهفة هذا الإنسان الكبير عبد العزيز خوجه فقد سبق أن تجاوز كل أشكال الروتين التي يتحلّى بها أصحاب المناصب والصلاحيات وبكلمةٍ منه وجدت نفسي عندي مضيفتي سليلة الكِرام في الرياض، يقطع شرودي هذا ردٌّ يُوجِزُ فاخرَ الوقعِ، وجميل الكلام: سيدتي المواعيد لا تنتهِ والأولويات هي الأولويات، حددي التوقيت الذي يلاءم أجندتك، وسنعمل على تقريب وجهة الوقت، هل يتوفر مقترحك الآن أم أنتظر ترتيبه لديك.
لغة مدهشة، عمليّة، لبقة، راقية، لجمتني وأنا أعي تماما ما يكتنف هذا الإنسان الإنسان من مهامٍ جسام وزحمةٍ في المواعيد وجولات ماراتونية لإرضاء كافة الأطراف السياسيّة المُتنازعة على الوهم فيما بينها، أصمتُ واستسلم من جديد لطائفة من الإسقاطات كي تلفحني بشراسة.. وأتساءل بغيظ تُرى كم من هؤلاء الذين نعرفهم جيدا ونعرف حدودهم وأبعادها وجغرافية آفاقهم الضيقة ونعرف عن كثب كيف يُماطلون، ويُراوغون، ويتذرعون، وكل تلك الدباجات التي يتشبثون بها كامتياز حصري، غير مُتاحٍ للتداول، إذ يدخل حيّز الاحتكار ضمن دائرة quot;البريستيج quot; الزائف التي يحيونها، والوجاهة الخادعة التي يصدّرون. كم من رضا الذات وجَلْدَها في نفس الوقت يحتاجون كي يستعيدون توازنهم وعفويتهم وتلقائيّتهم ويختصرون المواربة ليكونوا مسئولين على هذا القدر من الأهمية والبساطة كما هذا الإنسان الكبير عبد العزيز خوجه؟.
انتهت المكالمة بكلمة شكر من طرفي وبكلمات ترحيب استمر وقعها من قِبَل الخوجه، ولم تنتهِ مقاربة الصورة المضيئة التي استوقفتني للخوجه، أمام فائض من الصور التي أُتلفها تِباعا وبشكل متكرر.
تغاضيت عن إلحاحي وربما تناسيت ليومين أعقبتْ المكالمة تلك، وجوب الاتصال لتقديم مقترحي بشأن الموعد، وإذا بهاتفي يرن وشابة تسألني وبمنتهى اللطف عن إمكانية تسلّم
اتصال الدكتور عبد العزيز خوجه وبتلقائيّة تامّة أكدت تشرّفي بالشاعر الكبير سفير الكلمة والموقف والحضور عبد العزيز خوجه، وأنا في غمرة دهشتي لتلك البادرة التي تنمّ عن نُبل خالص، أولاني استفساره بشأن الموعد، وهذا ما كان.. هو أكثر مما يأمل الزائر أن يجد بِمُسْتَقْبِلهِ أن يكون، ولا أريد أن استرسل في إمكانية اللغة وحسبي القول أنه على شبابه وشيْبه ووسامته وطيْبه، أبٌ بكل ما يستشفّه الإحساس ويرتجيْه، أبٌ مثال للمثال وعنوان للدماثة. خَرجتُ بعد اللقاء مُستعيدةً الطفلة التي يُحاول حرّاس الكلام أن يكتم أنفاسها، بعدما استودعته هواجسهم الرديئة وقدرتهم الفائقة في هندسة القواميس وتهديمها لتتماشى ورغباتهم الجريئة وجشعهم الأبدي. لا أنتظر منه الكثير، واكتفيت أنني حصلت أخيرا على لهفةٍ آمنةٍ بكل ما ترمي إليه الكلمة من معنى.
هو ذاته الرجل الذي أتابعه عبر الشاشة الصغيرة هذا المساء عنوان رئيسي في نشرة الأخبار quot;عبد العزيز خوجه مترئسا حملة التبرّع بالدم quot; بالتأكيد هي سابقة إنسانية وطنية قومية عروبية خاضها باعتزاز اعتبارا من شريانه شخصيّا المفتوح على المودّة إلى الشعب اللبناني مرورا بكافة أوردة العاملين في سفارة المملكة العربية السعودية في لبنان، وبلا شكّ هي سابقة تختزل رسالةً أخويةً بامتياز. هكذا سرى الدم السعودي ، في عروق اللبنانيين بلا تردد، وامتزج بسلاسة التضامن وعذوبة التجسيد للفعل والقول والدعم والمساندة، لقد استطاعت المملكة العربية السعودية وباستمرار أن تبرهن عن رعايتها للبنان، منذ اتفاق الطائف، ولم تتردد في توظيف استثماراتها بإيداع الأموال الطائلة في مصرف لبنان، وبذاك الإيداع صمدت الليرة اللبنانية وحافظت على سويّتها من الانهيار، تُرى عن ماذا سيسفر إيداع الدم السعودي في العروق اللبنانيّة؟!!.