ويُحكى أننا قد بلغنا الألفيّة الثالثة بخفيّ حنين، ووِفاضٍ خاوٍ، وذاكرة مكتظّة، لسلسة من الخيبات والأزمات والكوارث، يتسلّم زمامنا بالتتابع والتفاضل والتشاكس والتناحر والتلاسن والتعدّي والتماحك والطبطبة كل القيميّن على مُقدّرات البلاد والعباد ومنابع الثروة وبواطن النفوذ، بذمّة غائبة وضمير معطّل أو منته الصلاحيّة، بعد أن تمّ تربيتنا وتهجيننا وتطبيعنا وتكبيلنا في إسطبل شاسع ضمّ جميع المنتمين إلى العالم العربي عموما وبلاد الشام خصوصا، فربما لا يزال quot;القطاع quot; العام ساري المفعول في بقيّة الأنظمة العربية ويُرجى مٌراعاة التدقيق في الملحوظة الواردة ضمن السياق هنا، نظير غلبة quot;القطيعquot; العام في منطقة بلاد الشام، ولا سيّما في البلدين الشقيين أقصد الشقيقين لبنان وسوريّة، ولأن الاسطوانة المُتعلقة بهذا الشأن تعاني من عديد الشروخ والتشققات بسبب تداولها الممل والمستمر على مدار ثلاث سنوات من الحرية العرجاء والاستقلال العنين، مقابل 30 سنة من التحكّم الفادح أسفر عن رؤوس وأشباه وأتباع وذيول وكفرة وخلّص، استطاعوا بقليل من الجهد أن يغرقونا في التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل المكتظّة بالتفاصيل، ولا زلنا شعوب تمجّد اللحظة الآمنة التي نجتْ بنا من غدر الطوفان الذي مضى، والطوفان الذي سيليه، نبارك لبعضنا البعض وبحفاوة مسرفة ولادة كل يوم جديد، هذا المشهد المُتكرر لم يعد حكرا على أحد، وخاصّة أنّ الجميع قد دخل مرحلة التصنيف، فمنهم من آثر أن يكون quot;مع quot;، ومنهم من آثر أن يكون quot;ضدّ quot;، ومنهم من خرج بعيدا عن نطاق السرب، فغرّد وحيدا حتى سقط مغشيّا أو مقضيّا عليه من فرط التجلّي أو التعتيم وهنا يعلو لسان الحال.
كل ذلك ليس بجديد، بما فيه الحديث عن الهزائم والانتصارات والجرائم والتفجيرات، مرورا بالتشكيل الحكومي ذات الكلفة العالية جدا التي استنزفت الوقت والجهد والعتاد والأرواح والنفوس والكرامات لتجعلَ وبتعجيلٍ من أمير قطر الشيخ quot;حمد بن خليفة آل ثاني quot;، الذي دأب على رتق الثغرات منذ اتفاق الدوحة وما أعقبه من صدٍّ ورد بين الأطراف والأحلاف والأصول والفروع وسائر المنتفعين في جميع الأصقاع، وتوتير واستقواء، من الوزارات الحكومية اللبنانيّة مجرّد وزارات ذات حقائب quot;ترضية quot; على مستوى الشخص وquot;المشخوص لأجله quot;، أكثر منها بكثير من أن ترتقي لتكون حقائب quot;تلبية quot; على مستوى الوطن والمواطن والكهرباء وحدها خير برهان وخير دليل، وصولا حتى تبادل الأسرى ويا له من حدثٍ ضرام أشعل فتيل البهجة التي شبّت على إثره الرايات لتتزاحم بألوان التفاخر والاستعراض على امتداد الشطر الجنوبي الواصل إلى لبّ العاصمة بيروت التي أمطرها المبتهجين الكرام بوابل من الرصاص الحي وقذائف quot;الآر بي جي quot; كالعادة وكل ذلك على شرف quot;رِجِلْ quot; السيد التي وطأت منصّة الاستقبال للحظات لا تزال مستمرّة حتى لحظة إنجاز هذا المقال، وهو في الواقع فتيل ما بعد الفتنة، وفتيل ما بعد بعد الاحتقان والتنفيس وعملية التطهير التي حسمت معنى التنظيمات السياسيّة ومعنى التسلّح في بلاد الفوضى.
المُستجد في غمرة هذه الدوامة المُتجددة كلّ مناسبة، هو ارتفاع أسعار السلع ارتفاعا جنونيّا quot;أسكت quot; المواطن، ثمّ ارتفاع أسعار المحروقات ارتفاعا هستيريا quot;أخرس quot; المواطن، وبعد إتقان السكوت والتزام الخرس، تأتي أزمة الكهرباء لتدحض كل ما عداها، ولتصبح كارثة الكوارث، قرأت منذ مدّة أنّ quot;وزارة الإنارة quot; و/حسب تسميتي لها / كونها اسم على مسمّى، قد تقدّمت في ألمانيا وتحديدا في مدينة فرانكفورت لمواطنيها باعتذار رسمي شمل كافة وسائل الإعلام من مرئي ومسموع ومكتوب بسبب انقطاع الكهرباء لمدة عشرة دقائق فقط لا غير، على أثر عطل فني خارج عن الإرادة، الغريب أنّ العطل الفني في لبنان يتكرر على مدار الساعة، مما اضطرني وأنا على الهواء مباشرة وبحضور ضيفتي الفنانة التشكيلية quot;سعاد فاضل يعقوب quot; على أثير إذاعة صوت بيروت هذا الأسبوع كما غيره من الأسابيع ولكن بطريقة مُستفزّة بل غاية في الاستفزاز، شلّت رغبتي ورغبة الضيفة ورغبة المستمع بالتأكيد عن متابعة اللقاء الإذاعي أو استمراره، وأنا أواصل تمرير الاعتذار لها وللمستمعين الكرام مرّة بعد مرّة تجاوزت المرات السبع على التوالي في غضون 55 دقيقة فقط، وفي كل اعتذار كنت أناشد وزارة الكهرباء أن تراعي الأعطال والأضرار الفادحة التي تتكبّدها كل الأجهزة والمعدات التي تستمد فاعليتها من التيار الكهربائي سواء على صعيد العمل أو المنزل، بعد أن تحوّل التيار الكهربائي إلى تيار لاعب بامتياز يكاد يدحض كل التيارات الموازية، فما من نشرة إخبارية أو موجز أو حتى خبر عاجل صار بوسع المواطن متابعته عبر الشاشة الصغيرة بحكم الانقطاع المتواصل، وربما هذه نعمة من نِعَمْ انقطاع التيار الكهربائي، ولكن ما لا يُطاق هو احتمال ارتفاع درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة التذمّر ودرجة الإحباط في ظل عولمة quot;معولبة quot; بقنديل شاحب ليلا يعود بنا إلى أزمنة بدائية لنصبح خارج الحضارة بكل خطواتها المتسارعة، هكذا تمضي مساءاتنا على قنديل يتراقص لهبه على إيقاع سيمفونية الضجر التي تعزفها على طول اليوم وبكافة أنحاء الجوار جوقة quot;المولّدات quot; الكهربائية التي تقطع النور عن الأعصاب والعقول والأرواح وتغرقها فيquot;ضيم دامسquot; لفرط الصخب.
ويحضرني كتاب حسن عجمي المعنون quot;الضيمياء quot; والذي وصلني منذ أيام وهو كتاب مختلف بأسلوبه ونمطه ومضمونه وفحواه يسجل علامة فارقة من جملة الإصدارات لمؤلفٍ جادٍّ باحثٍ عن الضوء في تلافيف ومنعطفات الوجود والكائنات وفي مقدمها الإنسان، منطلقا من مفهوم الضيم الذي اشتقّ منه مصطلحه الفلسفي quot;الضيمياء quot; معتبرا أن مبدأ الضيميائية وكما يقول الكاتب: quot;هي فلسفة الكشف عن الضيم الذي يصيب عقولنا ويسجننا في يقينياته الكاذبة quot;، ويتابع ... quot;الضيميائيّة مذهب فلسفي يُرينا كيف أننا نظنّ كذبا أنّ كلّ شيء أداة في خدمتنا بينما الحقّ أننا نحن أدوات في خدمة كل شيء آخرquot;.
وأكتب هنا ليس لمجرد أن أكتب، بل سعيا حقيقيّا لحراكٍ إنساني عارم قد يساهم في تحررنا جميعا من تَبِعات الضيم الواقع على إرادتنا وسعادتنا وحقوقنا ومواطنيّتنا وطموحاتنا المُستعصية في كبد الحيتان المفترسة، التي لا تعرف الاعتذار لأنها لا تعرف الخجل، ولا تعرف الظلام لأنها تصدّره، ولا تعرف الضيم لأنه ملكيّة حصرية تجود حكوماتنا الجليلة به علينا بالتساوي.

www.geocites.com/ghada_samman
[email protected]