منذ مدّة طويلة لم نسمع عن مصادرة كتاب أو معارضة صاحبه، فقد توّصلت الحكومات ذات البأس والشدّة في العقد الأخير إلى قهر الإرادات الخارجة عن سياقها، حين عملت على ترويضها بعدة طرق تتلخّص إمّا بالأساليب الودّية وهي الشائعة عموما كاستقطاب quot;حملة الأقلام quot; وما أكثرهم هذه الأيام، بعدما أصبحت الكتابة عمل من لا عمل له، مما سهّل الاحتراف الأدبي واستسهال النشر بدون أدنى شعور بالمسؤولية، بل أحيانا صار الأدب بمثابة مهمّة خاصّة تقوم الجهات الرسمية بتكليف الكثير من الأصوات الصغيرة التي يسهل استثمارها على أكمل وجه بقليل من المِنَح ويسير من العطايا لتصبح دسيسة على الوسط الثقافي ورقيبا على مسار أنفاس المثقفين ما إن كانت ذات ميمنة أم ميسرة أم أنها خارج النطاقين المذكورين، أمّا الأصوات المتوسّطة فقد عملت الجهات الرسمية ذاتها على طيّها تحت عباءتها بتكريس بعض مناصب الترضيّة من وزارات ودوائر وألقاب فخرية كمستشار هنا أو مستشار هناك، وما أكثر الاصطلاحات و الأدوار والوظائف والمناصب والمحسوبيّات التي تدّخرها تلك الجهات لتعزيز كيانيّتها بأولئك وهؤلاء، أضف إلى جهودها الدائمة لتوسيع هالاتها هنا وهناك، حتى وإن كانت بلون أسود لا غير، ولمّا كان هناك بعض الأصوات العاليّة جدا والأبيّة بالتأكيد وهي غير قابلة لدخول المزاد فقد شرّعت الزنازين أبوابها للاحتفاء بما تبقّى من هوامش خارجه عن قوانين الدولة الاستتباعيّة القمعية القهرية التي أدخلتها في غياهب التأهيل المُبهم، الذي لا نسمع عن سيرته أو سيرورته شيئا!
وفي بعض الأحيان كان الرقيب خير داعم لشهرة الإصدارات الجديدة، وكما يقول المثل: quot;نيّال من صادرت الرقابة كتابهquot;، إذ سرعان ما يدخل صاحبه دائرة الضوء بقدرة قادر، ويصير الشغل الشاغل للأوساط الثقافية والصحافية على أوسع نطاق، ولطالما شعرنا باستصغار للمتلقي، وتحجيم ملكاته وإمكاناته الفكرية والثقافية، فكم كتاب تمّت مصادرته بحججّ قانونية واهية تخصّ قانون الكتب والمطبوعات سُرعان ما تبيّن بُهتانها وسطحيّتها وخوائها، مثال كتاب عبده وازن quot;حدائق الحواس quot; الذي صادرته الرقابة بداية التسعينات، على أنه كتاب يسيء إلى الأخلاق العامة ويخدش حياء القارىء بشدّة، تبيّن بعد قراءته أنه من أقلّ الكتب مباشرة إن لم نقل أنه من أكثرها عاديّة وتوازن، نظير عشرات الكتب التي سبقتها إباحيّة في التوصيف الحسّي، والمشهدية المُباشرة، والتعرية اللفظية المؤذية ليس في الدلالة فقط بل في الوقع الصادم والصاعق أحيانا.
وهكذا تحوّل كتاب حدائق الحواس لعبده وازن وبنات الرياض لرجاء الصانع وآيات شيطانية لسلمان رشدي، والكتاب والقرآن لمحمد شحرور، من الكتب التي استطاعت أن تثير فضول القارىء وتستحثّه على اقتناء الكتاب بالسوق السوداء التي نشطت بترويج الكتاب بأضعاف أضعاف ثمنه الأصلي بعد حصوله على امتياز قرار المنع، وذلك بفضل الرقابة التي تُواكبُ عادةً عملية إصدار الكتاب فتساهم مساهمة فعالة تأتي خلاف المُراد تماما من قانون المصادرة، وذلك لما لها من انعكاس إيجابي يحرّض القارىء على المتابعة والانتباه من باب الفضول إن لم يكن من باب الاهتمام إلى درجة الهوس فيضاعف المبيعات كأي سلعة معلن عنها إعلانا مُتكررا يعمل على تحفيز المُشاهد كالعادة.
الاستقراء المنقوص والعاجل أعلاه لم يأت عفو الخاطر، بل هو وليد رسالة موسّعة تلقيتها عبر بريدي من صاحب quot;دار فضاءات quot; السيد quot;جهاد أبو حشيش quot; الشاعر والناشط حاليا في حقل الكتب والإصدارات نشاطا ملحوظا والدائب على تصدير الكتاب تلو الكتاب بسرعة قياسية هائلة تكاد تنفرد وتتصدّر معظم دور النشر في العالم العربي عموما وفي بيروت عاصمة الكتاب خصوصا والتي بدأت وتيرتها تخبو نسبيا نظرا لعدّة عوامل أهمها عزوف القارىء العربي عن القراءة بسبب الغلاء المعيشي الفادح الذي يُعانيه، أضف إلى انتشار الشاشات الفضائية انتشارا سرطانيا يصعب تفاديه، علاوة على ذلك غلبة العالم الافتراضي المتمثّل بالأنترنيت، على واقعية الكتاب الورقي وقابلية تداوله بين الناشئة والجيل الجديد.
دار فضاءات أصدرت مؤخرا مجموعة شعرية بعنوان quot; رشاقة ظلّ quot; بعد حصول صاحبها quot;إسلام سمحان quot; على موافقة خطيّة من قبل الجهات المعنية والتي صادقت على نشر الكتاب، ولكن ما إن أصبح الكتاب بمتناول القارىء وبعد توزيعه في المكتبات الأردنية جهة النشر، حتى سارع المدّعي العام الأردني إلى إصدار مذكرة توقيف بحق صاحب الإصدار وإلى اتّخاذ بعض الإجراءات القانونية بحق دار فضاءات، كما أنه تمّ فعليا توقيف المُدّعى عليه quot;إسلام سمحان quot; بتهمة تحريف النصوص القرآنية، وأرفق أدناه ما وردني من السيد جهاد أبو حشيش صوره عن الضبط الرسمي:
- بناءً على قرار صادر من مدعي عام عمان، جرت يوم الأربعاء 15/ 10/ 2008 مصادرة نسخ ديوان شعر quot;برشاقة ظلquot; للشاعر الأردني إسلام سمحان، الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان.
وفي معرض تعليق دار فضاءات للنشر والتوزيع على ما حدث تؤكد أن المؤلف إسلام سمحان قد احضر كتاباً رسمياً صادراً عن دائرة المطبوعات والنشر رقم 1/3584 بتاريخ 2/12/2007، ينص على تسجيل كتاب quot;برشاقة ظلquot; لدى المكتبة الوطنية. وقد تم إيداع ثلاث نسخ منه لدى المكتبة الوطنية وذلك قبل عرضه للبيع او التوزيع. علما أن التهمة الموجهة إلى دار فضاءات هي تهمة إصدار مطبوعة دون الحصول على موافقة دائرة المطبوعات والنشر، إضافة إلى تهمة مخالفة قانون المطبوعات والنشر.
نرفق صورة عن كتاب دائرة المكتبة الوطنية رقم 1/3584 بتاريخ 2/12/2007.
- نسب إلى مدير المطبوعات والنشر نبيل المومني عدم إجازة كتاب برشاقة ظل من قبل دائرة المطبوعات والنشر وأنه حول بعد أخذه الترقيم من المكتبة الوطنية إلى وزارة الأوقاف لإبداء الرأي فيه.
وفي تعليقنا على هذا نقول وبناءا على تحويل كتب أخرى سابقة إلى الأوقاف أن كتاب التحويل إلى الأوقاف يخاطب الوزارة طالبا منها إبداء الرأي بمواصلة السير في إعطاء التصنيف أو عدم السير به quot;أي منعهquot; وفي حال تم اخذ رقم التصنيف في هذه الحالة يكون الكتاب قد نال موافقة الأوقاف، ويتطلب من المؤلف أو الناشر إيداع ثلاث نسخ لدى دائرة المكتبة الوطنية قبل البيع أو التوزيع.
وهو الأمر الذي قامت به الدار فور صدور الكتاب وقد تسلم مركز الإيداع في دائرة المكتبة الوطنية بتاريخ 13/4/2008من السيد إسلام سمحان ثلاث نسخ وأدخلت النسخ بموجب مستند الإدخالات 639786
وقد قامت المكتبة الوطنية بعدها بالموافقة للمؤلف على الشراء ومن ثم وافقت لجان الشراء في وزارة الثقافة أيضا على شراء خمسين نسخة من الكتاب.
فكيف وبعد مرور الكتاب بكل هذه المحطات والإشادة به في الصحف المحلية والعربية وبذائقته اللغوية كيف لنا أن نفاجأ بأنه كتاب مسيء ويحمل ما ادعاه بعض زملائنا من إساءات.
وكانت صحيفة الغدّ الأردنية السبّاقة لنشر خبر توقيف الشاعر إسلام سمحان بتاريخ 21/10/ 2008 لمدة 15 يوما على ذمّة التحقيق.
هذه المرّة إذا الرقابة كانت جادّة أكثر مما ينبغي ولعلّها مفاجأة حقيقيّة أن تكون هذه الإجراءات التعسفية بحق أصحاب الكلمة وخاصّة في المملكة الأردنية الهاشمية بلد الحرية والديمقراطية وكما يتناهى إلينا من سياسة الانفتاح التي يعتمدها الملك عبد الله جنبا إلى جنب مع الملكة رانيا المحبوبة جدا والقريبة من المثقفين والشعب قربا إنسانيا رفيع المستوى نتابعه عن كثب في محطات عدّة، ولا أعلم ما إذا كان قرار التوقيف هو سابقة قضائية تتخذ بحق مؤلّف وصاحب إصدار، طبعا لم تسلم دار فضاءات من الملاحقة القانونية السارية حتى تاريخ تحرير هذا المقال، ولا يسعني في هذا العرض المُقتضب سوى أن أحيل وبما أوتيتُ من أمانة هذا الأمر إلى الرأي العام ليدلي بدلوه على حده، وهنا لا بدّ من التنويه أنني لن أدّعي مَيلي الكامل أو تأييدي للإصدار المذكور quot;رشاقة ظلّ quot; ولن أدّعي ضلوعي في الإطلاع المتأنّي اللازم لتصدير رأي يخصّ شرعية نشر النصّ من عدمه، ولكن أعتبر نفسي رافضه لما حصل جملة وتفصيلا بشأن التوقيف تحديدا، فكل الإجراءات بحق الكتاب يُمكن تفهّمها، ولكن توقيف صاحب الإصدار هو عمل يعود بنا إلى عهد الظلمات لهذا أتمنى على المدّعي العام الأردني أن يعيد النظر فورا بشأن التوقيف ولاشكّ أنّ العودة عن حظر الحرية الشخصية ومصادرتها بالتأكيد هو فضيلة.
www.geocities.com/ghada_samman
[email protected]