قال الله تعالى: quot;شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقانquot; صدق الله العظيم. سورة البقرة (185)
انفضّ الشهر الكريم، وحمل معه كافة الأطباق، لم يكن هناك متّسع للتسامح والتصافح والتصالح إلا على شاشات البثّ التلفزيوني، فمعظم الناس كانوا على غضب وعوامل غضبهم تتمحور حول ثلاث، ارتفاع درجة حرارة الطقس، وارتفاع درجة حرارة الأسعار، وارتفاع درجة حرارة المواقف السياسيّة وخطب السياسيين.
فحلّ النوم محلّ الحركة للقضاء على القسط الأكبر من ساعات الصيام وتدارك انقطاع التيار الكهربائي بغية التقنين المعتمد في ساعات الذروة الحرارية لتلافي حالة الطقس وحرارتها المتزايدة التي أعادت للجميع وسائل التبريد البدائيّة /مروحة يدوية، منشفة رطبة على الجبين، وعاء ماء بارد لنقع القدمين/، وحلّت الشكوى وساد التذمّر محلّ {الشكر والحمد}، على نعمتيّ البذخ والرخاء اللتان تقتصر على نساء المسؤولين وأبنائهم وذوي قرباهم، ليغرق المواطن العادي في نقصه المادي وحرمانه المعنوي ويتخبّط في استيائه كمتنفّس تضامني يشترك به الجميع بما فيهم ذوي الدخل المرتفع نسبيّا، أمّا مواقف السياسيين فقد كانت جليّة الفضائل هذا الموسم الرمضاني حيث حلّت الكثير من اللعنات على المواطنين وحدهم، فكما العادة السياسيون quot;يختلفون ليأتلفوا quot; ووحده المواطن العادي يحصد النتائج على يدّ الحركات الأصوليّة الناشطة لصالح هذه الجهة أو تلك، ومن ثمّ ليستعيد الإعلام دورته الحيوية في استثمار الشاشة الصغيرة بشدّ أكبر عدد ممكن لأثير هذه المحطّة أو تلك بناء على السبق الإعلامي القادر على تمرير شريط quot;الخبر العاجل quot; الذي سرعان ما تنفرد عدسات الكاميرات لتقديم المشهد وفداحة الكارثة، وكأنّ القتلة لا تدخل في حسابهم قدسيّة الوقت وليس أيّ وقت عندما تصرّ أصابع الخراب على سحب الفتيل وتفجير الصاعق في أرواحنا وأحداقنا وأعصابنا جميعا، ليتفرّد المصوّر بكتلة لحم من بقايا جسد تشظّى هنا أو تناثر هناك، وتصير بقعة الدم من أكثر المشاهد إثارة وهي تحافظ على مصداقية واقعيّتها التي تعجز المخيلة الهوليودية على ابتكارها في كثير من أفلام العنف، و كأنّ الأشهر الحُرم التي يكتمل المعنى في أسمى شهورها الثلاث متمثّلا في رمضان شهر السلام والوئام والمحبّة، لم تعد حُرما على الدمّ فقد أحلّ في شهر الخير والبركة ldquo;دم المسلم وماله وعرضه ldquo;، وبدأنا نحصيها مأساة تلو الأخرى، فمن مجزرة الشمال اللبناني /طرابلس / الذي أحلّت بها دماء الأبرياء، إلى مجزرة دمشق على طريق المطار التي أحلّت بها مزيد من دماء الأبرياء، إلى مجزرة موازية سبقت بضعة أيام في الجزائر، ليأت حريق المسرح القومي في القاهرة حدثا مريبا وكأنه مفتعلا على هامش قائمة العلميات الإرهابيّة بحقّ المواطن العربي الذي لم يعد آمنا في وطنه، طبعا ولا يخفى على أحد ما تشهده الأراضي العراقية من مجازر يومية تُمرّر أعداد القتلى والجرحى فيها عبر النشرات الإخبارية والملاحق والموجزات، كما تُمرر دعايات quot;البامبرز والأولويز والكوكاكولا quot; على حدٍّ سواء.
حتى أنّ الخبر قد فقد لدى المُشاهد عنصر الدهشة، وأعراض الشهقة المُباغتة. وهكذا الحال في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فما من يوم يمضي إلا ويحمل معه أكثر من شهيد وأكثر من جريح ولا حياة لمن تنادي، فالجميع منهمك في متابعة الدراما الرمضانية السخيّة، وكأنّ جميع أشهر السنة لم تعد تصلح لترقّب أعمال الشاشة الصغيرة، وكأنّ رمضان ما هو إلا شهر الفن والفنانين بامتياز !
تشير الإحصائيات إلى أنّ عدد الأعمال الدرامية هذا العام قد ناهزت الستين إنجازاً، يتشدّق بالإعلان عنها طائفة من المنتجين تشدّق كبار الكَسَبَة، فكل منتج هو الرابح الأكبر على حساب الشهر الكريم، وكل ممثّل هو الشهب الوضّاء الذي أنار عتمة زمن المشاهد وأيامه وأحلامه وأوهامه ولياليه. ناهيك عن برامج الكسب السريع التي لا يفصلك عنها غير بضعة أرقام وسذاجة وسماجة باهظة من مهرّج هنا ومهرّج هناك يواصل الحضّ على خوض المغامرة المشروعة التي تخوّل المتصل ربح حفنة من الدولارات، وإن خسر مقابلها كافة الاعتبارات الذاتية والمعنوية، المهم هو اقتناص اللحظة الحاسمة للهبَل، ودخول معترك السخافة بحماسة منقطعة النظر والنظير، هكذا يشاء أصحاب المحطات الفضائية الفضفاضة الكرام، ترويج الغثّ بكل الأبعاد، مقابل غياب الثقافة وبرامجها وغياب المثقفين وبصماتهم بكافة أنواعها عن أطراف الشاشة الصغيرة ومتنها، ومع ذلك نرى أنّ المثقّف والصحافي قد احتلّ حصّة الأسد في جملة الدراما الرمضانية التي حظيت بنسبة عالية من المُتابعة، ففي مسلسل quot;أسمهان quot; كان للصحافي quot;محمد التابعي quot; الدور الأكبر في تذليل كافة العقبات التي اعترضت مسيرة أسمهان الحافلة بتنوّع لم يكن ليخطر على بال أحد قطّ لو كانت في زمننا الراهن فكيف وهي ابنة المجتمع المغلق في جبل الدروز، والوطن السوري المحتلّ، والعاصمة المصرية المُستعارة، التي لطالما وجدت نفسها مهددة بالطرد منها، وعلى الرغم من كلّ العلاقات التي عرفتها أسمهان لم يكن بوسع أحد مساعدتها كما فعل quot;محمد التابعي quot; الصحافي الذي لم نشهد من أدائه الواثق والأنيق سوى اهتمامه بأسمهان وتحركاتها اللا مسؤولة، تماما كما لعب quot;يوسف الصيّاد quot; دور الصحافي الفذّ الذي أسرف في تبديد عواطفه تجاه محبوبته quot;سكّره quot; كما أسرف في تبديد جهده في ملاحقة الفساد، فلم يأت عاشقا مقنعا على صعيد العشق، ولا صحافيّا متمرّسا على صعيد المهنة التي تصاعد فيها تصاعدا تراتبيّا غير مقنع على الإطلاق، وأيضا يد أمينة التي شاء لها العنوان اسما ونعتا في الوقت نفسه، فكانت فيه quot;أمينه quot; الزوجة المخدوعة، والمطلّقة المرغوبة، والصحافية اللهلوبة بجميع المقاييس، فوحدها كانت على رأس جوقة quot;الإيكيب quot; الهشّ تخطط وتنفّذ وتنجو من الموت إثر كل مواجهة، وما أكثر المواجهات التي خاضتها لإنقاذ مجتمع برمّته، فقد استطاعت التسلل إلى وكر الدبابير، وخرجت منه بحفنة عتاب فاتر من quot;أبو الفرج quot; وجماعته لا أكثر ولا أقلّ،
واستطاعت أن تتفادى موتا محققا برصاصة في الكتف على الرغم من وابل حادّ من عدة أسلحة أتوماتيكية، أصابتها بإغماءة فورية ورصاصة عابرة لم تسفر عن الكثير، وبين هذا وتلك كانت quot;نادين خوري quot; رئيسة تحرير جريدة quot;الشارع quot; وهي الصحافية البارزة في الدورة الرمضانية التي تسابق وتزاحم فيها الجميع ليحتل الصدارة، والكل كان يتصدّى في الوقت نفسه لقضايا الفساد والمفسدين في الأرض بإمكانيات سوبرمانية لا تشبه الواقع في شيء، الصحافة التي حملت مصداقية واقعية كبيرة تجلّت في مسلسل quot;زهرة اللوتس quot; حيث اجتهد quot;رامي حنّا quot; تمثيلا وإخراجا في تجسيد شخصية quot;الزنوجة الأدبيّة quot; وهي كناية عن الذين يكتبون لquot;متنفّذات quot; وبارزات في عالم الكتابة شاعت أسماءهنّ بأكبر quot;المنشتات quot;، مع أنّهنّ لا يكتبن فيه عادة أكثر من اسمهنّ ويوقعن عليه وما أكثرهنّ شيوعا هذه الأيام.
الشخصيّة الأميز في عجقة الأعمال الدرامية كانت للشخصية الدمشقية الأصيلة والمجتمع الشامي الذي ينقرض واقعا ويحضر في الدراما التلفزيونية بقوّة بالغة كتعويض عن التغييب المُراد له على أرض الواقع، والذي حلّ محله كل بديل وعارض ودخيل، ومن مزايا هذا الانتشار للشخصية الدمشقية إمكانية لملمة شتاتها واستعادة حضورها ودورها ونهوضها وأصالتها وعراقتها،
وإن بعد حين يكون أبناءها قد شبعوا تماما من سُباتهم ولا مبالاتهم. وقد برع في تجسيد الشخصية الدمشقية كلّ من quot;قصي خولي وجمال سليمان quot; على الرغم من بعدهم عن الجذور الدمشقية، وتميّزت إلى جانبهم quot;قطر الندى quot; كفنانة متمكنة من أدواتها وأدائها بذات الكفاءة العالية، طبعا لا يخفى على أحد حضور الفنان quot;رفيق السبيعي و عبد الرحمن آل رشي quot; كم يضيف من ثِقل إلى العمل الدرامي، ومع أنّ الحصرم الشامي لا يقل تميّزا في جملة الأعمال المطروحة إلا أنّ اعتماد الكثير من الشخصيات التي هلكت في الجزء الأول وحضرت في الجزء الثاني حضورا قسريّا أفقد العمل قيمته بعدما أوقع المُشاهِد في التباسات التقدير والتخمين والإسقاط والإرجاع.
في قصّة الأمس استطاع quot;مصطفى فهمي quot; بحضوره السلس والبسيط والبعيد عن استعراض العضلات كل البعد أن يترك بصمة وإن بضوء خافت استطاع أن يؤكّد حضوره في غمرة الصخب الضوئي الذي عجّت به الشاشة الرمضانيّة.
quot; الدالي quot; في جزئيه الأول والثاني والذي لعب بطولته quot;نور الشريف quot; كبطولة محوريّة تحلّق حولها كوكبة هائلة من الممثلين الذين لم يسجلوا حضورا يُذكر، كان يكفي أن تمرّ على كل حلقة متعاقبة مرور الكرام حتى تُدرك الحالة التي يمرّ بها الدالي والتي لا تقف عند حدّ فمن الحنان المفرط كأب وزوج وصديق إلى عدائي، إلى مُواجه، إلى عنيد، إلى ساخط، إلى غاضب، إلى رجل أعمال عملاق، إلى مُستهدف من مافيات دولية، إلى ضحية، إلى مسكين، إلى منتقم، وإلى ما تشاء الحكاية مواصلته في الجزء الثالث من هذر على حساب الواقع، وهدر على حساب الوقت.
وحده التكريس عبر الشاشة الصغيرة هو المطلوب لهؤلاء الذين يستثمرون انتباهنا بضراوة، فما إن انفضّت الشاشة من عرض الاستعراض الذي تمّ بعونه تعالى في المزادٍ الرمضاني الكبير حتى أتونا بالمزيد منه، ندوة تليها ندوة، وكل فريق عمل على قناة فضائية منافسة، يُباهي بما قدّمت يداه، يشرح، يحلل، ينقد، يؤوّل، في ظل الغياب التام للناقد والصحافي والأديب والمثقّف، إلا اللهم على شاشة ال/l.b.c / في برنامج quot;عيشوا معنا quot; من إعداد وتقديم quot; علي العلياني quot; الذي يحرص كل الحرص على إدخال كل النجوم المُبهمة عن مراصد الترصّد من شاعر وناقد وصحفي ومثقّف إلى دائرة الضوء، ليعيش المُشاهد التكامل الاجتماعي بمعنى الكلمة، بكثير من المُصداقية وقليل من الجهد.
السؤال الأخير الذي لا بدّ منه: هل حقا كانت الشاشة الصغيرة التي أفسحت للصحافة دورا طوباويّا، محقّة وموضوعيّة في تظهير الخلل الاجتماعي والفساد المتفشي في أوصال المجتمع ودوائره الرسمية والخاصّة ليصبح ظاهرا إلى العيان، هو بهذه البساطة فعلا، يحضر ذاكرتي صوت الإعلامية quot;منى صليبا quot; المُفعم بالذُعر عندما اصطحبت مصوّرا من قناة المؤسسة اللبنانية للإرسال، لتنقل مشهد إغلاق quot;طريق المطار الدولية quot; في بيروت، كيف تعرّضت لتحطيم الكاميرا وتحطيم عزيمتها في نقل المشهد، وإعادتها من حيث أتت، فهل الصحافي والإعلامي على هذا القدر من الإرادة والحركة والحرية والاستقلالية والمجازفات فعلا؟..............