-1-
علينا أن نتذكر دائماً بأن النظام السوري هو النظام العربي الوحيد في العالم العربي، الذي يقول بالوحدة العربية في شعاره الرسمي، وهو شعار حزب البعث العربي (وحدة ndash; حرية- اشتراكية) رغم أنه منذأكثر من نصف قرن على ظهور حزب البعث العربي في سوريا أولاً، ثم في العراق، والأردن، ولبنان، وفلسطين، لم يستطع حزب البعث أن يحقق بنداً واحداً من بنود شعاره في الوحدة والحرية والاشتراكية حتى الآن. وظل هذا الشعار الرومانسي حبراً على ورق، بغية المتاجرة السياسية و (السلبطة) السياسية.
-2-
ولكن النظام السوري، نجح أخيراً في تحقيق جزء من هذه الوحدة القسرية بين سوريا ولبنان، بالقوة السياسية والدهاء والحنكة السياسية كذلك. وتفادى النظام السوري الأخطاء، التي ارتكبها الملك عبد الله الأول حين ضمَّ الضفة الغربية إلى مملكته الأردنية عام 1951، كما تفادى النظام السوري أخطاء الزعيم الأرعن صدام حسين، حين أراد ضمَّ الكويت للعراق عام 1990بالقوة العسكرية، وأطلق عليها المحافظة التاسعة عشرة بكل عنجهية ورعونة سياسية بادية. أما مظاهر الدهاء والحنكة في ضمِّ لبنان إلى سوريا، فتتجلّى فيما يلي:
1- لم يقم النظام السوري باجتياح شعبي أو عسكري للبنان لإعلان الوحدة، كما تم عام 1958 عندما ذهبت مجموعة من الضباط السوريين إلى القاهرة، وسلَّمت مفاتيح دمشق لعبد الناصر، الذي ما فتأ أن أرسل عبد الحكيم عامر حاكماً عسكرياً لسوريا، الذي عاث فيها مع عبد الحميد السراج فساداً، لمدة ثلاث سنوات، حتى انهارت الوحدة المزعومة عام 1961.
2- لم يقم النظام السوري بنشر الأغاني الوحدوية، وإذاعة الخطابات الثورية الرعناء، لهذا الضمّ بين سوريا ولبنان. وتم كل شيء بهدوء، ودون زغاريد، وخطب حماسية. ومثل هذا الضم شبيه بالزواج (الخطيفة). وفيه يقوم الحبيب بخطف حبيبته على (السُكّيت)، ويتكتم الأهل من كلا الطرفين على الحادثة. ولا مَنْ شاف ولا مَنْ دري.
3- لبّى النظام السوري مؤخراً بعض المطالب الأوروبية والأمريكية، لكي ينال الرضا والقبول من المجتمع الدولي. فقام بالاعتراف بدولة لبنان، بعد 65 سنة من الاستقلال اللبناني عام 1943، وأصدر مرسوماً بتبادل التمثيل الدبلوماسي بينهما لأول مرة، لذر الرماد في عيون الغرب. والنظام السوري يعلم، بأن هذا التبادل الدبلوماسي هو من صالحه. فسيكون في قلب بيروت غداً، كما سبق وكان في فندق البوريفاج قبل 2005. وها نحن عُدنا يا بابا حافظ.
4- يعلم لبنان أن هذا الضمَّ القصري للبنان إلى سوريا، لا يُرضي مضارب بدو 14 آذار، ولكنه يُرضي كثيراً مضارب بدو 8 آذار. والدليل أن زعيم هذه المضارب المسيحي ميشال عون ذاهب غداً إلى دمشق للمباركة، و(بوس) الأيادي، وطلب الرضا والعفو، عما فعل وقال عام 2002 من أن سوريا على قائمة الدول المؤيدة والمصدرة للإرهاب في العالم العربي.
-3-
ولكن ما هي مظاهر اختطاف سوريا (العاشق) للبنان (المعشوقة) على ظهر جواد أسود كالكحل؟
هناك عدة مظاهر منها:
1- أن لبنان لا يستطيع إقامة أية علاقات سياسية خارجية مع أية دولة، دون مشورة سوريا، ونيل رضاها، وإلا فالعقاب جاهز، وهو غلق الحدود السورية ndash; اللبنانية، ورمي التفاح اللبناني في البحر، أو إطعامه للأبقار والأغنام.
2- يسمح لسوريا بالتفاوض المباشر وغير المباشر مع إسرائيل دون استشارة أحد. ولكن لا يسمح للبنان بالتفاوض مع إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا بعد أخذ موافقة الأعمام في سوريا ورضاهم.
3- لا تسمح سوريا بتسليح الجيش اللبناني بالطائرات والدروع، حتى لا يصبح جيشاً قوياً، يكون بديلاً للمقاومة الشيعية- الإيرانية في لبنان. ومن هنا يبقى الجيش اللبناني قوة أمنية داخلية، بلباس عسكري وهو ما يقوم به الآن. وبهذا تكون سوريا هي مالكة الجيش اللبناني الحقيقي القوي، وهو ميليشيات حزب الله العسكرية.
4- صحيح أن في لبنان رئيس جمهورية ورئيس حكومة وبرلمان. ولكن كل هؤلاء لا يتحركون إلا بالمساحة السورية المتاحة. فرئيس لبنان السابق (أميل لحود) مُدد له بقرار سوري، وتعطلت حكومة السنيورة السابقة بقرار سوري، عندما انسحب منها الشيعة ووزراء المعارضة، وأغلق البرلمان اللبناني لأكثر من عام، وسُلّمت مفاتيحه لدمشق، وتعطل بقرار سوري.
5- صحيح أن لبنان فيه أحزاب مسيحية تعارض السياسة السورية، وهو ما لا يوجد في سوريا. ولكن سوريا لا تفتأ من حين لآخر اغتيال زعماء المعارضة اللبنانية (جبران تويني، وبيير الجميّل، وأنطون غانم والنائب وليد عيدو ونجله وغيرهم)، وتصفيتهم حتى تردع الآخرين بهؤلاء. وقد نجحت في ذلك حين جعلت وليد جنبلاط أثناء اجتياح حزب الله لبيروت في 2008 أن يستنجد بالمير طلال أرسلان، ويطلب حمايته للدروز في الجبل، من بطش سوريا.
6- اعتبار لبنان المحافظة السورية الخامسة عشرة، رغم وجود علم لبناني، ورئيس لبناني. ولكن علينا أن لا ننسى أن سوريا، تسيطر تماماً على الإعلام اللبناني والقوة العسكرية اللبنانية (حزب الله) ولها قوة أمنية في مطار بيروت، تمنع وتعتقل منه كل مطلوب للأمن السوري، أو غير مرغوب فيه في سوريا.
7- يتنقل السوري بين سوريا ولبنان بدون تأشيرة، وكأنه يتنقل بين محافظة وأخرى داخل سوريا. ويعمل السوريون في لبنان بدون إذن عمل مسبق، وكأنهم يعملون في سوريا. في حين مُحرَّم على الفلسطيني المقيم في لبنان أكثر من نصف قرن، العمل في لبنان.
8- كل لبناني وخاصة من بين السياسيين مسئول عما يفعله تجاه النظام السوري. وسوريا هي وحدها التي يحق لها فرض الجزاء على من يستحقه من السياسيين اللبنانيين.
9- لا يمكن للزعماء السياسيين اللبنانيين أن يتفقوا أو أن يفكوا الاشتباك بينهم، ما لم تُضيء لهم سوريا النور الأخضر. وهذا ما تمَّ في الدوحة في هذا العام. فبعد أن كان لبنان على شفير حرب أهلية مدمرة، تمَّ مؤتمر المصالحة في الدوحة، وأعطت سورها ضوءها الأخضر بالموافقة، وكان الأمر كالسحر، أو أكثر من السحر، وتنفّس الجميع الصعداء.
10- وأخيراً، رغم وجود دولة صورية في لبنان، إلا أن المرجعية السياسية اللبنانية مرتبطة بسوريا، وخاصة منذ الاحتلال السوري للبنان عام 1976. فلا يُعيَّن رئيس الجمهورية، أو رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو قائد الجيش، أو مدير الأمن العام، أو كبار ضباط الجيش، وغير ذلك من التعيينات المهمة والحساسة، إلا بضوء أخضر من سوريا، والذي أطلقنا عليه سابقاً (الباب العالي العلوي)، وهو الباب الذي يملك الصلاحيات نفسها، التي كان يملكها الباب العالي العثماني في اسطنبول في تعيين الولاة والقادة في بلاد الشام خاصة.
التعليقات