تعقيباً على مقال العفيف الأخضر

إلى عقلاء الكويت والخليج: ما مزايا تدريس الفلسفة؟



-1-
يقول أبو النصر الفارابي (872-950م) في كتابه quot;تحصيل السعادةquot;، أن الفلسفة هي quot;أولى العلوم كلها لكونها تعطي الموجودات معقولةً ببراهين يقينيةquot; والفلسفة عند الفارابي علم وأيديولوجيا.
كتب العفيف الأخضر هنا في quot;إيلافquot; (30/10/2008)، مقالاً مهماً ودسماً، حول حاجة دول الخليج إلى إعطاء الفلسفة في المناهج الدراسية الخليجية اهتماماً شديداً. وبرر هذه الحاجة بكون الإنسان الخليجي المتلبَّس بالثقافة الدينية السلفية المتحجِّرة، لا فكاك له من هذا التلبُّس إلا بدراسة الفلسفة، والأخذ بالمنهاج العلمي الطبيعي. وقال العفيف شارحاً ومستفيضاً في الشرح والتكرار عن ضرورة الفلسفة، وأهميتها:
1- الفلسفة بما هي صناعة المفاهيم المجردة لإضاءة الوقائع الملموسة، هي معجزة العقل البشري في يونان القرن 7 قبل الميلاد. وهذا ما أمكن الإنسان من استخدام قوانين العقل، لاكتشاف قوانين الطبيعة، فأنتج العلم، والتكنولوجيا، وتاليا الحضارة.
2- تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية، ضروري لإعداد أجيال الغد للمساهمة، مع باقي البشرية، في طرح السؤال الفلسفي، ومحاولة تقديم مشروع إجابة عنه. فالفلسفة وحدها تعلمهم التفكير الفلسفي؛ أي التفكير بالمفاهيم التي تساعدهم بدورها على مقاربة ناجعة لمشاكل عصرهم.
3- تدريس الفلسفة، يقدم لدماغ الناشئة المعرفي التدريب، الذي هو في حاجة ماسة إليه ليتطور وإلا ظلّ كسيحاً، كما هو الآن لدى كثير من الشباب المتعلم المصاب باختلال ذهني عام، وعاجزاً عن التفكير بالمفاهيم، وحتى عن التفكير أصلاً.
4- إن وقائع التاريخ ووقائع الحياة اليومية، لا سبيل لفهمها فهماً تحليلياً منتجاً للقيمة المعرفية المضافة، إلا عبر مفاهيم علمية وفلسفية، تؤطرها نظرياً. تعلّم انتاج المفاهيم منذ الصغر، هو الكفيل بإنتاج الإنسان ذي المشروع. إنسان أجيال الغد؛ الإنسان ذو المشروع، يصوغ نظرياً فرضية جيّدة البناء تتبلور في فكره، ثم يشرع في وضعها موضع التطبيق.
5- تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية، يُعلّم أيضاً العقول الغضَّة كيف تتفادى العوائق المعرفية التي تعتقل عقول الغالبية من المثقفين. فالفلسفة تعلّم الصغار أن ميزة الشخصية النفسية والفكرية الناضجة هي ممارسة النقد الذاتي، لتنمية أدائها النظري والعملي، وتقبُّل النقد لإصلاح ما قد نكون ارتكبناه من أخطاء وخطايا.
6- تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية، كما في تونس والمغرب والجزائر، مُنتجٌ للفيلسوف العادي، أي المواطن ndash; الفيلسوف الذي لا يدرّس الفلسفة ولا يكتب بها، ولكنه يتصرف بمفاهيمها الأولية في حياته اليومية. وهو الذي قامت على كاهله الحداثة والديمقراطية في الغرب. فمن هو هذا الفيلسوف بتعريف الحد الأدنى؟ هو الذي لا يبحث في نقاشاته اليومية على الاقناع بل على الحقيقة، وهو الذي يحاول التفكير بنفسه بدلاً من تقليد باعة الأوهام الدينية والدنيوية، وهو قليل التصديق وكثير التساؤل، وشكاك في إيمان العجائز، وما تناسل منه من التأكيدات التي تتحلى بفضائل البديهة، وفي الآراء والمعتقدات quot;المعصومةquot;، التي هي في الواقع مجرد فرضيات، لا يحق لها فرض نفسها، بل تبقى قابلة لقراءات عدة، وأجوبة أخرى ممكنة وللتفكير وإعادة التفكير فيها، إلى ما لا نهاية.
7- وأخيراً، الفلسفة تعلّم الأجيال الطالعة أيضا مبادئ التفكير الواقعي. المعيار الأول للتفكير الواقعي هو التمييز بين الضروري في المطلق شبه الميتافيزيقي والممكن في النسبي التاريخي. وهو تمييز حاسم في الفلسفة السياسية، كما في فلسفة الأخلاق والقيم.

-2-
لم ينسَ العفيف الأخضر في مقاله، أن يُذكِّرنا بأن المدرسة العربية المعاصرة، لا تُدرّس الفكر النقدي وحسب بل تُدرِّس نقيضه، وهو الفكر التقريضي، فكر quot;كل شيء على أحسن ما يرامquot; في الدين. والدنيا لا ينقصها إلا المزيد من الدين. فلا غرابة أن تفتقد الكتابة المعاصرة الفكر النقدي. فما هو الفكر النقدي؟ لم تعرف الفلسفة مفهوم النقد إلا في فلسفة الأنوار، ق18، أولاً، وفي فلسفة كانط ثانياً. ففي فلسفة الأنوار، تكون مهمة العقل النقدي نقد كل منتجات العقل، أي دعوة جميع الاطروحات الفكرية والممارسات العملية إلى المثول أمام محمكمة العقل، لمساءلتها عن شرعيتها العقلانية.
كما لم ينسَ العفيف الأخضر التركيز على نقطة أن مرض ثقافتنا الإسلامية هو اليقين الأعمى. الشك بما هو حَيرة بين خيارات أو سيناريوهات عدة ممكنة، وبما هو ارتياب في حقيقة واقعة ما، وبما هو إحجام عن إصدار حكم قيمة على فعل ما، وبما هو تساؤل عن المرويات والمعتقدات، وبما هو شك في امتلاك الحقيقة ناهيك عن الحقيقة المطلقة... لا محل له من الإعراب في ثقافتنا الإسلامية المشابهة في هذا الصدد، لثقافات القبائل البدائية التي لا تعرف الشك. كل شيء آت لا ريب فيه. فأحكامنا قطعية.

-3-
لقد كان على العفيف، أن لا يترك ساحة quot;إيلافquot; بالأمس، قبل أن يسألنا السؤال الحيوي التالي، ويجيب عليه، وهو:
لماذا ازدهرت الفلسفة في العصور السابقة، ضمن حدود معينة، وأنتجت لنا الفيلسوف الكندي، والفيلسوف الفارابي، والسهروردي، وابن سينا، وابن رشد، واضمحلت واختفت في العصر الحديث، ما عدا المحاولات الفلسفية التي يقوم بها محمد أركون، وجلال صادق العظم، وعبد السلام بنعبد العالي، ورجاء بن سلامة، ومجموعة من الشباب المنهمكين بالفلسفة في المغرب العربي، نتيجة ثقافتهم الفرنسية المليئة بالفلسفة والفلاسفة؟
إن الراصد للواقع العربي الآن، يرى أن التراث العربي، لم يكن مشجعاً تماماً على القول الفلسفي أو التفسير الفلسفي. وأن ظهور كوكبة من الفلاسفة العرب والمسلمين كالكندي (فيلسوف العرب) والفارابي، والرازي، وابن سينا، وابن رشد، وغيرهم كان انفجاراً بركانياً، غير عادي. ولكن أبا حامد الغزالي وكتابه quot;تهافت الفلاسفةquot; أظهر بوضوح، أن العداء كان قائماً بين الحكمة (الفلسفة) وبين الشريعة كما يفهمها الفقهاء في ذلك العصر، وأن كان ذلك بفعل عامل سياسي. فالغزالي نقسه كان يبطن أفكاراً فلسفية ولكنه كان يخشى السلطة السياسية. وأن الفلاسفة المسلمين المتقدمين كأبي الوليد بن رشد (1126-98) حاولوا quot;فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصالquot;، ولمّا لم ينجحوا قالوا بأن الفلسفة للخاصة وليست للعامة. وكان الخصام بين الفلسفة وبين العقل العربي واضحاً، حتى بلغت الفلسفة العربية درجة كبيرة من الانحطاط. ومن أسباب هذا الانحطاط:
1- وقوف الفكر العربي إزاء الفلسفة في عصر الانحطاط موقفاً سلبياً. وكان المشتغلون بالفلسفة يُرمَون بالمروق والإلحاد، رغم أن الفيلسوف الكندي مثلاً كان مرتبطاً وجدانياً بالمسلمات الإيمانية، ومرتبطاً اجتماعياً بالإيديولوجيا اللاهوتية. وفي زمن الكندي نشأت ما يُطلق عليه quot;ثنائية الحقيقةquot; في الفكر العربي ndash; الإسلامي، وهي الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية.
2- إتصاف الدراسات الفلسفية بالتجريد، وبُعد مصطلحاتها الفنية عن الألفاظ المتداولة.
3- انتشار الجهل وتفشّي الأميّة بين أفراد المجتمع العربي.
4- لم تنبت الفلسفة نبتاً حسناً في العالم العربي، منذ أن صلب الخليفة عبد الملك بن مروان مِعبداً لقوله بالاستطاعة. وقتل الخليفة هشام بن عبد الملك غيلان الدمشقي لقوله في القدر. وذبح والي الكوفة خالد القسري المفكر المعتزل الجعد بن درهم لمخالفته أهل السُنَّة.
5- لم تنبت الفلسفة في أرضنا نبتاً حسناً، لأن أرضنا ومن عليها، كانت مشغولة بالدين الموحى. ولم تشبّ الفلسفة في بلادنا عن هذا الطوق المثالي الديني.
6- حين كانت تشبّ الفلسفة عن الطوق الديني المثالي، كانت تفعل كمن يعاكس أباه في كَنَفه، تظل في عينها مقولات الدين وقوالبه، كما يقول حسن قبيسي في (بؤس الفلسفة ونعيمها، ص4-5).
7- يقول ماركس أن العلوم الطبيعية هي الأساس للمعارف كلها. والمعارف العلمية الطبيعية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة، منذ أقدم العهود، كما يقول المفكر اللبناني حسين مروة الذي اغتاله الإرهاب الأصولي في كتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج2، ص 482). وبما أن الحاضر العربي وليس الخليجي فقط، مُقصرٌ ومتخلفٌ في العلوم الطبيعية، فالنتيجة الحتمية لذلك أن تنحط وتتخلف معه الفلسفة كذلك. وإذا أردنا النهوض بالفلسفة، فعلينا النهوض بالعلوم الطبيعية في الوقت ذاته.