-1-
هناك شرخٌ كبير، بين دعاة الأصولية وبين جمهورها، وتباين واضح، وكأن هذه الجماهير غير مصدِّقة، وغير موقنة من صحة الدعوة الأصولية، خاصة وأن غالبية هذه الجماهير من الشباب اليانع، الذي وُلد وتربى وعاش في العالم العربي، وسط قيم مجتمع استهلاكي، ذي قيم غربية في معظمها، وكان من الصعب عليه أن يعيش في جلابيب الآباء والأجداد، وآباء الأجداد، وأجداد الأجداد، ومن هم قبلهم، قبل مئات السنين.
فلا أحد في العصر الحديث يعيش في جلباب غيره.
فبينما دعاة الأصولية، يعيشون في الماضي بثقافته، وطقوسه، وقيمه، وأسواقه، ولباسه، وطعامه، وشرابه، وسلوكه اليومي، وكذلك بأشكالهم الغريبة، ولحاهم الطويلة جداً، وشواربهم المحفوفة، وثيابهم القصيرة، وكأنهم قادمون من كوكب آخر، يعيش جمهورهم في عالم آخر، مختلف كل الاختلاف، وكأنه يرفض العيش في جلابيب الماضي الغريبة.
-2-
جمهور الأصولية، يعيش في ظل القيم الدينية الحديثة (الاستهلاك والترقّي الاجتماعي) كما يقول المستشرق الفرنسي أوليفيه روا، في كتابه (تجربة الإسلام السياسي)، والمتخصص في شؤون الجماعات الإسلاموية. فهو جمهور يلبس الجينز، ويرقص على أنغام موسيقى غربية، ويأكل كما يأكل الغرب، ويركب ما يركبه، ويشاهد، ويسمع، ويقرأ ما يشاهده، ويسمعه، ويقرأه. ويمارس كل أنواع الرياضة البدنية، ويرتاد المقاهي، وخاصة quot;مقاهي الإنترنتquot;، ودور السينما، والنوادي الرياضية، وله صداقات من الجنس الآخر، في المدرسة، والجامعة، والعمل.. الخ.

-3-
كذلك، فإن دعاة الأصولية أنفسهم، لا يحجمون عن استخدام منتجات الحضارة الحديثة.
فلا يركبون الإبل والبغال والحمير، بدل الطائرات والسيارات والسفن.
ولا ينيرون بيوتهم بقناديل الزيت، وسراجات الكاز، بل يستعملون الكهرباء.
ولا يأكلون بأطباق من الفخار، بل بأطباق من الصيني.
ولا يغتسلون في الأنهار والغدران، بل في حمامات حديثة، مجهزة بالبانيوهات، والمياه الساخنة.
ولا يقرءون طوال الليل في الكتب الصفراء، بل يشاهدون قنوات التلفزيون المختلفة، ويستمعون إلى أجهزة الراديو.
ولا يستخدمون الحمام الزاجل لإرسال رسائلهم، بل يستخدمون الانترنت.
ولا ينشرون خطاباتهم على الرقاع، وورق البردى، والعظام، والحجارة، بل ينشرونها في مواقع اليكترونية على الانترنت.
لذا، نراهم يعيشون مفارقةً وتناقضاً عميقين.
-4-
فهم يدعون إلى quot;الجهادquot;، ويدفعون الشباب الغضِّ إلى النحر والانتحار، ولكنهم يمنعون أولادهم من القيام بذلك.
وهم يرفضون الحضارة الغربية، وقيمها، وخاصة ما يتعلق منها بالجنس والمرأة بالدرجة الأولى، وفي الوقت ذاته يستعملون وسائلها ونتاجاتها.
وشيوخهم، يفتون بكراهية، وتحريم المظاهرات، والانتخابات (فتوى الشيخ فوزان الفوزان) كقيمة من قيم الحداثة السياسية، وفي الوقت نفسه، يلجأون إلى استعمال أسلوب المظاهرات في احتجاجهم على سلوك الحكومات العربية، أو في ذمهم للغرب وسياساته، ويشاركون في كل انتخابات تشريعية، أو بلدية، أو محلية. ولهم ممثلون في مجالس النواب، والنقابات، والمجالس المحلية.
وهم يتبعون في تنظيماتهم السياسية الطراز اللينيني الشيوعي. فالأمير لديهم هو بمثابة quot;الأمين العامquot;، أو quot;السكرتير العامquot;، ومجلس الشورى، هو بمثابة quot;اللجنة المركزيةquot;.
-5-
وهم قد استعاروا من الماركسيين النطاق المفاهيمي، ولا سيما فكرة الثورة، ثم أفعموه بمصطلحات قرآنية للدعوة (الدعوة بمعنى الوعظ التبشيري والدعاية).
فالجماهير، التي كانت تتظاهر في القاهرة، وعمّان، وبيروت، وطهران، في الخمسينات، تحت راية العلم الأحمر، أو العلم الوطني، هي نفسها التي تسير اليوم تحت الراية الخضراء، أو الصفراء (راية quot;حزب اللهquot;).
وفلان الذي كان ماركسياً، أو بعثياً، أو قومياً عربياً (نسبة إلى quot;حركة القوميين العربquot;) هو اليوم إسلاموياً. وهكذا يكون العَلْماني ndash; مثالاً لا حصراً - أحمد جبريل، وميشيل عون، وبشّار الأسد، حلفاء لـ quot;حزب اللهquot;، و quot;حركة حماسquot;. ولنتذكر أن المفكر الإسلاموي الإيراني، على شريعتي (1933-1977) (مُنظِّر التشيّع المعارض) كان قارئاً نهماً لفرانز فانون (1925-1961) الماركسي، وصاحب الكتاب الشهير quot;المعذبون في الأرضquot; .
-6-
ولعل هذا الانفصام البادي في الشخصية الداخلية والخارجية، والظاهرة والباطنة، والليلية والنهارية، والسمراء والسوداء، هو الذي أنقص كثيراً من صدقية هؤلاء الأصوليين، وخاصة عند الجمهور الشعبوي، وجعل دعوتهم أقرب إلى الهزل منها إلى الجد.
وهو ما يذكرنا بعناصر quot;الألوية الحمراءquot;، الذين كانت الأصولية على شاكلتهم، من حيث أن العناصر الأصولية، لم يستطيعوا الاندماج اجتماعياً وثقافياً، في المجتمع العربي والغربي الحديث، فاختاروا العنف السياسي، للتعبير عن أزمتهم الاجتماعية والثقافية.
-7-
كذلك، نجد أن الحركات الأصولية الإرهابية، في العالم العربي، أقرب إلى الحركات الماركسية منها إلى أية حركات أخرى، وهو ما لاحظه وأثبته أوليفيه روا في كتابه المذكور، حين أشار إلى الرغبة نفسها عند الأصوليين والماركسيين في quot;التوليف بين الثورة واللاهوت؛ أي لاهوت التحرير والنزعة الإرادوية نفسها، والتطلّب نفسه لأصالة تكون في قطيعة مع الأنماط الغربيةquot; (ص15).
ويضرب روا أمثلة على ذلك، بحفيظ الله أمين في أفغانستان، وبول بوت في كمبوديا، والدرب المنير في البيرو. ويقول روا أن كافة هذه الحركات سعت خلف رطانة ماركسية دوغمائية، من أجل اختراع نموذج quot;قوميquot; جديد، استناداً إلى quot;انتلجنسيا خرقاءquot;.
-8-
ويخلُص روا، إلى أن الإرهاب ليس ابتكاراً إسلامياً، بقدر ما هو مرجعية مشتركة، بين كل حركات التحرر اللاهوتي الماركسي.
فالترجمة الماركسية العالمثالثية المعتمدة، التي كانت تتيح للبعض أن يتفهم أعمال عصبة بادر- ماينهوف، أو الأولوية الحمراء، لا بل خاطفي الطائرات من الفلسطينيين، لا تُتيح لهم، فهم معنى احتجاز الرهائن، لدى quot;حزب اللهquot;، عندما تغيب المرجعية المشتركة، لكل هذه الحركات الإرهابية.
السلام عليكم.

المقال فصلٌ من كتاب quot;تهافُت الأصوليةquot;، الذي سيصدر هذا الربيع، عن quot;المؤسسة العربية للدراسات والنشرquot;، في بيروت وعمّان.