-1-

لسنا بحاجة إلى وقت طويل، وتفكير عميق، لكي ندرك أن تاريخ السياسة العربية الفلسطينية، هو تاريخ الجمود الذهني للفكر السياسي العربي، الذي يتجلّى في هوس الرفض لكل حل وسط، تقترحه الأمم المتحدة، أو إسرائيل، أو أمريكا، أو أي زعيم عربي عقلاني. فهكذا رفضت السياسة العربية الفلسطينية اقتراح بن غوريون في جنيف في عام 1949 عودة مائة ألف لاجيء فلسطيني إلى أرض فلسطين. وكان عددهم في الشتات والمخيمات في عام 1948 لا يتجاوز 250 ألف لاجيء. وهؤلاء الآن ماتوا في المخيمات الحقيرة وفي الشتات الموجع، ولم يبق منهم ndash; ربما - غير عدد قليل ممن هاجر عام 1948 وهو طفل صغير. وإسرائيل تنتظر أن يموت هؤلاء كذلك. ولو قبل العرب والفلسطينيون اقتراح بن غوريون عام 1949 لكان عدد الفلسطينيين الآن أكبر من عدد اليهود داخل فلسطين 1948، نتيجة لامتلاك الفلسطينيين قنبلة الانفجار السكاني، ولأسباب اجتماعية ودينية، تسمح للفلسطيني المسلم بالزواج بأربعة نساء وبالإكثار في النسل ndash; كما يفعل الآن عرب بئر السبع للحصول على المساعدات الاجتماعية الإسرائيلية - لكي يباهي النبي عليه السلام الأمم الأخرى بكثرة المسلمين. ولنا من سكان قطاع غزة المثال الواضح، حيث بلغ متوسط مواليد المرأة الفلسطينية ثمانية أطفال.

-2-
لا شك بأن quot;حق العودةquot; عائق أساسي لإحلال السلام العربي- الإسرائيلي. ولكن حق العودة يجب أن يتقرر في ضوء ما هو على الأرض الآن، وليس على ضوء ما كان، وما هو في الخيال، وما هو في الخطابات الحماسية التي تدغدغ المشاعر والعواطف، أكثر مما تخاطب العقول. ولا شك بأن المرونة في هذا الشأن والحصافة السياسية العربية ndash; إن وجدت ndash; يمكن أن تلقى حلاً لهذه المشكلة المعقدة والعويصة. والحل الواقعي يتمثل بعودة معقولة إلى إسرائيل، وأخرى حاشدة إلى الدولة الفلسطينية ndash; فيما لو قامت - وتوطين الباقي في العالم العربي، مع التعويض الذي قد يصل إلى خمسين مليار دولار، في تقدير بعض الخبراء.

-3-
منذ أكثر من ستين عاماً، والدول العربية ومعها الزعماء الفلسطينيون يعلنون رفضهم التام لتوطين الفلسطينيين الذين هاجروا من بيوتهم عام 1947-1948، ويعلنون بالصوت العالي، بضرورة عودة هؤلاء إلى منازلهم التي هجروها. وكان آخر هذه المؤتمرات والنداءات في دمشق بالأمس، فيما أطلقت عليه دمشق quot;الملتقى العربي الدولي لحق العودةquot;. وهذا المؤتمر هو المؤتمر الخمسون أو الستون الذي تعقده الأنظمة العربية، كلما احتاجت إلى منديل القضية الفلسطينية، لكي تستر به عورة من عوراتها السياسية. وهذا ما فعلته دمشق بالأمس من ضمن الخطوات السياسية الذكية، التي تتخذها للخروج من عزلتها الإقليمية والدولية. فدمشق محشورة الآن في زاوية ضيقة جداً لعدة أسباب. ولا شك أن حضور 4500 شخصية عربية سياسية، وحزبية، ونقابية، ونضالية، وثورية، وحربجية، وقومجية، وراقصين و(دبّيكه) والإشادة والتصفيق لسوريا الأسد، وسوريا الثورة، وسوريا النضال، وسوريا العروبة، وسوريا المقاومة، وسوريا الممانعة، سوف يدغدغ مشاعر القيادة السورية، ويشعرها ndash; ولو كذباً ndash; بالاطمئنان على غدها ومستقبلها القريب، بعد أن عصفت بها العواصف، واشتدت، وكادت أن تقتلع العراجين القديمة. وهكذا تعيش الديكتاتوريات العربية في العالم العربي على مثل هذه المهرجانات الشعبوية.

-4-
لم نسمع سؤالاً عقلانياً وواقعياً واحداً من هؤلاء الـ 4500 شخصية، كيف يمكن العودة لستة ملايين فلسطينيي في الشتات والمخيمات، أن يعودوا إلى فلسطين ما قبل 1948؟
ولم نسمع سؤالاً عقلانياً وواقعياً واحداً من هؤلاء عن مصير دولة إسرائيل، في حال عودة هذه الملايين الستة؟
الكل في هذا المهرجان الخطابي، كان ينادي بالعودة.
كيف، ومتى، ولمن، وما هي هذه الآلية؟
فلا أحد سأل، ولا أحد أجاب.
فلا سوريا، ولا العرب، ولا غيرهم، قادر أن يأخذ قراراً، وينفذه بحق العودة.
وكله (طق حكي) وعلك كلام ممل.
وكما استفادت الأنظمة العربية من النكبة الفلسطينية باستعمالها قميص عثمان لستر عوراتها الكثيرة والقبيحة، فقد استفادت سوريا بالأمس كذلك من هذا القميص.
وهكذا نرى، أن العقل السياسي العربي، ما زال هو ذاك العقل المُهاتر. فلم نسمع في quot;مؤتمر حق العودةquot; الدمشقي، من اقترح بضرورة إجراء استفتاء تشرف عليه الأمم المتحدة بين فلسطيني الشتات والمخيمات، للسؤال عمن يريد العودة، وعمن يريد التعويض، وعمن يريد التوطين، وعمن لا يريد هذا ولا ذاك، ويريد البقاء في الطين.
أم أن quot;الممانعينquot; في دمشق أخذوها (جلط ملط)، وقالوا بالعودة لستة ملايين فلسطيني، في الشتات والمخيمات.
وسيبقى هؤلاء في الشتات والمخيمات، بدون عودة، وبدون تعويض، يحلمون، ويعلكون الكلام على المقاهي، ويهشون الذباب.
فلا هم أرضاً قطعوا، ولا ظهراً أبقوا.
السلام عليكم.