-1-
بالأمس، أقر البرلمان الجزائري (المجلس الشعبي الوطني)، بالأغلبية المطلقة انتخاب الرئيس بوتفليقة (1937) مدى الحياة لو شاء هو ذلك، وذلك عندما صادق المجلس على تعديل دستوري، يُلغي تحديد عدد الفترات الرئاسية المتعاقبة، (أي انتخاب رئيس الجمهورية لفترات رئاسية غير محددة)، إلى جانب منح الرئيس سلطات وصلاحيات أوسع، مما يمنحه إياه الدستور الحالي. أي تنصيب بوتفليقة ndash; أو غيره ممن سيأتي بعده - ديكتاتوراً مدى الحياة، كما القذافي، والأسد، وعبد الله صالح، والبشير، وصدام النافق.
-2-
كنا نعتقد، أن جزائر الثورة التي هزمت الاستعمار الفرنسي، بعد مائة وثلاثين عاماً من الاستعمار (1830-1962)، بحيث كانت فرنسا تعتبر الجزائر قطعة من فرنسا.. هذه الجزائر، ستكون أولى الدول العربية الديمقراطية الحرة.
وكنا نعتقد، أن الجزائر التي قدمت على مدار أكثر من مائة وثلاثين سنة، أكثر من مليون شهيد، لن تتخلّى أبداً عن بناء مجتمع جزائري حر وديمقراطي، بعد أن دفعت ثمن هذا غالياً، من الدماء والشهداء.
وكنا نعتقد، بأن الديكتاتورية العربية الحزبية منها، والعسكرية، والقبلية، لو سادت كافة الأقطار العربية، فستبقى الجزائر هي المُستثناة، في المغرب العربي، وفي المشرق العربي.
وكنا نعتقد، بأن الشعب الجزائري وممثليه في quot;المجلس الشعبي الوطنيquot;، هم الذين سيُعلِّمون باقي الشعب العربي، معنى الحرية والديمقراطية، وكيفية ممارستها.
وكنا نعتقد، أن النُظم الملكية والنُظم الجمهورية ndash; الملكية (الجملكية)، التي تسير بنظام التوريث السياسي من الأب إلى الابن، لن تصل إلى الجزائر، وستكون الجزائر مُستثناة من هذه (المسخرة) السياسية العربية، التي تحكُم بعقليات القرون الوسطى، وبالحكم الإلهي المطلق.
وكنا نعتقد، أن الجزائر بشهادة دماء شهدائها البررة، وبروح الثورة التي قادها بن بيلا ورفاقه الأحرار، سوف لن تُقلّد باقي بلاد العربان، في القيام بتعديلات دستورية، من أجل تأبيد الحكم لبوتفليقة، ولمدى الحياة، وبموافقة 500 عضو في البرلمان الجزائري (533 عضواً) ومعارضة 21 عضواً فقط، من الحزب المعارض (حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية).
وكنا نعتقد أخيراً، أن استعمار فرنسا للجزائر طيلة أكثر من 130 سنة، قد علّم الأجيال الجزائرية مباديء الثورة الفرنسية في الحرية والديمقراطية، ولم يُعلِّمهم مباديء الحكم العربي القبلي السيء الذكر في العراق السابق، وفي ليبيا القذافي، وفي سودان البشير، وفي سوريا الأسد، وفي مصر مبارك، وغيرها من البلدان العربية، التي تُحكم بالحكم الإلهي المطلق.
فهل أصبحت الديمقراطية العربية مستعصية، أو هي استعصت على الشعوب والحكام العرب؟
وهل أصبح لدي بني يعرُب مناعة حديدية وحصانة فولاذية، ضد الديمقراطية، نتيجة لتراكمات عصور الديكتاتورية الكلسية، وعهودها السابقة، منذ ظهور معاوية بن أبي سفيان حتى الآن. ولم تنفع مع هذه المناعة الحديدية والحصانة الفولاذية ضد الديمقراطية، قوى جيوش العالم التي حاربت عام 1991، وعام 2003؟
وماذا تريدون أكثر من مائة وثلاثين سنة من الاستعمار، الذي علَّم الحمار، ولكنه لم يُعلّم quot;الأحرارquot; في الجزائر.

-3-
إذن، لا اختلاف الآن بين جزائر الثورة العظيمة، وبين ليبيا القذافي وديكتاتوريته المطلقة. ولا اختلاف بين جزائر المليون ونصف شهيد وبين عراق صدام حسين السابق. ولا اختلاف بين جزائر المقاومة الوطنية وبين سوريا الأسد. ولا اختلاف بين جزائر هزمت الاستعمار وبين يمن عبد الله صالح.. الخ.
وإذن، فمهما فعل الغرب بنا من غزو استعماري، وغزو عسكري، وثقافي، فلن نتعلَّم من كل هذا شيئاً.
فنحن راسبون، وساقطون، منذ زمن، ويبدو إلى الأبد، في مادة الديمقراطية.
ولو عاد أرسطو وأفلاطون وروسو وفولتير وتوم بين، وكل جهابذة الفلسفة السياسية، منذ فجر التاريخ إلى الآن، لكي يُدرِّسوا لنا مادة الديمقراطية، فلن يفلحوا، ولن ينجحوا معنا. فنحن تيوس في هذه المادة، وعقولنا مقفلة بأقفال كبيرة وصدئة، ولا مجال لفتحها إلا بتحطيمها. وكما قال هيجل، فلكي نعرف ما بداخل حبة الجوز فعلينا كسرها. وهذا ما فعلته أمريكا في العراق، ورغم هذا، تغلَّبت النزعات الدينية الطائفية على العلمانية والديمقراطية (الطبع غلب التطبُّع)، وأصبحت المراجع الدينية الشيعية والسُنيّة فقط هي المشير، ومن يرسم الطريق، ويطلق الإشارة، وينطق بالعبارة.
-4-
لقد تخيّل محمد عبد المجيد، الكاتب، والمحلل السياسي، وأحد المعارضين الجزائريين، إقامة محكمة لبوتفليقة، يسأله فيها القاضي:
القاضي: كيف وصلتَ إلى حكم البلاد؟
بوتفليقة: في انتخابات نزيهة جرت في الخامس عشر من ابريل، عام 1999.
القاضي: وهل كان هناك مرشحون غيرك؟
بوتفليقة: نعم، سيدي الرئيس، فقد كان هناك ستة من المرشحين انسحبوا احتجاجاً، فأصبحتُ المرشحَ الوحيدَ ولم أكترث لهم.
القاضي: وطبعا منهم الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، الرجل الذي قاد عمليةَ مراجعة تاريخك الأسود واكتشف عام 1980، اختلاسك مبلغ 43 مليون دولار، وبدلا من وضعك في السجن مع المجرمين، وسارقي أموال الدولة خرجتَ من الجزائر، لتعود بعد ثماني سنوات معتمداً على الذاكرة الضعيفة للشعب، أليس كذلك؟
بوتفليقة: لكنني، سيدي القاضي، قمت بإعادة الأموال التي نهبتها من أفواه شعبنا الجزائري. وفي عام 1994 تم استدعائي لتولي الحكم خليفة للرئيس علي كافي، لكنني اشترطت تعييني من قبل المؤسسة العسكرية التي تعرف أهدافي جيداً.
-5-
إنني أتساءل بحيرة شديدة، وبحزن مرير، ويتساءل معي بعض القراء العقلاء، الذين سمعوا بالفضيحة السياسية الجزائرية:
- ما الذي دفع 500 نائب من مجموع 533، من أعضاء البرلمان الجزائري من أبناء وأحفاد الثوار العظام، ومنهم من درس في فرنسا الثورة والحرية والديمقراطية، وتعلّم فيها، وشرب من ينابيع فكرها التنويري، لكي يصوتوا بتجديد رئاسة بوتفليقة مدى الحياة للجزائر؟
- وهل فكَّر المصوّتون على تعديل المادة الدستورية، التي تمنع المرشح للرئاسة، من أن يترشح لأكثر من دورتين انتخابيتين، فيما لو مات بوتفليقة فجأة (وهذا احتمال وارد، فهو مريض، وبلغ العقد السابع من عمره) وجاء من بعده ديكتاتور تمسك بتلك المادة، وعاث في الجزائر فساداً، وظلماً، وطغياناً؟
- وكيف استطاع بوتفليقة الذي ارتدي أردية القذافي، والأسد، والبشير، وعبد الله صالح الثعالبية الشيطانية، أن يُقنع هؤلاء النواب (ويأكل بعقولهم حلاوة)؟
- هل رشاهم بالمال؟
- هل هددهم بالقتل؟
- هل تعهد بعدم فضِّ مجلس النواب إلى حين انتهاء مدته القانونية؟
- هل تعهد بغضِّ النظر عن فسادهم، وسرقاتهم، وعدم ملاحقتهم؟
- ومن هم هؤلاء الخمسمائة عضو في مجلس النواب، الذين صوتوا على هذا القرار؟
- هل هم على شاكلة النواب العراقيين في عهد صدام، الذين صوّتوا له بنسبة 110% وبدمائهم، وليس بالحبر؟
- هل هم على شاكلة النواب السوريين، الذين عدلوا الدستور السوري بالإجماع، لتنصيب بشار الأسد رئيساً، وهو لم يبلغ السن القانونية بعد؟
-هل وصل ممثلو الشعب الجزائري إلى هذا الدرك الأسفل من الجهل، والعمى، والخوف، والمذلة؟
- أين أولئك الأحرار من جيل الداي حسين، وعميروش، ومحمد العربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، وشاعر الثورة مفدي زكريا، وبن بيلا ورفاقه، الذين صنعوا الاستقلال الجزائري، بعد أن أشعلوا نار الثورة عام 1954، ونالوا الاستقلال عام 1962؟
- وما معنى الاستقلال الجزائري عن فرنسا؟
- وهل الاستقلال أن يحكم الجزائر بوتفليقة حكماً مطلقاً مدى الحياة، بدلاً من الجنرال سلان، آخر الجنرالات الفرنسيين في الجزائر؟
- وهل خلت الجزائر الآن، من زعيم يقود البلاد غير بوتفليقه في العام القادم، فخشي هؤلاء النواب على البلاد أن تضيع وتتيتَّم، إذ لم يحكمها بوتفليقة، حكماً إلهياً مطلقاً؟

-6-
يبدو أن الأمر كذلك في بقية البلدان العربية، فلا زعيم في ليبيا غير القذافي، ولا زعيم في سوريا غير الأسد، ولا زعيم في مصر غير مبارك الإبن، ولا زعيم في اليمن غير عبد الله صالح. ولولا أمريكا، لكان عُدي أو قُصي ndash; بعد صدام حسين ndash; هما الوريثان الشرعيان لأبيهما، ورغم ذلك ظهر لنا في العراق عمّار الحكيم، ومقتدى الصدر، وغيرهما من الورثة.
وتيتي تيتي وكأنك يا أمريكا لا حاربتي ولا فديتي.
وراح عليكِ يا (هبلة) نصف تريليون دولار، وحوالي 4000 جندي قتيل، وآلاف الجرحى والمشوهين، ولن تخرجي من العراق، إلا بسواد الوجه.
وهذا درسٌ قاسٍ لكل من تُسوّل له نفسه، أن يُحيل المزابل إلى جنائن خضراء، والسجون إلى مدارس ومتاحف، والعبيد إلى أحرار.
فإياكم أيها الأمريكيون، أن تتورطوا في مستنقعات العربان، ودعوهم بحالهم إلى يوم يبعثون، فهم راضون بما قُسم لهم.
السلام عليكم.