-1-
كنت صغيراً عندما عرفته وقرأت له بعض مقالاته، التي كان ينشرها في بعض الصحف الكويتية، أثناء عمله في الكويت مدة طويلة. فقد كانت الكويت الحضن الدافيء والآمن، الذي لجأ إليه، بعيداً عن بطش وديكتاتورية عبد الناصر، وتنكيله باليمين واليسار على السواء.

-2-
لم يلقَ كاتب أو مفكر في نفسي هوىً، كما لقيت هذه الأم المرضعة، التي أرضعتنا من ثديها/عقلها حليب الليبرالية والحداثة. كان طه حسين أبانا، وكان هذا المفكر أُمنا، وكنا أبناء هذا الأب، وأبناء هذه الأم. ولم نكن وحدنا أبناء هذين الأبوين البارين. فمفكرو ورواد الحداثة والليبرالية في كافة أنحاء الوطن العربي، هم أبناء هذين الأبوين العظيمين.

-3-
قال لنا طوال عمره (83 سنة): إما سلطة العقل، وإما سلطة الساحر.
فاخترنا سلطة الساحر، المشعوذ، والدجّال.
قال لنا: إما سلطة العقل، وإما الحضيض.
فتخلّينا عن سلطة العقل، وأصبحنا في الحضيض.
قال لنا إما التنوير، وإما الانحطاط.
فاخترنا الانحطاط الذي نحن فيه الآن.
قال لنا: إن الهجوم على العقل البشري واتهامه بالقصور، أصبح سمة من أبرز السمات المميزة للأصولية الدينية.
قال لنا: الحرية خلاصكم.
فاخترنا العبودية، مقتلنا.
قال لنا: أطلقوا حرية الرأي، لكي تصبحوا بشراً.
فقتلنا حرية الرأي، وأصبحنا شراً على البشر.
تلك كانت هي حداثته وليبراليته اللتان رضعنا منهما.

-4-
قال لنا: إن الدعاة الدينيين يكتفون بالإسلام كنصوص، ويغفلون الإسلام كواقع.
قال لنا: إن مهمة الحاكم أصبحت بشرية، وستظل بشرية، حتى ولو كانت الأحكام التي يرجع إليها إلهية.
قال لنا: العقل البسيط يأبي أن يكون هناك، في المجال البشري، ما يصلح لكل زمان ومكان، ما دام الإنسان قد طرأت عليه تغيرات أساسية في الزمان، منذ العصر الحجري حتى عصر الصواريخ.
قال لنا: إن ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي حقاً هو مراجعة قوانينه، بحيث تصبح قادرة على معالجة مشكلات الحاضر.
قال لنا: قليل من الشك يصلح العقل.
تلك كانت هي حداثته وليبراليته اللتان رضعنا منهما.

-5-
إن الوفاء الوحيد لهذا العقل الجميل، هو أن نتابع سيره، وسير طه حسين، وسير كل الحداثيين والليبراليين الذين قضوا، وما زلنا ننتظر.
إن وفاءنا لهذا الفيلسوف، يتمثل في أن نضع أفكاره وآراءه في مكانها اللائق بها دوماً، ونتمثل بها في واقعنا.
رحل عنا بالأمس فؤاد زكريا.
لا لم يرحل عنا فؤاد زكريا.
فالكبار لا يموتون.
السلام عليكم.