التيار الليبرالي والليبراليون في العالم العربي، لا يشعرون هذه الأيام بحجمهم وقوتهم المتعاظمة. والسبب في ذلك يعود إلى تعليقات بعض القراء على مقالات لليبراليين من أن الليبراليين عبارة عن فتافيت من الجُبنة أو من الحلوى المبعثرة على جنبات كعكة المجتمع. وأنهم ليسوا بتيار مؤثر ولا بحركة ناشطة، ولا بمفكرين فاعلين ومؤثرين في المجتمع العربي عامة.

الليبراليون والشعر
ولكن لو تبصرنا بالأمور، ودققنا في تفاصيل نسيج المجتمع العربي وثقافته، لوجدنا أن القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين قد شهدا تقدماً كبيراً للتيار الليبرالي، وخاصة في المجال الثقافي، وهو المجال الأكثر تأثيراً ونشاطاً حضارياً في العالم العربي من أي نشاط آخر.
فنحن - مثلاً - لا نجد شاعراً أصولياً مجيداً ومشهوراً فنياً، إلا إذا كانت هذه الشهرة مبنية على شتائم وسباب وقذف لكل القيم الإنسانية المعاصرة، ومهاجمة المرأة، وحقوقها المشروعة في المساواة، والمواطنة. ورغم هذا، يظل تأثير هذه القصائد محدوداً، نتيجة لرفض الغالبية العظمى ndash; وخاصة الصامتة ndash; لمثل هذا التوجه الأصولي. في حين أن شعراء الحداثة في العالم العربي، وفي الخليج، وفي السعودية على وجه الخصوص - وهم المحسوبون على التيار الليبرالي، لأن أفكارهم متطابقة مع أفكار هذا التيار- لهم حضور، وتأثير كبير، وشهرة لا تنكرها العين، ولا الأذن. وهم أكثر الشعراء توزيعاً وأغزرهم إنتاجاً وأوسعهم انتشاراً.

الليبراليون والرواية
ولو بحثنا في تاريخ الرواية العربية منذ مطلع القرن العشرين إلى يومنا هذا، لوجدنا أن أكثر من 90% من الروائيين العرب هم من الليبراليين، وأنه من النادر جداً أن تجد رواية سلفية أو أصولية، تُبشر أو تنشر أفكار هذين التيارين. واقتصر النشاط الثقافي والفكري لهذين التيارين على ما يقولانه في المساجد من خُطب وأحاديث وندوات وعلى ما يقولانه في أشرطة تسجيل وكتيبات، انتشرت بكثرة إبان حرب الخليج 1991، وعلى إثر معارضتهم لوجود قوات أجنبية في الخليج لتحرير الكويت، والدفاع عن شرق السعودية من عدوان صدام حسين. كذلك يُقتصر النشاط الثقافي للأصولية على ما يبثه أتباعها في الفضائيات، خاصة بعد أن تبنّت أفكارهم أشهر الفضائيات، وأكثرها انتشاراً. كما اقتصر نشاطهم على دفع عدد كبير من المعلمين للعمل في المدراس الحكومية الابتدائية والإعدادية خاصة، لتلقين الجيل الجديد الأفكار الدينية الأصولية، وإقامة المعسكرات الكشفية الصيفية، من أجل هذا الغرض. وهذا بلا شك، سلاح قوي وفتاك، في أيدي الأصولية الدينية تحرص على استخدامه في مختلف أنحاء العالم العربي. أما الأعمال الإبداعية وخاصة في الجنس الروائي فقد ظل الأصوليون بعيدين عنه. معتبرين أن العمل جنس أدبي مستورد من الغرب. وهم ضد كل مستورد. إذن هم بذلك، ضد كل شيء.

المفكرون الليبراليون
وخلافاً لهؤلاء الشعراء والروائيين الليبراليين الذين يتصدرون هذين الفنين، ويفوزون بالجوائز المختلفة كل عام، في مختلف الأقطار العربية، يوجد كم كبير من المفكرين والباحثين في شؤون الفلسفة، والتاريخ، والاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والتربية.. الخ. ومن هنا نرى، أنه باستثناء بعض المعاهد الدينية، وبعض المعاهد العلمية، التي يسيطر عليها الأصوليون، وكذلك نسبة من المدارس في مراحلها الثلاث المختلفة، التي تندسُّ فيها نسبة عالية من المدرسين ndash; خاصة في دول الخليج - ذوي الإيديولوجيا الأصولية، والذين يلقنون الطلبة كراهية الآخر، والتفريق بين الرجل والمرأة وتحريم الاختلاطأنّ كان شكله وحجمه بين الرجال والنساء، سواء في الأفراح أم في الأتراح..الخ. فإن العناصر الليبرالية هي التي تقود الثقافة والتعليم - إلى حد كبير- في العالم العربي.

لماذا لا نشعر بأثر الليبراليين؟
إذن، ما دام الأمر كذلك، فلماذا لا نشعر فعلاً بأثر الليبراليين في العالم العربي، ونرى أن الأصوليين هم المسيطرون على الشارع العربي، والأعلى صوتاً فيه؟
هناك عدة أسباب، منها:
1- أن غالبية العالم العربي تحكمه أنظمة تستمد شرعيتها من الأصولية، سواء كانت هذه الأصولية دينية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم ثقافية. فالأصولية ليست دينية فقط، ولكنها تمتد لتُغطي مجالات أخرى كالسياسة، والاقتصاد، والثقافة..الخ. وهذه الأنظمة بالمقابل ndash; وأعترافاً بجميل الأصولية ndash; تساند وتدعم الخطاب الأصولي في كافة المجالات. ولا تُلاحق الأصوليين إلا من تشعر بأنه خطر على وجودها وسلطتها. كذلك، فإن هذه الأنظمة، عادة ما تغلق غالباً مواقع الليبراليين على الانترنت، وتصادر كتبهم المنشورة خارج بلادها، وتختصر إضافتهم أو تُهملها في مهرجاناتها ومناسباتها الوطنية، وفي وسائل الإعلامية المسموعة والمرئية التابعة لها.
2- لجأت الأصولية إلى تنظيم أحزاب سياسية كـ quot;حركة الإخوان المسلمينquot;، وquot;حزب التحريرquot;، وquot;حزب اللهquot;، وquot;حزب النهضةquot; التونسي، وquot;الائتلاف العراقي الموحدquot; العراقي (ويضم عشرين حزباً دينياً، أكبرهم quot;حزب الدعوة الإسلاميquot; وquot;المجلس الأعلى للثورة الإسلاميةquot;)، وquot;حزب اللهquot; الكويتي وquot;تجمع الوفاق الإسلاميquot; الكويتي، وquot;الحركة السلفيةquot; الكويتية، و quot;الحركة الدستورية الإسلامية (حدس)quot; الكويتية، و quot;جمعية الوفاق الوطني الإسلاميةquot; في البحرين، وquot;حزب العدالة والتنميةquot; المغربي، وquot; حزب العدل والإحسانquot;، وquot;السلفية الجهاديةquot; في المغرب، وغيرها من الأحزاب، التي أصبح لها حضور في الشارع العربي، وممثلون في بعض البرلمانات العربية (مصر، والعراق، والمغرب، والأردن، والكويت، والبحرين، ولبنان، وغيرها)، وأصبحت تشارك في الحكم من حين لآخر. وهذه النشاطات السياسية، ألقت في روع جزء كبير من الشارع العربي ndash; وخاصة في مصر، والأردن، ولبنان، والعراق، والمغرب، والكويت ndash; بأن الأصولية الدينية هي التيار الأعرض، والأقوى، والأقدر على الحكم مستقبلاً.
3- أن الأصولية تقف من الغرب ndash; وخاصة أميركا - موقف العداء والكراهية. وهو ما يرتاح، ويرغب فيه جزء كبير من الشارع العربي، نتيجة لمواقف هؤلاء من الصراع العربي ndash; الإسرائيلي، ونتيجة لموقف بعض السياسيين والمستشرقين الغربيين السلبي من الإسلام. كذلك فإن حرب الخليج 1991، وكارثة 11 سبتمبر 2001، وغزو أفغانستان، وغزو العراق، وأحداث الشيشان، والخلاف بين إيران والغرب.. كل هذه العوامل زادت من كراهية جزء كبير من الشارع العربي والإسلامي للغرب، ولأميركا خاصة. في الوقت الذي اتُهمت فيه الليبرالية العربية والليبراليون العرب، بأنهم عملاء الغرب في الشرق، وبأنهم يسوّقون سياسة الغرب في الشرق، ويشجعون الغرب على العدوان على العرب. وكانت الأصولية تبدو من خلال هذا كله بأنها هي الفئة التي تقف في وجه الغرب، وتصدَّ عدوانه عن الشرق.
4- تتبع الأصولية أساليب لغوية سهلة وميسَّرة ومثيرة للعواطف والغرائز في الخطابة، والكتابة، ومخاطبة الناس. وتوجه خطابها الديني والسياسي للعامة، ولسواد الناس. بينما تأخذ الليبرالية بالأساليب اللغوية ذات المستوى اللغوي والأسلوبي العالي والموجه للخاصة من الناس، عملاً بمقولة الفيلسوف نيتشه من quot;أن العامة لا عقل لهاquot;. ولذا نرى، أن الأصولية تخاطب دائماً عواطف وغرائز المتلقين، بينما يخاطب الليبراليون عقول بعض الناس. ولكن من سوء حظ الليبراليين في هذه المرحلة، أن الشارع العربي لا يستجيب لخطاب العقل والواقعية، بقدر ما يستجيب لخطاب العواطف والغرائز. وقد دَرَجَ الحُكّام، والزعماء السياسيون، وزعماء الأحزاب الدينية الأصولية على مخاطبة عواطف الجماهير، ودغدغة مشاعرهم بمقتطفات من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية التي لا نقاش فيها، ولا رفض لها، وإسقاطها تعسفياً على الواقع الحالي.
السلام عليكم.