السيدة السائدة المسودة أم كلثوم..
(أم الهول)..
فكما quot;أبو الهولquot; في مصر، فكذلك هناك (أم الهول).
فنصفها الأعلى كروان، ونصفها الأسفل إنسان.
فلا سيدة في مصر غيرها من الأحياء والأموات، استطاعت أن تهذِّب أخلاق المصريين والعرب، بفنها الراقي، كما فعلت هذه السيدة العظيمة النادرة في تاريخ الموسيقا والغناء العربيين والإنسانيين.
ست الستات
السيدة أم كلثوم سيدة سيدات مصر والعرب..
وكان على المصريين والعرب تبجيلها في حياتها ومماتها، أكثر مما بجَّلوها في حياتها ومماتها.
وكانت في مماتها أحقّ بالتبجيل من أية سيدة أخرى في مصر من الأحياء والأموات.
وكان على المصريين والعرب أن يزوروا مرقدها الأبدي، بدلاً من الزيارة والتبرّك الأعمى والشعبي الساذج بمراقد نساء، لم يقدمن أي شيء يُذكر للعرب والمسلمين.. غير أنهن ينتسبن إلى البيت.
فما فائدة وأهمية هذا الانتساب؟
فعبد العزى بن عبد المطلب (أبو لهب. ولقَّبه أبوه بهذا اللقب لوسامته، وإشراق وجهه) عم الرسول عليه السلام، كان ينتسب لهذا البيت، ولكنه لم يُكرَّم، ولم يُقدَّس، ولم يُتمسَّح بقبره جهلاً وغباءً، كما فعلنا ونفعل بالآخرين من آل البيت نساءً ورجالاً، لكونهم فقط من آل البيت ودمُهم مِنْ دمِهم. وعاش ومات أبو لهب كافراً، فاجراً، منبوذاً، وملعوناً في الكتاب والتاريخ.
عاشقة أرضية نادرة
لم تكن الست الطاهرة أم كلثوم، مجرد مطربة ومغنية عظيمة.
ولكنها كانت عاشقة عشقاً أرضياً جارفاً وحارقاً.
لقد عاشت واكتوت بالحب، فغنّت به وله، من داخل النار، وهي تحترق.
فكانت جمرة نار ملتهبة تُغنّي، وليست امرأة من صلصال كحال غواني هذا الزمان.
فعظمة فن (أم الهول) نابع من أنَّ معظم من كتب لها أغانيها أحبها، ومعظم من لحَّن لها أحبها، ومعظم من غنَّت لهم أحبتهم.
وهؤلاء أحبوا فيها هذه quot;الكروانيةquot; السحرية. فلم تكن (أم الهول) جميلة، ممشوقة القوام، فاتنة الحُسن، كغواني هذه الأيام.
فلا امرأة غنت للحب، وجعلته طعام وشراب العرب، وليلهم ونهارهم، كما فعلت ست الستات (أم الهول).
هذَّبت أخلاق العرب
كانت أم كلثوم (أم الهول) ذات قوة سحرية تفرضها على مستمعينها، وعلى الرجال خاصة. وكان مصدر هذه القوة السحرية صوتها وخطابها العاطفي الصادق الجليل.
وكان لأم كلثوم الفضل في ضبط أعصاب العربي (الفلتانة) نحو المرأة، والكفِّ عن الاعتداء الجنسي الوحشي عليها، نتيجة الحرمان والخوف منها. فقد هذَّبت أغانيها العلاقة بين العربي والنساء. ولما رحلت عام 1975 وانقطع quot;الوصل الكلثوميquot;، حصلت الرِدة الأخلاقية، وعاد اعتداء العربي الجنسي الوحشي على النساء، واشتد شبق العربي، بحيث ضحى بحياته، وراح ينتحر إرهاباً، ويرحل بعيداً إلى السماء، جرياً وراء مخيال الحور العين.
بشيرة الفن الليبرالي
لم تكن أم كلثوم (أم الهول) مجرد مطربة ومغنية عظيمة، ولكنها كانت كذلك بشيرة ومبشرة من المبشرِين بالليبرالية في مصر والعالم العربي. بل هي من أنجح من دعا إلى الليبرالية الفنية، وحقق لها أهدافاً عظيمة، ما فتئت أن انتكست، وانقلبت على أعقابها إلى ردة دينية متعصبة ومتطرفة، بعد رحيلها عام 1975. ونحن نشاهد اليوم ما يجري في مصر والعالم العربي من ردة دينية سخيفة متمثلة بالحجاب والنقاب وquot;الجلابيّاتquot; و quot;أيرنةquot; وquot;خيمنةquot; المجتمع، بينما تزداد رذيلة الفساد، والكذب، والتحرش الجنسي، وفشل التعليم، والأميّة، والبطالة، والرشوة، والزنا السياسي والثقافي والأخلاقي والمالي.. الخ. إلى حدود غير مسبوقة.
من أم كلثوم إلى الغواني
في زمن أم كلثوم وفي حفلاتها (شاهدوا حفلاتها) لم تكن هناك امرأة محجبة، أو منقَّبة، أو كاشحة، أو كاشفة لصدرها، أو كتفيها، أو نصف عريانة، أو متهتِّكة، كما نشاهد اليوم في حفلات غواني وجاريات هذا العصر. ولم يكن الفحيح الجنسي في حفلاتها الغنائية بارزاً ومسموعاً، كما هو اليوم في حفلات الغواني وجاريات هذا العصر. والفرق بكل بساطة، أن أم كلثوم (أم الهول) كانت تُغنّي للقلوب والعواطف الإنسانية المهذبة والراقية، وجاريات وغواني هذا العصر يغنين لانتصاب القضيب كما انتصاب ثعبان الكوبرا، وتحفيز الوطء. ولا فرق بينهن وبين جواري وحريم العصرين الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني. فمن جديد ظهرت لنا في هذا العصر رباب جارية بشّار بن برد، وعالية جارية أبي نواس، وخالصة جارية الرشيد، وعنان جارية الناطفي، وغيرهن بالآلالف في قصور الخلفاء وبيوت الأثرياء والشعراء، كما هُنَّ اليوم بالعشرات على مسارح المهرجانات والاحتفالات.
نشر ليبرالية الفن الراقي
أوحت (أم الهول) لشعرائها (أحمد شوقي، عمر الخيام، أحمد رامي، بيرم التونسي، إبراهيم ناجي، عبد الله الفيصل، أحمد فتحي، مأمون الشناوي، كامل الشناوي وغيرهم) أن يقولوا في الحب ما لم يقله قيس بن الملوَّح، وقيس بن ذُريح، وجميل بثينة، وكُثيّر عزَّة، وعمر بن أبي ربيعة، والصمة القُشيري، وصدر الدين بن الوكيل، ولسان الدين الخطيب، وابن سناء الملك، وأبو نواس، وبشار بن برد وغيرهم من فطاحل شعراء الغزل.
وكانت أم كلثوم تريد من شعرائها تهذيب الذوق العام، ونشر ليبرالية الفن الراقي.
وكانت تريد من ملحنيها الارتقاء بالموسيقا العربية. وقد نجحت وأفلحت. فتحوَّل زكريا أحمد في مدرستها من موسيقي تافه يُغني ويُلحِّن quot;إرخي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانك تجرحناquot; لمنيرة المهدية إلى ملحن راقٍ يُلحِّن أغاني بيرم التونسي وأحمد رامي، وتصدح أم كلثوم بألحانه الخالدة كأغنية quot;حبيبي يسعد أوقاتهquot;، و quot;الأملquot;، و quot;أنا بانتظاركquot;، وغيرها. وتحوّل محمد القصبجي من موسيقي سوقي يُلحِّن أغانٍ كأغنية quot;بعد العشاquot; إلى مُلحِّن لأغاني أحمد رامي كأغنية quot;ليه تلاوعينيquot;، و quot;رقّ الحبيبquot;، وغيرهما. وتحوّل عبد الوهاب من ملحن مبتذل يُلحِّن أغاني تافهة كأغنية quot;فيك عَشرة كوتشينةquot; و quot;محلاها عيشة الفلاحquot;، إلى ملحن راقٍ يُلحِّن أغانٍ كأغنية quot;ومرت الأيامquot;، و quot;أمل حياتيquot;، وquot;فكرونيquot;، وغيرها.
(ولنا عودة).
السلام عليكم.
التعليقات