كان فولتير العدو الأول للخرافة في عصر التنوير. وقد كرّس جزءاً كبيراً من وقته وكتاباته لتتبع الخرافة ومحاربتها والسخرية منها ونفيها من المسيرة الإنسانية. وخاصة تلك التي ذكرتها الكتب المقدسة واعتبرتها من مصادر التاريخ وعِبَره.
وفولتير يسخر من الخرافات التي يعجُّ بها الإنجيل والتوراة، والتي تتحدث عن عبور اليهود البحر الأحمر ونهر الأردن، دون أن تبتلَّ أقدامهم!
ولم يكسر رأس الخرافة التي تبدو كثعبان ضخم كالكوبرا، غير فأس الليبرالية في عصر الأنوار.

لا معجزات في عصر العقل
يتساءل فولتير:
كيف السبيل إلى الإيمان بالمعجزات التي أسقطت أسوار أريحا عند نفح الصور، وجعلت شمشمون يهزم جيشاً كاملاً بفك حمار، والملائكة يتدخلون هنا وهناك بأعمال خارقة؟!
ويتساءل فولتير عن عقلانية ومعقولية العميان الذين شفتهم كلمة أو إشارة، أو عن إحياء الموتى، والارتفاع إلى السماء. وفي حمل المرأة بلا دنس، وفي بتولة العذراء حتى بعد أن ولدت، في حين أن يسوع كان له أخوة، كما يقول مؤرخ فولتير أندريه كريسون على لسان فولتير، الذي يؤكد أن فولتير كان يعتبر الكتب المقدسة ذات قيمة تبشيرية أخلاقية فقط، وما عدا ذلك فخرافات، وعلى فكرنا أن يتحرر منها.

البلاهة المقدسة
وفولتير يقسو قسوة شديدة على الدين المسيحي، ويقول كما ينقل عنه مؤرخه أندريه كريسون:
quot;لا يمكن الاعتقاد بأساطير المسيحية وعقائدها. فالدين المسيحي نسيج من السخافات والكذب، ولا يمكن أن يدافع عن نفسه إلا أبقي في العالم البلاهة المقدسة.quot; (فولتير: حياته، آثاره، فلسفته، ص52-53).

لا مستقبل لنا مع ثقافة الخرافة
ينفي المفكر السعودي التنويري يوسف أبا الخيل، أن يكون لنا ذلك المستقبل المشرق مع غطسنا في وحل ثقافة الخرافة السائدة حتى اليوم، ومنها ما كان من خرافة ظهور العذراء في سماء إحدى الكنائس القبطية في القاهرة في النصف الأول من ديسمبر 2009، واستنكار الليبراليين الأقباط لهذه الظاهرة التي تكررت. وكانت ظهور الأولى بعد هزيمة 1967 لتخدير الناس بالقول أن العذراء قد ظهرت لكي تحرر سيناء من الصهاينة.. الخ. وقامت الباحثة سلوى الخمّاش مع إبراهيم بدران، برصد هذه الظاهرة الخرافية في كتابيهما (دراسات في العقلية العربية ndash; الخرافة، 1988) كجزء من العقلية العربية المتخلفة والمهزومة.
يقول أبا الخيل:
quot;بالاستقراء، فإن حاضرنا، ما لم تحدث فيه معجزة فكرية نقدية، تخلخل بُنية العقل العربي الإسلامي المعاصر، سيكون خيراً من مستقبلنا الذي سيكون محاطاً بسيطرة الأصوليات المتشددة، وثقافة الخرافة.quot;

الكهنة سبب العداء بين العلم والإيمان
ويؤكد أبا الخيل، أن quot;التنافر والعداء هما اللذان سدَّا علاقة العلم بالإيمان إبان العصور الوسطى. وهو عداءٌ صنعه حراس الكهانة على مختلف مستوياتها، خوفاً من دكِّ حصونهم الكهنوتية، التي لا يستقيم لها وزن إلا بمصاحبة الخرافة والنظرة السحرية للعالم، وهي أول ما يتنافى مع مبادئ العلم.quot; (quot;النفور من العلم عنوان مجتمعات ما قبل الحداثةquot;، جريدة quot;الرياضquot;، 17/10/2009).


كارثة سبتمبر والعقلانية العربية
يقول المفكر التنويري السعودي إبراهيم البليهي: quot;إن أكبر كارثة حلّت بالإسلام والمسلمين هي كارثة حشد الأمة ضد العقل، منذ وقت مبكر من تاريخنا. إن الرفض القاطع للعقلانية، ومحاربة التنوير، على امتداد التاريخ العربي كله، قد أوصد كل الأبواب والمنافذ، أمام محاولات الاستنارة.quot; (البليهي في حوارات الفكر والثقافةquot;، ص 186).
وكان من نتائج كل هذا، كارثة 11 سبتمبر 2001. ولكن هذه الكارثة أيقظتنا من نومنا العميق في العسل الأسود، كما بيّنت في كتابي (ابن لادن والعقل العربي، 2007). وبدأنا من جديد نتحدث عن العقلانية وأهمية العقل في البناء الحضاري العربي، بعد أن كنا قد أحرقنا معظم كتب العقلانية، ودفنا ثقافة العقل، وعلى رأسها ما جاءنا به ابن رشد، وأبو بكر الرازي، وابن سينا، وابن حزم وغيرهم من المفكرين العقلانيين.
بروز مفهوم quot;العقلانيةquot;
فبعد كارثة 11 سبتمبر 2001، أفقنا من النوم في العسل، وظهر لنا أننا أمة الإرهاب، وإن منبع الإرهاب العالمي يخرج من جحورنا وكهوفنا، قبل أن يخرج من كهوف تورا بورا. وإذ نحن فجأة في مواجهة دموية أمام العالم كله.
أصبحنا نحن الضعفاء المتخلفين المتفرقين الفقراء، العالة على الآخرين في صف، والآخرون في صف مقابل.
ويا للمهزلة.
وبدأنا نتحدث حينئذ عن العقلانية وأهمية التفكير العقلي في ثقافتنا، ليس إيماناً بالعقل والعقلانية. فالعرب، كما قال لنا البليهي، يحاربون العقل والعقلانية منذ قرون. ولكن بدأنا نتحدث عن العقل والعقلانية بعد كارثة 11 سبتمبر 2001 كرد فعل للكارثة فقط، وللدفاع عن أنفسنا، ورداً لتهمة الحقيقة بمسؤوليتنا عن كارثة 11 سبتمبر.


بالقلم العريض
وكان يوسف أبا الخيل واعياً لهذه اللحظة التاريخية المهمة، وقال لنا بالقلم العريض:
quot; راجت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، الكثير من المفاهيم التي لم تكن مُعاشة في السياق الثقافي العربي من قبل. من ضمن تلك المفاهيم الجديدة، التي أُدخلت قسراً في سياق رد الفعل الثقافي لتلك الأحداث الجديدة، كان مفهوم العقلانية، الذي أصبح ذائع الصيت، وموضة السياق الثقافي العربي، الذي أعقب تلك الأحداث. فقد تحوّل الخطاب الثقافي- التقدمي منه خاصة- إلى داعٍ لاستصحاب العقلانية في كافة مناحي الحياة العربية والإسلامية.quot;
ولكن لا حياة لمن تنادي!
وأردف أبا الخيل كاتباً:
quot;لقد دعا ذلك الخطاب مستهلكيه إلى تبني العقلانية منهجاً حياتياً، سواء على مستوى السلوك أو على مستوى إنتاج المعرفة، وهو الأهم. لقد دعاهم- مثلا- إلى استخدام العقلانية في تشكيل العلاقة مع الآخر، وإلى استصحابها - أعني العقلانية- في تأويل النصوص الخاصة بالعلاقات الاجتماعية والمعاملات الدنيوية تأويلاً يتناسب وإنتاج عقلانية تتماهى مع متطلبات الواقع بكل أطيافه. لكن لا أحد، ممن استهوتهم الدعوة إلى العقلانية العربية، دعا إلى فحص معنى quot;العقلانيةquot; في النظام الثقافي العربي، من ناحية مضمونها الإبستيمولوجي، وصولاً إلى إنتاج عقلانية، تتوافق مع متطلبات السياق الثقافي الجديد، المراد تدشينه في عمق الاجتماع العربي/ الإسلامي، الذي كان وربما لا يزال، يرزح تحت نير بُنية فكرية، تُنتج الإرهاب، تنظيراً وممارسةً !
فقد سرت في quot;عقلانيتهquot; روح الخرافة، ومقولات السحر، والقدرة الخارقة للعائن على إصابة من يريد بالأمراض الفتاكة، ناهيك عن إحراق بيته وأثاثه! (quot;العقل العربي بين المعيارية والموضوعيةquot;، جريدة quot;الرياضquot;، 30/8/2008).
وما زال ثعبان الخرافة الضخم ضخامة quot;الكوبراquot;، يجول في رؤوسنا في كل مناسبة، ولن يُدفن إلا بفأس عقل الليبرالية.
(وللموضوع صلة).
السلام عليكم.