لفت نظري أثناء قراءتي لجوانب من قصة مجموعة quot;إخوان بريدةquot; السلفية، هذه الصوفية الجميلة التي تمثلت في بعض سلوكياتهم. فقد قرأنا عنهم، أنهم اعتزلوا المجتمع.. اعتزلوا إعلامه، واعتزلوا ثقافته، واعتزلوا تعليمه، وبنوا لهم عالماً خاصاً بهم، ونظاماً تعليمياً خاصاً بهم، وفضاءً لا يقدر على العيش فيه غيرهم في زحمة المجتمع الاستهلاكي المترف. وانتبذوا بأنفسهم مكاناً قصياً. وذلك احتجاجاً واعتراضاً على قائمة كبيرة وطويلة المظاهر التي كانوا يعارضونها في المجتمع كالفساد، والتسيب، والرشوة، والبذخ الاستهلاكي القاتل، والفوارق الاجتماعية، وغير ذلك من مظاهر لا يرضون عنها. وتلك ظاهرة فريدة في العالم العربي، من الاحتجاج السلمي.

إشراقات سلوكية صوفية
وإن كان مثل هذا السلوك
سلوكاً سلبياً، لأنه يُحرم المجتمع من مجموعة من العاملين فيه، إلا أننا نتبين منه خطوط إشراقات صوفية، وهي الصوفية المرفوضة من معظم رجال الدين في السعودية بطرقها، وجماعاتها المختلفة، وفلسفتها، وتأويلاتها، التي أغنت الفلسفة الإسلامية عامة، وفتحت آفاقاً رحبة للإسلام الروحي في الفلسفة الإسلامية، وشدَّت كثيراً من الدارسين الغربيين لدراسة الإسلام والبحث في تاريخه. وقد لاحظنا أن كاتباً وباحثاً نشيطاً كيوسف أبا الخيل لم يجرؤ على ذكر كلمة صوفية واحدة في كتاباته الأسبوعية في جريدة quot; الرياضquot; طيلة ما يزيد على أربع سنوات. وكذلك يفعل باقي الكتَّاب في الصحافة السعودية.

الإسلام يُشجِّع على التصوف
والإسلام بطبيعته كدين، نص بيان منفتح على التأويل ويقبل التعدد مما جعله يحمل في تكوينه البنيوي قابلية للتعدد من داخله، كما يقول محمد بن الطيّب وأن الإسلام ينطوي على ما يُهيىء للتصوف، ويُشجع عليه (quot;إسلام المتصوفةquot;، ص5، 34). وكما قال مؤرخ التصوف المصري أبو العلا عفيفي، فإن التصوف اشتغال بالله وحده ومراعاته، وترك التكسُّب، وعدم الاكتراث لحظوظ النفس، ولمدح الناس، وذمهم. (quot;التصوف: الثورة الروحية في الإسلامquot;، ص 86).

لا سياسة في الصوفية
والصوفية من ضمن الفرق الإسلامية الرئيسية التي تبتعد عن السياسة، وتلك أكبر مميزاتها. وتترك السياسة للسياسيين ورجال الدولة، بعيداً عن المؤسسة الدينية ورجال الدين. ولم نجد في تاريخ الصوفية شيخاً من شيوخها، أو مريداً من مريديها تحدث أو أفتى في السياسة، أو سعى إلى منصب سياسي، كما يتم الآن في الأحزاب الدينية/السياسية في العالم العربي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين الذي نصحهم حسن الهضيبي مرشدهم السابق، وقال لهم:
quot;كونوا هُداة لا قُضاة.quot;
فلم يسمعوا منه.

الإسلام الصوفي طريق العَلْمانية
لذا نرى في quot;الإسلام الصوفيquot; الطريق الصحيح إلى العَلْمانية العربية بالمحافظة على الإسلام بعيداً عن السياسة ونجاستها. ونرى في الإسلام الصوفي الذي يعيش شيوخه ومريدوه حياة الزهد، وحياة النأي، والعزلة، والهجرة الداخلية، خير طريق لعزل رجال الدين عن لعبة الكراسي السياسية.

الصوفية والعَلْمانية التطبيقية
وهذا هو لُبُّ العَلْمانية العربية، وربما بعض العَلْمانيات الغربية، التي هاجمها فقهاء الدين السياسي والسياسة الدينية. ولعل الصوفية ndash; من حيث لا تدري ndash; كانت في جانب من جوانبها هي العَلْمانية التطبيقية، التي تفصل بين رجال الدين، أو المؤسسة الدينية، وبين السياسة والدولة. وتريد من الرجل، إما أن يكون سياسياً، وإما أن يكون رجل دين، ولا يجمع بين الدالين قط: دال الدين ودال الدنيا. وهو ما نحتاجه في العالم العربي حاجة ملحة.

لماذا يقف الفقهاء ضد العَلْمانية؟
ولعل ذلك كان سبباً رئيسياً في تصدي رجال الدين السلفيين للعَلْمانية، وتشويه مفهومها، ورميها بالشرك، والإلحاد، والمروق، وسوء المنقلب. أما الدين، فهو باقٍ في المجتمع، وفي صدور الناس، بقاء استمرار الحياة. وقد رأينا ونرى الآن، أن أكثر الشعوب والدول تعلقاً بالعَلْمانية، وربما العَلْمانية المتطرفة في فرنسا يحتفلون بالطقوس والمناسبات الدينية. وما زالت الكنائس والمساجد والمعابد اليهودية مفتوحة لممارسة المؤمنين طقوسهم ووجباتهم الدينية بحرية تامة.

فقهاء أقلية
غالبية العالم الإسلامي بما فيه مصر وتونس، وشيوخ الجامع الأزهر، وشيوخ جامع الزيتونة (أزهر المغرب العربي)، يقفون من الصوفية موقف الحاني والمتعاطف، ومنهم من يعتبر الصوفية، الجانب الروحي العميق واللامتناهي للإسلام. وهي التي تحفظ هذا الدين بعيداً عن مزيد من التلوث والامتطاء السياسي. أما الأقلية من الفقهاء والمتفقهين وصغار الفقهاء من طالبي المال والشهرة والمكانة الاجتماعية، وأعداء الحرية والديمقراطية والتعددية، فهي التي تعادي وتحارب الصوفية بطرقها، ومناهجها، وكتبها، وفلسفتها، ومريديها. ولقد كان سبب منع كتابي (ثورة التراث: دراسة في فكر خالد محمد خالد، 1991) من بعض الأسواق الخليجية، أن فيه فصلاً عن المرحلة الصوفية في حياة المصلح الديني والاجتماعي والسياسي المصري خالد محمد خالد. ولكن فقهاء الأقلية هؤلاء، الذين يحاربون الصوفية، التي تمانع اشتغالهم في السياسة، أقلية. ربما لا تتجاوز نسبتها 1% من فقهاء العالم الإسلامي. ورغم هذا فصوت هؤلاء عالٍ، ورنين فتياهم مرتفع، ونجوميتهم ساطعة.

لا عَلْمانية دون ديمقراطية
فالعَلْمانية تعني الحرية وتعني الديمقراطية؛ أي حرية الاختيار، وإتاحة الفرصة أمام الجميع دون استثناء لفعل ما يريد، وسلوك ما يرغب، شرط عدم إيذاء الآخر، أو مخالفة القانون الذي اتفقت عليه الأغلبية. والسلفيون ضد الديمقراطية. بل منهم من يعتبر الديمقراطية افتئات على الإسلام، وفرض قيم سياسية غربية وغريبة مستوردة عليه.

العَلْمانية ليست إلحاداً
إن أسرع سلاح، وأشده فتكاً، وأكثره مضاءً، وأقله ثمناً، في أيدي فقهاء الأقلية ضد العَلْمانية، هو رميها بالإلحاد والشرك لتنفير الناس منها، وإبعادهم عنها. وهو ما فعلته الكنيسة ورجالها في أوروبا في القرن السابع والثامن عشر، واتهمت به الكنيسة إمبراطور بروسيا (ألمانيا الحالية) العظيم فريدريك الأكبر (المأمون البروسي) (1712-1786) والذي استضاف فولتير في قصره عدة سنوات.
فالعَلْمانية متصالحة مع الأديان، ومتخاصمة مع رجال هذه الأديان.

العَلْمانية: استقلالية السياسة والقيم الإنسانية
والعَلْمانية كما يقول نضال الصالح quot;قيمة أساسية إنسانية أُسيء فهمها. وهي نظرة شاملة إلى العالم. وهي علاقة حياد إيجابي بين جميع الأديان والأيديولوجيات. ولا تعني على الإطلاق شكاً، ولا نفوراً من الأديان. والعَلْمانية تعني استقلالية القيم الإنسانية كالعدالة والمساواة والديمقراطية والحرية الدينية والفكرية.quot; (quot;المأزق في الفكر الديني بين النص والواقعquot;، ص209). وهذه كلها ليست دعوة لإقصاء الدين عن الحياة والمجتمع، وإنما دعوة لصيانة الدين وحفظ قداسته، بعيداً عن أوزار السياسة ونجاساتها.