شاهدنا أمثلة كثيرة على انتقال السلفيين السعوديين من السلفية إلى الليبرالية بخصائص سعودية، ولكننا لم نشاهد ليبراليين سعوديين ينتقلون من الليبرالية إلى السلفية. وهذا - في رأيي - مرده إلى أن الليبراليين السعوديين استطاعوا أن يثبتوا لذواتهم بأنهم أبناء المستقبل. وأن طريق المستقبل لهم ولابنائهم وأحفادهم من بعدهم هو الطريق الليبرالي بخصائص سعودية. وأن التحجُّر والثبات الأبدي في السلفية، يقود إلى الاندثار، والفناء في النهاية.
أسباب نشوء التيار الليبرالي
نشأ في العام 1998 الاتجاه الليبرالي الجديد، أو التيار الليبرو ndash; إسلامي، كما يدعوه المستشرق الفرنسي ستيفان لاكروا الأستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس، ومؤلف كتاب quot;النُخب الثقافية في السعوديةquot;. وينتمي منصور النقيدان وكوكبة أخرى معه لهذا الاتجاه، بعد أن كانوا من الشبان السلفيين السابقين. وقد ساعد على نشؤ هذا التيار، بقاء قيادات السلفية الدينية/السياسية التقليدية كسلمان العودة، وسفر الحوالي، وناصر العمر في السجون. ويقول ستيفن لاكروا: quot;إن غياب هؤلاء الثلاثة عن الساحة السياسية، فتح الباب لظهور أفكار جديدة. وبالفعل أصبح عدد من أنصار الصحوة الإسلامية والذين أطلقت السلطات سراحهم ، أصحاب خطاب ثقافي ـ ديني- سياسي جديد. وبمرور الوقت، زاد عدد المتعاطفين معهم.quot; وقد كان للانفتاح الإعلامي، وتكبير هامش حرية الرأي في الصحافة السعودية، منذ العام 1999 ، أثره الايجابي على تطور الفكر الليبرالي الجديد بخصائص سعودية، بحيث أصبح التواصل بين أفراد هذا التيار سهلاً وميسوراً.
قوة التحجُّر السلفي
إن الضجة الكبيرة التي قامت بعد إعلان منصور النقيدان، انتقاله من السلفية إلى الليبرالية بخصائص سعودية، كان مردها إلى قوة التحجُّر التي فرضتها السلفية على النقيدان، مُمثلةً بالتنظيم الصغير quot;إخوان بريدةquot;، بحيث دفعته إلى النزول إلى الشارع، وتحطيم وإزالة كل ما لا يتفق مع أيديولوجيته السلفية، وإشعال النار في متجر للفيديو.
ابن حنبل وابن داوود
في 1997 تم إطلاق سراح النقيدان. فخرج وهو يحمل في داخله رؤيا جديدة للعالم. رؤيا أشبه بالثورة على النفس، وراح يقرأ الإسلام من جديد، ليس من خلال المنظار السلفي المتعصب والمتطرف، ولكن من خلال مفكرين إسلاميين مجددين، نجَّدوا الإسلام تنجيداً جديداً، لكي لا يفوته قطار العصر، ويصبح أثراً بعد عين. وكانت حصيلة قراءات النقيدان خلال العامين (1997-1999) مقاله الأول في جريدة quot;الحياةquot; تحت عنوان: quot;هل كان ابن أبي داوود مظلوماً؟quot; ومن المعروف ndash; تاريخياً ndash; أن قاضي القضاة أحمد بن أبي داوود، كان من شيوخ المعتزلة، الذين نجحوا في إقناع الخليفة المأمون (813-833م) بفكرة quot;خلق القرآنquot;، وكذلك إقناع الخليفة المعتصم (833-842م)، الذي عذَّب الإمام ابن حنبل (780-855م) أقسى العذاب، فيما عُرف بـ quot;محنة ابن حنبلquot;، حيث برز دور ابن أبي داوود في مسألة quot;خلق القرآنquot; واضحاً، وامتد هذا الدور في عهد الخليفة الواثق ( 842-847م). وعندما تولى الخليفة المتوكل (847-861) الحكم، أطلق الإمام أحمد بن حنبل من سجنه، وقضى على المعتزلة، وتمَّت بالمقابل نكبة أحمد ابن أبي داوود. وكان أحمد بن حنبل، قد كفَّر القاضي المعتزلي أحمد بن أبي داوود، بينما لم يجرؤ ابن حنبل تكفير quot;خلفاء المعتزلةquot; (المأمون، والمعتصم، والواثق) في القرن التاسع الميلادي.
تمجيد ابن حنبل لأسباب سياسية
وقال النقيدان في هذه المسألة، أن منزلة ابن حنبل - باعتباره إماماً عظيماً يُمجِّده الوهابيون- أتت بالدرجة الأولى نتيجة لحسابات سياسية لدى الخليفة المتوكل الذي أطلق سراح ابن حنبل. ويقال أن الخليفة المتوكل اعتذر لابن حنبل عما لحقه من الخلفاء السابقين، وأكرمه. ويقول النقيدان، إن تمجيد ابن حنبل كان بسبب حسابات سياسية أكثر من كونها نتيجة طبيعية لصفاته الشخصية. حيث نشهد من خلال المناظرات الدينية التي تمَّت أمام الخلفاء السابقين، خنوع وخوف ابن حنبل من السلطة السياسية. ولذا، لم يجرؤ ابن حنبل على تكفير الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق المعتزلين. بينما لم يتردد في تكفير قاضي القضاة المعتزلي أحمد بن أبي داوود.
وقد بالغ الحنابلة بعد ذلك في الثناء على الخليفة المتوكل، حتى جعلوه في منزلة quot;أبي بكر الصديقquot; وquot;عمر بن عبد العزيزquot; فقالوا: quot;الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في ردة المظالم، والمتوكل في إحياء السُنَّة.quot; أما الأسباب السياسية التي دفعت المتوكل لإطلاق سراح ابن حنبل، وتقريب شيوخ السُنَّة منه، ومعاداته للمعتزلة، فتعود إلى:
1- كره المتوكل للعلويين، ومناصبتهم العداء، وتعقُّب أئمتهم والإساءة لهم. فقام المتوكل بهدم قبر quot;الحسين بن عليquot; في كربلاء، وهدم ما حوله من الدور والمنازل، وحوَّل مكانه إلى حديقة كبيرة، ومنع الناس من زيارته.
2- الانتقام من الوزير والأديب محمد بن عبد الملك الزيات الذي كان من أصوات المعتزلة في عهد الخلفاء الثلاثة السابقين: المأمون، والمعتصم، والواثق. وكان الوزير الزيات قد أساء معاملة المتوكل إساءات كثيرة، في عهد الخليفة الواثق، وقبل أن يتولى المتوكل الخلافة.
3- كانت كراهية المتوكل للزيات، نابعة أيضاً من أن الزيات هو الذي رشَّح الواثق للخلافة بدلاً من المتوكل عند والده المعتصم، وأبعد المتوكل عنها. لذا، فقد قام المتوكل بتعذيب الزيات حين تولّى الخلافة، وداسه بنعاله حتى فارق الحياة. وهذه الأسباب كلها كانت إلى جانب، ومن صالح أحمد بن حنبل وجماعة السُنَّة. ولكن ما لم أكن أفهمه، هو تكليف المتوكل للقاضي أحمد بن أبي داوود عدو ابن حنبل اللدود، وخصم الزيات كذلك، بالوزارة، بدلاً من الزيات المقتول! مما يدل على أن موقف الخليفة المتوكل السلبي من المعتزلة، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وموقفه الايجابي من الإمام ابن حنبل وقاضي القضاة أحمد بن أبي داوود (وهما الخصمان اللدودان) لم يكن موقفاً دينياً أو عقائدياً، ولكنه كان موقفاً سياسياً في الدرجة الأولى. فالمتوكل كان يجمع بين تحريره للإمام ابن حنبل الرافض لمقولة quot;خلق القرآنquot; ولمذهب المعتزلة منتصراً للسُنَّة، وبين تعيينه للقاضي المعتزلي أحمد بن أبي داوود وزيراً له، ثم نفيه بعد مدة للقاضي ابن أبي داوود. فأين المذهبية هنا؟ فلا مذهبية هنا، ولكنها المصالح السياسية فقط.
محنة الإمام النقيدان
كان لمقالة النقيدان (هل كان ابن أبي داوود مظلوماً؟) وقع القنبلة في الأوساط الدينية المحافظة، حيث نشر الشيخ السلفي المتعصب والشديد النفوذ حمود الشعيبي، تصريحاً أدان فيه آراء النقيدان. وقيل أنه أتمَّ تأليف كتاب خاص لتفنيد آرائه. ويقول ستيفان لاكروا المستشرق الفرنسي المعاصر، أن الضغط الذي مارسه حمود الشعيبي كان كبيراً، لدرجة أن النقيدان، فقد وظيفته كإمام مسجد صغير في الرياض. وعلى خلفية هذه الأحداث، بدأت مهنته كصحافي، حيث بدأ ينشر مقالات جديدة، وتم تعيينه في عام 2000 محرراً للقسم الديني بصحيفة quot;الوطنquot; السعودية. ولكن تمَّت إقالته بعد عامين.
محنة الإمام الطبري
وهذا الموقف من السلفيين الحنابلة تجاه النقيدان، يماثله موقف السلفيين الحنابلة من الإمام محمد بن جرير الطبري (893-923م) المؤرخ وكاتب السيرة النبوية المعروف مع الإمام ابن حنبل، فيما يُعرف بـ quot;محنة الطبريquot; مع الحنابلة. فقد كان الحنابلة هم الكثرة الغالبة على بغداد، أيام أن استقر فيها الإمام الطبري. ومن هنا، كان لزاماً على إمام مجتهد مثله، أن يصطدم بهؤلاء القوم، الذين أعماهم التعصب.
ويقول هاني الرضا، أن السببين المسببين للمأساة المبكية المضحكة التي وقعت للإمام الطبري مع الحنابلة هما:
1- عدم ذكر الطبري للإمام ابن حنبل في كتاب الطبري (اختلاف الفقهاء). فلما سأل الحنابلة الطبري عن سبب ذلك، قال:
( لم يكن ابن حنبل فقيهاً ، وإنما كان محدثاً).
فطاش عقلهم، وجُنّ جنونهم، ونقموا على الإمام الطبري بسبب ذلك، ووصل بهم الطيش، إلى أن حاصروه في بيته، ومنعوه من الخروج، وسدّوا باب بيته بالحجارة، ولم يُخلِّصه من ذلك الحصار غير صاحب الشرطة، ومئات من أعوانه.
ويضيف الرضا: حقاً إن للإمام الطبري نظرة في الأمر لها اعتبارها ووزنها. فالإمام ابن حنبل لم يُصنَّف في الفقه البتة، ولم يُقْعِد لمذهبه قواعد، وإنما غاية همِّه كان مُنصبَّاً على الحديث فقط.
2- السبب الثاني، كان العداوة الشخصية التي نشأت بينه وبين أبي بكر ابن أبي داوود (817-888م) صاحب السُنن، وسبب تلك العداوة كما يحدثنا التاريخ، هو أن أبا بكر هذا كان ناصبياً مُبغضاً لعلي بن أبي طالب، وآل بيت رسول الله عليه السلام. وحمله نصبه هذا على تأليف كتاب يقدح فيه حديث quot;غدير خمquot; ( quot;غدير خمquot; موضع بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، على مقربة من الجحفة، التي هي من المواقيت التي يُحرِمُ منها الحجاج للحج أو العمرة.) وكان ذلك في اجتماع حاشد. وبعد رجوع النبي عليه السلام، من أداء مناسك حجة الوداع. وكان أن رفع النبي عليه السلام، يد علي بن أبي طالب، وقال:
quot;من كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه.quot;
فألَّف الإمام الطبري مؤلفاً أورد فيه الكثير من الأسانيد والحجج التي تسند هذا الحديث. فما كان من أبي بكر بن أبي داوود - وقد غلبته حجة الإمام الطبري وأفحمه بيانه - إلا أن لجأ إلى إثارة عامة الحنابلة عليه. وكان هو في مقدمتهم في بغداد، كنوع من الإرهاب الفكري. ورمى الإمام الطبري، بالتشيّع، والرفض، بل والإلحاد. واستمرت العداوة بين الطبري وابن أبي داوود إلى حين وفاة الطبري. حيث لم يتمكن أحد من الصلاة عليه. أو إخراجه من بيته وتشييعه. فما كان من أصحابه - على قلَّتهم - إلا أن صلّوا عليه، ودفنوه في داره ليلاً، خوفاً من عوام الحنابلة.
وتكالب الدهماء من حنابلة القرن التاسع الميلادي على الإمام الطبري، وتعصبوا ضده، كما تكالب وتعصَّب حنابلة الأمس على منصور النقيدان، ومشاري الذايدي، وعبد الله بن بجاد العتيبي، ويوسف أبا الخيل وغيرهم من الشباب، الذين خرجوا من نفق quot;إخوان بريدةquot;، ليستقبلوا نور الشمس، ويلبوا نداء العصر، والحقيقة.
السلام عليكم.
التعليقات