-1-
سررت جداً لخبر نيل المفكر المصري المتميز سيّد القمني جائزة الدولة التقديرية، في العلوم الاجتماعية، بالمشاركة مع آخرين، مع أنني كنت أتمنى لو نال المفكر القمني الجائزة وحده، فهو أكبر من يقتسم الجائزة مع آخرين، كما أنه أكبر من الجائزة نفسها.
وحزنت جداً من تصرف بعضهم في مصر المحروسة، ومنهم بعض العمائم الكاذبة، التي تلاحق المفكرين والشعراء والكتاب في كل شارع، وفي كل زقاق، وتجرجرهم إلى المحاكم، وتفرض عليهم غرامات مادية كبيرة. فقد نادى بعض المتخلفين من المصريين الصحافيين ورجال الدين المشعوذين بسحب جائزة القمني منه، ومحاكمة وزير الثقافة المصري، الذي وافق على منح القمني الجائزة.

-2-
ورغم اختلافي الفكري مع القمني، قبل أن يرضخ لتهديدات المنظمات الإرهابية لقطع لسانه ورمية للكلاب، وقبل أن أكتب ذلك المقال الشهير quot;سيد القمني: بئس المفكر الجبان أنتquot; هنا في إيلاف، في 14/7/2005. وللمقارنة والمقاربة السريعة لذلك، أرى أن القمني لا يرقى للقامة العلمية في الإسلاميات لمحمد أركون، أو عبد المجيد الشرفي، أو عزيز العظمة، أو نصر حامد أبو زيد، رغم أنه باحث دءوب وجاد ومجتهد من خلال كتبه التي أصدرها حتى الآن ككتاب quot;رب هذا الزمانquot;، وquot;الأسطورة والتراثquot;، وquot;حروب دولة الرسولquot;، وquot;موسى وآخر أيام تل العمارنةquot;، وquot;النبي إبراهيم والتاريخ المجهولquot;، وquot;الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلاميةquot;.

-3-
المطالبة الآن من قبل بعض الصحافيين المصريين، ورجال الدين، لسحب الجائزة من القمني، هو عار على مصر، وعلى الثقافة المصرية، في هذا الزمن المالح.
فكُتب القمني وآراؤه مثال حي ونابض للاجتهاد، وعلى أن في مصر ما زال هناك مفكرون ليبراليون، وما زالت هناك حرية فكر، ومساحة لرأي آخر.
كان الواجب على من ينادون بسحب جائزة القمني، أن يقوموا بالرد على أقواله في كتبه، رداً علمياً أكاديمياً، بدلاً من هذه البوليسية الحمقاء المتخلفة، التي لا تليق بمصر، ولا بالثقافة المصرية، ولا بتاريخ مصر الثقافي المجيد.
ولكن هذا حال مصر مع علي عبد الرازق، وطه حسين، وعبد العزيز فهمي، وأمين الخولي، وخالد محمد خالد، وخليل عبد الكريم، وغيرهم.

-4-
يعيش العرب، وتعيش مصر معهم الآن في القرن الثامن عشر، الذي عاشته أوروبا، ولكن بوجهه القبيح المظلم، وليس بوجهه الجميل المنير المشرق. فهذا القرن الذي كان عصر التنوير الأوروبي، لم يكُ طريقاً ثقافياً مفروشاً بالحرير والزهور، بل كان طريقاً شاقاً دفع فيه فلاسفته ومفكروه حياتهم ثمناً غالياً. ولا بُدَّ أن نعلم أن عدم استمرارية عصر السحرة والمشعوذين والدراويش وتكاياهم وزواياهم في أوروبا في القرن الثامن عشر - وهو العصر العربي الآن، حيث يصرف العرب مليارات الدولارات سنوياً على السحر والشعوذة - وسيادة عصر العلم والعقل، جاء نتيجة للتضحية الكبرى والمقاومة العنيفة التي أبداها رجال الفكر والعقل في عصر النهضة. فلم تكن أنوار عصر النهضة كلها أنواراً بهية مُرحباً بها. ولم تكن طرقات ومعارج هذه النهضة مفروشة بالحرير وفرو السمّور، الذي كان يتدثر به شيوخ الإسلام في العهد العثماني، بل تخلل عصر النهضة هذا، دماء أُريقت، ومجازر نُصبت، وأبرياء قُتلت، وفرسان فكر سُحقت، وكل هؤلاء كانوا فداءً لعصر العقل المنير.

-5-
صحيح أن الكنيسة في القرن الثامن عشر، كفّت يدها عن حرق المفكرين وشوائهم على السفود (السيخ) كما فعلت في الماضي مع جاليلو وسافونارلاو، إلا أنها لم تكُ متهاونة مع المفكرين والفلاسفة. فظلت تلاحقهم من حين لآخر (كما يفعل الأزهر الآن) وتقوم بحرق كتبهم ومصادرتها ومنع تداولها. فكانت كتب فولتير وروسو وديدرو وهلفتيوس ودولباخ وغيرهم، من أحرار الفكر في قائمة الكتب المحرمة التي لا يُسمح بقراءتها إلا بإذن من البابا نفسه. ولم يقتصر الاعتداء على حرية الفكر من قبل الكنيسة والدولة، ولكن تعداه إلى المجتمع نفسه الذي كانت بعض فئاته تناصب حرية الفكر والمفكرين الأحرار العداء. ففي انجلترا اشتد الهجوم على العالم بريستلي (1733-1804) لتأييده الثورة الفرنسية. فأحرق الرعاع الانجليز بيته في برمنجهام وكسّروا مختبره، وظلوا يجوبون الشوارع ثلاثة أيام، وهم يقسمون أنهم سيقتلونه، ويقتلوا كافة الفلاسفة. إلى درجة أن أهالي برمنجهام علقوا على أبواب بيوتهم خوفاً ورعباً من الإرهابيين لافتة تقول: quot;لا يوجد لدينا فلاسفةquot;.
وكان ذلك في عهود الظلام التاريخية التي نستيعدها الآن ونعيش فيها.

-6-
لقد منحت لجنة تصويت هذه جائزة الدولة المصرية التقديرية (48عضواً)، أغلبية الأصوات (37 صوتاً) لصالح القمني، ومنحته تلك الجائزة. وكان من بين من صوّتوا لصالح القمني من يعارضوه، ولا يتفق معه في كثير من طروحاته الدينية والفكرية. ولكن الخلاف لا يفسد للود قضية. وأنا أختلف معك كليةً، ولكني أدافع عن حقك في الرأي المخالف. تلك هي الليبرالية وتلك هي ديمقراطية الرأي. والقمني رغم بعض آرائه المتطرفة ndash; في رأي البعض ndash; إلا أنه يبقى المفكر الذي اجتهد وربما أخطأ، ولكن له أجر عند الخاصة، وأجره هو التعظيم والتكريم. ولو أصاب لكان له أجران أجر العامة وأجر الخاصة.

-7-
وأخيراً، لقد كشفت حادثة المطالبة بسحب جائزة الدولة التقديرية من المفكر القمني عن الوجه الحقيقي لحركة الإخوان المسلمين المصرية، التي تصدت للقمني، وقامت بقيادة الحملة ضده، وضد منحه هذه الجائزة. وأثبتت هذه الحركة أنه عند جدِّ الجد، وتحديد المواقف بدقة، لا احترام للرأي والرأي الآخر. وأن الديمقراطية والحرية والتعددية في السياسة والفكر والثقافية وغيرها من الشعارات الثعلبية التي يطلقها زعماء حركة الإخوان المسلمين بين حين وآخر، ما هي إلا نوع من إذلال النفس والكذب عليها، الذي تمارسه هذه الحركة، لكي تتمكن من كرسي السلطة. وساعتها سترون جحيم الأرض وبؤس الدنيا.

السلام عليكم.