فرحنا فرحاً عظيماً نحن أبناء وأحفاد الليبراليين الذين حضروا معركة صدور كتاب علي عبد الرازق quot;الإسلام ونظام الحكمquot; عام 1925، لكي يصدَّ به في الدرجة الأولى، شهوة الملك الحسين بن علي (ملك الحجاز) وشهوة الملك فؤاد العارمة في الخلافة الإسلامية، وإمامة المؤمنين، التي أسقطها كمال أتاتورك 1924. وعندما قال عبد الرازق بفصل الدين عن الدولة، هللنا ورددنا وراءه كالببغاوات، دون أن نفكر بالأمر، ودن أن نسأل أنفسنا:
هل يمكن فصل الدين عن الدولة، وخاصة الدين الإسلامي، وهو دين تشريعي للحياة اليومية في الدرجة الأولى.
الإسلام دولة قبل أن يكون ديناً!
فالدين الإسلامي، قبل أن يكتمل كدين في quot;حجة الوداعquot; المعروفة تاريخياً في السنة العاشرة للهجرة، وقبل خطبة الرسول عليه السلام الشهيرة quot;اليوم أكملتُ لكم ديكنم ورضيتُ لكم الإسلام ديناً.. الخ quot; بعشر سنوات، كان الرسول عليه السلام، قد شكَّل دولته في المدينة المنورة. وهذا ما لم يفعله أي نبي، أو رسول قبله. وسبق أن قلنا في مقالنا (لماذا دولة الرسول والراشدين لا تصلح لنا الآن؟ 4/10/2004)، ونُشر في كتابنا (أسئلة الحمقى في السياسة والإسلام السياسي، ص 97، 2005) أن هذه الدولة كانت أول دولة عَلْمانية، ولادينية، في تاريخ الإسلام. وهي دولة لم يأمر بها القرآن، ولكن الرسول عليه السلام، شكَّلها بدافعه السياسي القوي. فقد اشترك فيه المسلمون المهاجرون والأنصار، وغير المسلمين من الأنصار، وكذلك اليهود، دون أن يُشترط عليهم التحـوّل إلى الإسلام (سمير أمين وبرهان غليون، حوار الدين والدولة، ص99). وكانت هذه الدولة مكتملة الأركان، فيها كل الوزارات والمصالح الحكومية المعروفة لدينا اليوم، كما سبق وكتبنا.
دولة بدستور quot;موضوعquot;
وكان مجتمع quot;دولة النبيquot; متعدد الإثنيات، واللغـات، والديانات. ووضع الرسول لهذه الدولة دستوراً، يشتمل على سبعٍ وأربعين مادة تنظيمية لشؤون الحرب، والسلم، والمال، والحدود الجغرافيـة، والعلاقات الداخلية والخارجية. وهذا دليل على الأخذ بالنظم والقوانين الموضوعة، وما يُعرف اليوم بالدساتير. فكان الرسول عليه السلام أول من أنشأ quot;الدولةquot;، ووضع لهذه الدولة دستوراً مكتوباً، ولم يكتفِ بالقول، بأن القرآن الكريم، هو دستور الأمة، ولا شيء غيره، كما نقول اليوم. وهو ما أطلق عليه مؤرخو الإسلام quot;الصحيفـةquot;، أو quot;الكتابquot; (مونتجومري وات، quot;محمـد في المدينةquot;، ص337). وأُطلق على رعايا هذه الدولة quot;أهل الصحيفةquot;، أو quot;أهل الكتابquot;، ولم يُطلَق عليهم quot;أهل الإسلامquot;. ومن هنا تكوّنت عناصر الدولـة: الزعيم، والقائد، الرعايـا، والدستور الموضوع. وتمَّت إقامة أول دولـة عربية ndash; غير قاصرة على المسلمين ndash; في التاريخ، بزعامة الرسول من اليهود، والعرب، والمسلمين، وغير المسلمين. وكانت أبرز القبائل اليهودية التي انضوت تحت راية هذه الدولة: بنو النجار، وبنو عوف، وبنو الحارث، وغيرهم. و quot;أعلن النبي أن اليهود والعرب، يؤلفون أمة واحدة دون تمييز بينهم في العِرْق، أو الدين، أو الانتماء القبليquot; (جوزيف مغيزل، العروبة والعَلْمانية، ص139).
خبراء أجانب في دولة الرسول
وكان لدولة الرسول جهازها العسكري، والمالي، والإداري، والقضائي. وكان للرسول - كحاكم أعلى وكرئيس دولة ndash; مستشارون، ووزراء، يديرون مصالح ووزارات. فمن المستشارين، كان quot;هيئة العشرةquot; من المهاجرين الأوائل، ومن quot;هيئة الإثني عشرquot; كان نُقباء الأنصار. وهؤلاء كانوا بمثابة مجلس شورى، أو quot;برلمان النبيquot;.
وأما التشكيل الإداري والسياسي لهذه الدولة كاملاً، فقد نُشر في كتابنا المذكور (quot;أسئلة الحمقى في السياسة والإسلام السياسيquot;، ص 97، 2005).
وهذا التنظيم السياسي، والإداري، والعسكري، لم يكن موجوداً كله وبهذا التفصيل عند العرب قبل الإسلام. ولا بُدَّ أن النبي قد استعان بخبراء غير عرب، وغير مسلمين، من البيزنطيين في الشـام، والساسانيين في العراق، والفرس في إيران، وغيرهم، لإقامة هذا الكيان السياسي والإداري في دولته الجديدة.
السياسة والسيرة النبوية
ومن الملاحظ، أن أخبار الرسول في التاريخ الإسلامي، لم تكن أخباراً دينية خالصة فقط، بقدر ما كانت أخباراً سياسية، وعسكرية، وإداريـة أيضاً. بل إن معارك الرسول، وحملاته العسكريـة، وغزواته، وبعثاته السياسية، إلى الدول المجاورة احتلت حيزاً كبيراً من السيرة النبويـة، كما لم تحتلها في أية سيرة نبوية أخرى، من قبـل. كما أن القرآن الكريم، اعتنى عناية فائقة بغزوات وحروب الرسول. وهـو ما يشير إلى أن حياة الرسول، كانت مُكرَّسة في جزء كبير منها، إلى إقامة دولـة ذات تقاليد عسكرية، وإدارية، وسياسيـة كذلك. وهو ما أورثـه الرسول للخلفاء الراشدين من بعده، الذين لم يبدأوا بناء الدولة من الصفر، ولكنهم وجدوا أمامهم أُسساً أكملوا بناءها.
وقائع تاريخية ذات دلالة
وفي ثنايا التاريخ الإسلامي، هناك وقائع لا أثق بها كثيراً، ولكنها تدلُّ في وعي المؤرخين بأن النبي كان أميراً، وحاكماً، وصاحب مُلك، إلى جانب النبوة.
فابن هشام في quot;السيرة النبويةquot; يقول أن صفية ابنة حُيّي بن الأخطب من يهود بني النضير، كانت قد رأت في المنام أن قمراً وقع في حجرها. وحين عرضت رؤياها على زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق لطم وجهها لطمة قوية وهو يقول لها: quot;ما هذا إلا أنك تتمنيّن ملك الحجاز محمداًquot; والمعلوم أن النبي تزوَّج صفية بعد فتح خيبر.
ويقول الباحث الإيراني علي الدشتي، أنه حين أسلم أبو سفيان مُكرهاً قال للعباس بن عبد المطلب:quot;والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغداة عظيماًquot;، فأجابه العباس: quot;إنها النبوة.quot; (quot;23عاماً: دراسة في الممارسة النبوية المحمديةquot;، ص 169).
بداية سياسة quot;التعيينquot; لا الانتخاب
لم تكن صفات النبي علية السلام في التاريخ الإسلامي أنه نبي فقط، ولكن كانت هناك صفات قيادية سياسية له، منها: القائد، سائس الأمة، الأمير، ولي الأمر، الإمام. وكان يتصرف كحاكم سياسي. فهو الذي عيّن باذان بن ساسان، أول الأمراء الحُكَّام من المسلمين في اليمن، وعيّن خالد بن العاص والياً على صنعاء، وعيّن ابن أبي أمية المخزومي والياً على كندة والصدف، وزياد بن أمية الأنصاري والياً على حضرمـوت.. الخ. ولنلاحظ هنا، أن الرسول هو الذي بدأ مبدأ quot;التعيينquot; في التاريخ السياسي الإسلامي للمناصب السياسية والإدارية والقضائية، وباختيار شخصي. ولم يترك الأمر في التعيين منذ البداية للانتخاب من قبل المحكومين. في حين أن مبدأ الانتخاب كان سائداً منذ زمن طويــل، ومن أيام الإغريق كعنصر من عناصر الديمقراطية. فقد تمت الانتخابات في أثينا قبل أكثر من ستة قرون من ظهور الإسلام. وتمَّ انتخاب quot;بيركليسquot; ( 490-429 ق.م)(مؤسس الديمقراطية الأثينية) عدة مرات، أثناء حكمه لأثينا.
فصل رجال الدين وليس الدين
إذن، فلقد كان الإسلام دولةً، قبل أن يكون ديناً.
ولكن، هل تصلح لنا هذه الدولة الآن؟
الجواب نعم، ولكن في بعض أجزائها، وليس في مجملها.
إن من يطالب بفصل الدين - وليس رجال الدين، وهم الأحق بالفصل - عن الدولة لا يدري ماذا يقول. فعلينا أن نتبع السُنَّة النبوية في الحكم، وهي إبعاد رجال الدين كليةً عن الدولة. أما إبعاد الدين عن الدولة. فهذا غير واقعي لا في الدولة الغربية الحالية، ولا في الدولة العربية المستقبلية كذلك.
فالدولة رجال ونصوص. والدين نصوص فقط. ولنتذكر قول علي بن أبي طالب: quot;القرآن نص صامت، والرجال هم من ينطقون به.quot;
أما رجال الدين فهم نصوص ورجال، والدولة كذلك رجال ونصوص. وهنا يجب أن نصرَّ على الفصل التام بينهما. وسيبقى الدين بقيمه الإنسانية العامة في الدولة. فعصر التنوير الأوروبي، لم يفصل بين الدين والدولة، بقدر ما عزل الكنيسة والبابا والقساوسة.. الخ. عن الدولة، وعن السياسة. وظلت الدولة بمواطنيها تذهب كل يوم أحد، وتُصلِّي في الكنيسة. وفي قوانينها وأنظمتها أدخلت القيم الدينية الإنسانية في هذه القوانين والأنظمة، وإن لم تُشر إلى مصدرها الديني بصراحة، خوفاً من عودة رجال الدين والكنيسة إلى التسلط على الدولة. كما لا زالت الدول الغربية تحتفل كل عام دينياً بأعياد ميلاد المسيح وبرأس السنة الميلادية، وعيد الفصح، وأسبوع الآلام، وعيد جميع القديسين (الهلوويين) وعيد الحب (فالنتاين) وغيرها من الأعياد والمناسبات الدينية التقليدية.
والدولة العربية ستظل قريبة من الدين وقيمه الإنسانية أكثر من قرب الدولة الغربية من الدين المسيحي، وذلك لثراء الدين الإسلامي بالتشريع للحياة اليومية، وبالواقعية الإنسانية في كثير من جوانبه.
أبعدوا رجال الدين عن الدولة خوفاً على الدين وحماية له، ولكنكم لن تستطيعوا إبعاد الدين وقيمة الإنسانية عن الدولة، التي يؤدي مواطنوها شعائرهم الدينية في الشرق والغرب كل يوم.
- آخر تحديث :
التعليقات