-1-
كانت الموالاة والمعارضة، ألف باء الديمقراطية في العالم، وعبر التاريخ حتى في أيام يونان أثينا قبل عشرات القرون، الذين أهدونا هذا المصطلح، وهذا التطبيق الدقيق للديمقراطية، إلى درجة أن بيركليس (490-429 ق. م) رئيس الحكومة الأثينية لمدة ثلاثين عاماً، كان يُرشح نفسه كل عام، ويدعو إلى انتخابات سنوية، لكي تتم محاسبته على الوجه الأكمل، كحاكم مسئول.
رحم الله بيركليس، فقد كان أشبه بالأنبياء، أو أكثر، في عدله، ونقائه، وحكمته، وشفافيته، وولائه لوطنه، ومراعاته للقانون.
وفي أثينا بيركليس، كان تطبيق الديمقراطية على أساس أن الحزب الفائز في الانتخابات، هو الذي يحكم والحزب الخاسر هو الذي يعارض، ولا يشترك في الحكم، لأن الحكم للحزب الرابح فقط.
وبقيت القاعدة الديمقراطية الأثينيّة، هي القاعدة التي سادت كل ديمقراطيات العالم، منذ فجر التاريخ حتى اليوم.
فأين نحن من أجدادنا يونان أثينا؟

-2-
في لبنان كل شيء معكوس.
ولبنان الزاهي، الوردي، البنفسجي، المنير، الراقص، المغني، حيث تمدُّ الحرية العربية قدميها طويلاً، وترفع رأسها أكثر مما هي في أي بلد عربي، نرى أن الحياة السياسية مهزلة المهازل، ومسخرة المساخر.
فـ quot;الديمقراطية اللبنانية التوافقيةquot;، ليست ديمقراطية، ولا هي ديكتاتورية، ولا هي جمهورية، ولا هي ملكية، ولا هي quot;جملكيةquot;؛ أي جمهورية ملكية وراثية، ولا هي عشائرية، ولا هي عَلْمانية.
وإنما هي كل هذا، كجاط التبّولة.
إذن، وصف الحالة السياسية اللبنانية بـ quot;الديمقراطية التوافقيةquot;، مهزلة المهازل، فلا اصطلاح كهذا في التاريخ السياسي كله.
والديمقراطية اللبنانية، هي ديمقراطية لبنانية فقط. ولا أي شيء آخر سوى أنها لبنانية خالصة. وحالة سياسية فريدة في التاريخ السياسي الانساني كله. شارك في صياغتها المستعمر الفرنسي، والطوائف الـ 17 في لبنان، وجُرن الكُبّة، وجاط التبّولة.

-3-
من قال أن لبنان quot;دولة عَلْمانيةquot; فقد أخطأ.
لبنان دولة دينية، ولا يغرنَّك بناته الحلوات الفاتنات، والغرام المفتوح، ومرابع الليل، وصحافته المعروضة لمن يشتري.
فالكاردينال صفير، والمفتي العام الشيخ قباني، والشيخ حسن نصر الله، والشيخ نعيم قاسم، وغيرهم من رجال الدين، هم الحكام الفعليين في لبنان، وبقية السياسيين، دمىً سياسية.
فالبيان الذي يُصدره كل شهر quot;مجمع الكرادلةquot; المارونيين، هو أهم بيان سياسي. وكلمة كانت من الكاردينال صفير، قبل الانتخابات النيابية الأخيرة بيوم، قلبت الموازين. وجاء quot;حزب اللهquot; لكي يُكمل الطابق السياسي اللبناني المضحك، ويقيم الجمهورية اللبنانية الإسلامية لولاية الفقيه، حسن نصر الله المرشد الأعلى، ونائبه الشيخ نعيم قاسم رئيس الجمهورية الإسلامية، في الجنوب اللبناني، على غرار نظام الحكم في إيران.

-4-
المعارضة اللبنانية التي خسرت الانتخابات، تريد أن تشارك بالحكم بشروط، أو بغير شروط، تحت مسمى quot;حكومة الوحدة الوطنيةquot;!
يا للعجب!
كيف أكون معارضاً، ومشاركاً في الحكم؟
تلك هي الديمقراطية اللبنانية الفريدة.
وقد سبق للمعارضة في حكومة السنيوره المستقيلة، أن شاركت في الحكم بالثلث المعطّل.
ولا أدري كيف تعارض المعارضة، وهي شريكة في الحكم؟
ومن تعارض المعارضة، وهي في الحكم؟
هل تعارض فقط قرارات وزراء الأكثرية، أما قرارات وزراء المعارضة، فلا اعتراض عليها؟!
تلك هي إحدى صور المهزلة السياسية اللبنانية.

-5-
المهزلة الثانية، هي تقدم نبيه بري رئيس مجلس النواب السابق لترشيح نفسه لرئاسة المجلس من جديد، وهو من المعارضة العريضة المستعرِضة. والمضحك أن الأكثرية (تجمع 14 آذار) استعدت لانتخاب بري، ما عدا حزب الكتائب، والقوات اللبنانية، ونسيت المسرحية النيابية الهزلية، التي قام بها بري، وهي إغلاق مجلس النواب بالضبّة والمفتاح، ووضع المفتاح في جيب بشار الأسد.
وبري كما هو معلوم، في مجلس النواب السابق، حوّل مجلس النواب من مجلس للشعب اللبناني كله، إلى دكان خاصة، يفتحها ويغلقها متى شاءت الشام. إلى درجة أنه كان يمتنع عن تلقي بريد (14آذار) السياسي، وعرائضهم، ويرفض عقد المجلس النيابي.
واليوم زعامة (14آذار) تنسى أو تتناسى كل هذا. وتحاول إقناع الفرقاء في (14 آذار) بانتخاب بري، لكي يضمنوا انتخاب سعد الحريري لرئاسة الوزراء.
إذن، زعيم معارض كبرّي في رئاسة مجلس النواب من جديد.
صفقات سياسية، فيها بيع وشراء على الطريقة اللبنانية.

-6-
ماذا بقي للأكثرية إذن؟
ولماذا صرفت الأكثرية ملايين الدولارات، وبسطت آلاف الولائم، ونظَّمت مئات المهرجانات، وبحّت أصواتها، لكي تفوز بالانتخابات، ما دامت لن تحكم إلا باستحياء شديد، من خلال رئيس وزراء، فوقه رئيس مجلس نواب من المعارضة، ورئيس جمهورية، يأخذ بخاطر الجميع.
إنها إذن quot;جمهورية الخواطرquot;، في لبنان.

السلام عليكم.