-1-
الخطأ القاتل الذي وقعت فيه quot;حماسquot;، هو تحوّلها من جبهة مقاومة، إلى جبهة مقامرة سياسية، واحتفاظها في الوقت نفسه بسلاح المقاومة. وكان خطؤها الاستراتيجي، الذي لا يُغتفر، والذي انتهى بالقضية الفلسطينية إلى هذا الدرك الأسفل الذي ما بعده من أسفل، هو اشتراكها في الانتخابات التشريعية 2006، وبذلها كل ما تستطيع للنجاح فيها، بدافع من شبقها السياسي المحموم. ولم تدرك quot;حماسquot;، (وهي مجموعة دراويش، انفصلوا عن الإخوان المسلمين عام 1987 وكوّنوا quot;حماسquot;)، بأن السياسي لا يقاوم بالسلاح، ولكن بالكلمة والحوار. وأنها لو بقيت جبهة مقاومة مسلحة منضبطة، تتلقى تعليماتها من المحاور الفلسطيني، الممسك بزناد المقاومة، دون أن تلطخ نفسها بأوطار السياسة، وتركت السياسة لـ quot;فتحquot;، لكان ذلك أفضل لها. ولكن حماس كما الإخوان المسلمين، تريد الدالين معاً: دال الدنيا (السياسة)، ودال الدين (الجهاد). فخسرت الآن الاثنين معاً. ولولا الدعم الإيراني والدعم السوري لحزب الله، لكان مصيره مصير quot;حماسquot;، التي لا داعم لها، إلا ما هي فيه الآن. ووقف العالم كله ضد حكومة quot;حماسquot;، لإنكارها اتفاق أوسلو 1993، حيث لم تدرك quot;حماسquot;، أن أي رئيس حكومة فلسطيني يأتي، عليه أن يقبل بهذه الاتفاقية بخيرها وشرها.
-2-
حقائق كثيرة، سوف تكشف عنها محرقة غزة. ولكن قبل أن تنتهي المحرقة من شواء وأكل لحم الفلسطينيين على النحو المأساوي البشع، الذي نشاهده، ظهرت لنا حقائق سريعة، من أجل من لا يطيقون صبراً.
وأول هذه الحقائق الخطاب الناري، الذي (رقعه) حسن نصر الله في اليوم الثاني للمحرقة، وأهم ما فيه تأليب الجيش المصري على قيادته السياسية، وتأليب الشارع المصري على سلطته الشرعية، ووضع الدولة المصرية في الكفة نفسها التي وضع فيها إسرائيل، كمسئولة عن هذه المحرقة، مبرئاً quot;حماسquot; من أية مسؤولية في هذا الشأن. وما يهمنا من هذا التصريح الناري المرتجل والشعبوي، هو صدق تحليلاتنا السابقة التي كانت تقول، بأن هناك حلفاً رباعياً سياسياً (إيران- سوريا- حزب الله ndash; حماس) تشكَّل في المنطقة، يضم السُنَّة، والشيعة، والشافعي، والحنفي، والتفاح، والبلح. وأن هدف هذا الحلف، نشر الفوضى في المنطقة. ليست quot;الفوضى الخلاقةquot;، التي قالت عنها سيدتنا العذراء كوندي رايس، ولكنها الفوضى المدمرة والمُحرِقة للمنطقة، لا بالقول فقط، ولكن بالفعل، وبالفعل الجنوني المهووس. وما تصريحات زعماء quot;حماسquot; في أول يوم للمحرقة، بأننا صامدون، حتى ولو تمَّ تدمير غزة عن بكرة أبيها، كما قال الوالي إسماعيل هنيّة، وبأن الانتفاضة الثالثة، قد انطلقت، كما قال الخليفة الحمساوي خالد مشعل من شيراتون دمشق، إلا عناوين للفوضى المدمرة، التي يريد الحلف الرباعي الجهنمي أن يوقع فيها المنطقة بكاملها.
-3-
فلم يكتفِ حزب الله، وفرعونه الأكبر حسن نصر الله، تدمير لبنان في حرب تموز 2006، وتكبيده خسائر مالية بمقدار 15 مليار دولار، وتهجير آلاف العائلات التي ما زال معظمها بلا مأوى حتى الآن، وتدمير جزءٍ كبير من البنية التحتية للبنان، وإفساد الموسم السياسي لمدة سنتين، واستدعاء القوات الدولية على الحدود اللبنانية ndash; الإسرائيلية، دون احتلال شبر واحد من إسرائيل، مقابل أن يصبح بطلاً في نظر العرب والعجم، تزغرد له نساء مخيمات الشتات، ولو فوق جماجم اللبنانيين، ولوعات أمهات الضحايا.. ولكنه الآن يريد إغراق المنطقة بالدماء، ونشر quot;الفوضى المدمرةquot; بالمنطقة. ففي مخيال حسن نصر الله، أن إسرائيل كلبنان، يستطيع المخربون أن يعبثوا باستقرارها متى وكما يشاءون. وأن محمود عباس كمثل فؤاد السنيورة، يستطيع نصر الله أن يطوّح به كالكرة كما يشاء. وأن غزة هي الجنوب اللبناني، الذي صدرت صك ملكيته لحزب الله وحركة أمل، من المرشد الأعلى علي خامئني. وأن الدولة اللبنانية كما السلطة الفلسطينية (شُرَّابة خُرج) وأن (الخُرج) هو حزب الله و(الشُرَّابة) هي الدولة اللبنانية.
-4-
إسرائيل تقول لنا، منذ 1967، بأن لحمها مرٌ، وبأنها دولةٌ مجرمةٌ مفترسة. لا مزاح، ولا لعب معها بصواريخ القسّام، أو بطراطيع البسّام. وأن كل من يتحرش بها، تعضه عضة ثعبان الكوبرا المميتة. وهي دولة قائمة - بالحق أو بالباطل - استطاعت باللف والدوران، وبالحُسنى والإجبار، وبالكذب والصدق، وبالحب والكراهية، وبالمال والجنس، وبالشياطين الزرق والملائكة البيض، وبالمؤامرات والمؤتمرات، أن تقيم دولتها بالطيب، والبطَّال، وتنتزع اعترافاً لها من العالم. ولو أنها في إقليم آخر غير الشرق العربي الخائب، لما استطاعت أن تبني حجراً واحداً على أرض مغتصبة. ولكنها الخيبة العربية، هي التي أمكنتها مما هي فيه الآن. وهي لا تقوم بفتح جهنم نيرانها على أي طرف، إلا إذا quot;اعتدىquot; عليها الآن، سواء كان هذا الاعتداء حقاً أم باطلاً، مقاومةً أو تلصصاً. وما لنا معها ndash; وهي اللبؤة الشرسة ونحن الحملان الوادعين - غير الحُسنى والحوار، ولو امتد بنا زمن الحُسنى والحوار طويلاً. وهذا هو جزاؤنا، وهذا شوكنا الذي زرعناه بأيدينا.
فقد نمنا ستين عاماً في العسل الأسود، واليوم أفقنا ndash; وليتنا لم نفيق - نريد أن نحارب إسرائيل الدولة القوية، وظل أمريكا في الشرق الأوسط، ونمحوها من خارطة العالم.
وإذا ما أعلنا عليها الحرب، وقامت هي بتلبية نداء النزال، صحنا، ولطمنا، وملأنا الشوارع بالغوغاء الشاجبة المشجوبة، وطلبنا الإجارة من الشجر والحجر.
-5-
كان على الثلاثي الثورجي (حسن نصر الله، وسوريا، وإيران)، بدل أن يكيلوا التهم والشتائم لمصر، ويأمروها بفتح معابرها، أن يدركوا أن فتح المعابر، لن يوقف محرقة غزة، بل سوف يزيدها سُعاراً وانتشاراً. وهم يعرفون ماذا يمكن أن يوقف هذه المحرقة، وقد أعلنت إسرائيل (صاحبة الكلمة العليا اليوم في هذا المعمعان)، أنها لن توقف المحرقة إلا بشروطها، والبادئ أظلم. وكان على الأضلاع الثلاثة الباقية من الحلف الرباعي (إيران، وسوريا، وحزب الله) إن أرادوا فعلاً (الفزعة) والنخوة لحماس، أن يشمِّروا عن سواعدهم المفتولة، ويفتحوا جبهاتهم مع إسرائيل، ليخففوا من نيران المحرقة في غزة، لا أن يخاطبوا شعوبهم بضرورة التضامن المزيف، والتأييد الورقي، والوقوف المكرسح، مع أهالي غزة، وهو كله بمثابة التبن الذي تملأ به الأنعام أشداقها.
فقد كان على حزب الله أن يطلق صواريخه المتراكمة في جنوب لبنان، والتي يفخر ويهدد بها حسن نصر الله منافسيه من السياسيين اللبنانيين. وكان على إيران أن تطلق صواريخ شهاب، وعتاب، ورباب، عابرة القارات على إسرائيل، والتي تعتز وتفخر بها إيران، وتظهر لنا في الاستعراضات العسكرية لإخافة دول الخليج. وكان على سوريا قائدة الممانعة والمتابعة، ونجمة الدلال، والإغراء السياسي في المنطقة، أن تفتح جبهة الجولان، بدل أن تطلب من مصر فتح معبر رفح، أو توقف المباحثات غير المباشرة من فوق اللحاف، والمباشرة من تحت اللحاف مع إسرائيل.
-6-
وأخيراً، لقد اقتضى مرور أكثر من ثلاثين شهراً، على العرب، وخاصة الأخوة في مصر، الذين رفعوا حسن نصر الله إلى مصاف الأنبياء بعد حرب تموز 2006، وأطلقوا عليه quot;موسى الجديدquot;، صاحب العصا السحرية، الذي شقَّ إسرائيل كما شقَّ موسى البحر، لكي يدركوا بأن موسى ليس ما كانوا يظنون، وأنه فرعون، الذي قال لنا بعد حرب 2006، أنا... الأعلى. وهو ما حذّرنا منه في 2006، من خلال مقالاتنا: (ماذا بعد الاستقلال اللبناني الثاني؟ 19/3/2005)، و(نصر الله رئيساً لوزراء لبنان، 5/8/2006)، و(هل سيصبح لبنان الجمهورية الإسلامية اللبنانية؟ 18/8/2006)، و(هل بدأ حزب الله يطالب بثمن النصر الإلهي؟ 14/11/2006)، و(كيف حكم حزب الله لبنان في أسبوع الاجتياح؟ 26/5/2008)، وغيرها.
ونقول اليوم لهؤلاء، ما قاله الشاعر الجاهلي دُريد بن الصمّة:
أمرتهم أمـري بمنعرج اللــوى
فلم يستبينوا النصحَ إلا ضُحى الغدِ
السلام عليكم.