-1-
قبل أن نستكمل حديثنا عن دور هاشم صالح في حركة التنوير العربية، التي تسير بسراج صغير (أبو فتلة) وببطء، دعونا نؤكد حقيقة تاريخية، كانت قد ذُكرت في المقال السابق، عن أن الأديان السماوية جميعها، قد مارست العنف حيث يجب أن يكون العنف، وبشروط معينة. وقد استشاط بعض القراء المسيحيين، من ذكر قول المسيح عليه السلام: quot;لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض، ما جئت لأحمل سلاماً بل سيفاً. جئت لأفرق بين المرء وأبيه، والبنت وأمها، فيكون أعداء الإنسان أهل بيتهquot; (متي، 10: 34-36). ولجأوا إلى التأويل المختلف ndash; وهو ما يلجأ إليه دائماً فقهاء الإسلام ndash; دفاعاً عن روحانية دينهم، وهذا من حقهم. فقالوا، بأن السيف لا يعني سيف القاتل، ولكنه سيف الحق.. الخ. ولكن عليهم ألا يتلاوموا على المسلمين الذين يبررون أعمال ونصوص العنف في التاريخ الإسلامي بمختلف التبريرات. فكما أن المسيحيين يؤولون آيات العنف في الإنجيل، فكذلك يفعل المسلمون. ولكن الصحيح الذي لا يصُح غيره، هو أن الديانة المسيحية، لم تخلُ من العنف الدموي في تاريخها كباقي الديانات الأخرى، مصداقاً لقول الخليفة عثمان بن عفان: quot;إن الله يزعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآنquot; (يزع، تعني كفّ وزجر الناس عن أهوائهم). وهي إشارة إلى مدى فعالية السيف، في نشر الحق والعدل والرسالة الدينية.
-2-
ولعل ردَّ أحد القراء على مقالي السابق (الإسلام السياسي ومعضلة الأصولية)، مما نقله عن الباحث الفلسطيني د. شوقي محمد أبو خليل في كتابه (تسامح الإسلام وتعصب خصومه، 1990)، مستعرضاً العنف الدموي في التاريخ الديني المسيحي خير مثال على ذلك، وهو القائل: quot; فُرضت المسيحية بالسيف من قبل الإمبراطورية الرومانية. وقد ظل شارلمان (800-814م) إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، يحارب السكسونيين 33 سنة، في حروب كلها عنف ودموية حتى أخضعهم، وحوّلهم قسراً إلى الديانة المسيحية. وقام بثماني حملات متتابعة حتى هزم الأفاريين Avars. وقيل أن أسلاب كنوز الأفاريين المكدسة، رفعت شارلمان من أعالي الغنى والثروة إلى شاهق الفيض والوفرة. كما أُكرهت مصر على اعتناق النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى الحضيض، الذي لم ينقذها منه سوى الفتح الإسلامي. فدخل الناس الإسلام. وحتى الذين ظلوا مشركين، كان الفتح الإسلامي منقذاً لهم من اضطهاد الروم الكاثوليك. فكان فتح مصر سبباً لخروجهم من الكهوف، التي كانوا يختبئون فيها.quot;
-3-
نعود اليوم مرة أخرى إلى التنويري هاشم صالح، الذي أخذ يلعب دوراً في الترجمة لا يقل عن دور حنين بن اسحق، وابنه اسحق بن حنين في عهد الخليفة المأمون، و quot;بيت الحكمةquot;. وكان رائده في ذلك هو ماذا نترجم، وكيف نترجم، وليس كم الترجمة؟
فكان الأولى بهاشم صالح - لو أراد مالاً وراحة بال - أن يتجه إلى ترجمة مجموعات في كتب الإدارة والجاسوسية والطبخ والعلوم المختلفة، بدل أن ينكبَّ على ترجمة كتب محمد أركون، وهي المهمة الشاقة والقاسية. ومن المعلوم أنه قامت في العالم العربي مؤخراً، عدة جهات للترجمة، ولكن هذه الجهات ظلت مرتبطة بالدول التي لا تسمح بترجمة الكتب التي تعارض مذهبها أو أيدلوجيتها السياسية والدينية. لذا، ظلت الترجمة قاصرة على الكتب الإدارية والعلمية فقط، دون التصدي لكتب الفلسفة، وفكر الأنوار الأوروبي (نستثني من هؤلاء quot;معهد الإنماء العربيquot;، في بيروت، برئاسة المفكر السوري مُطاع صفدي، الذي قدم لنا معظم مؤلفات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو المهمة، وكذلك مجموعة من كتب الفكر الأوروبي المعاصر، وأصدر مجلتين فصليتين quot;الفكر العربي المعاصرquot;، و quot;العرب والفكر العالميquot; تعنيان بشؤون الفكر الغربي خاصة). ولكن مجيء مترجم كهاشم صالح غيّر خارطة الترجمة العربية. وفضله هنا ليس كمترجم فقط، ولكنه كمستنبط لاصطلاحات فلسفية وعلمية كثيرة. وهو يقول في مقدمة كتاب أركون (أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، 1992) مراهناً على أهمية الترجمة: quot; إن نهضة العرب المقبلة سوف تتوقف إلى حد كبير على نجاح مشروع الترجمة أو فشلهquot;. ونزيد عليه ما ذكرناه في عنوان هذا المقال، وهو أن quot;لا خلاص لنا إلا بهذه الوسيلةquot;. وهاشم صالح كان قد شقي بالمصطلحات الغربية في مختلف العلوم وترجمتها الدقيقة إلى العربية. وهو يقول: quot;كل فكر لا يعتمد على مصطلح دقيق يمكن السيطرة عليه، أصبح خارج دائرة الفكرquot;. وكان هاشم دقيقاً جداً في ترجمة مصطلحات كـ quot;الأبستمية Eacute;pisteacute;meacute;(نظام الفكر) ومصطلح quot;التقمّص الجسدي للعقائد Habitusquot; ومصطلح المغالطة التاريخية، أو الإسقاط Anachronisme ومصطلح الأسلمة Islamisation، وغيرها.
-4-
كتاب المفكر التونسي محمد شريف فرجاني، الذي يستعرضه هاشم صالح في كتابه quot;معضلة الأصولية الإسلاميةquot;، يحوي الكثير مما يجب أن نعلمه، ونتدارسه، ونقتنع به. ومن هذا الكثير، الحقائق التالية:
1- هناك دائماً فرق بين الدين كتنزيه وتعالٍ، أو كروحانيات سامية ومباديء أخلاقية، وبين الدين كأيديولوجيا سلطوية أو سياسية، هدفها التوسع على حساب الآخرين. فكل الأديان تحولت في لحظة ما، إلى أيديولوجيا سلطوية، بل وقمعية. وهذا معنى دراسة الدين من داخل التاريخ، وليس من فوق التاريخ.
2- إن الإسلام السياسي وُلد كرد فعل على الحداثة العلمية والفلسفية، التي بدأت تشع في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على يد المفكرين المصريين والشوام في مصر وبلاد الشام. وكان الإسلام السياسي كالمسيحية السياسية.
3- حسن البنا هو الذي دعا الملك فاروق إلى إلغاء الأحزاب السياسية في مصر، بحجة أن التعددية تؤدي إلى الفرقة، وهي مرفوضة في الإسلام، كما يقول البنا. كما دعا الحكومة المصرية إلى منع الاختلاط بين الذكور والإناث.
4- قدم أعلام الإسلام السياسي المعاصر، من حسن البنا، إلى سيد قطب، إلى تقي الدين النبهاني (فلسطيني ومؤسس حزب التحرير الإسلامي في القدس عام 1953) إلى آية الله الخميني، إلى عشرات غيرهم القراءة الأكثر توتاليتارية وتزمتاً للدين الإسلامي.
5- القراءة الحديثة للتراث الإسلامي؛ أي القراءة النقدية أو التاريخية، هي التي ستحرر العقول من هذا الاستلاب المزمن والطويل. وهو استلاب يشمل عقل مليار من المسلمين.
6- لا يمكن فهم النص القرآني إلا إذا ارتبط ببيئته وسياقه وزمنه. وهذا معنى القراءة التاريخية. فحرية الاعتقاد في الإسلام مرتبطة بالظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والرهانات السياسية، وموازين القوى، والعلاقات، التي كانت سائدة بين الطوائف الدينية في تلك الفترة التاريخية. ومثال ذلك، أن النبي عليه السلام، كان في موقف ضعف مع مشركي مكة المكرمة، ثم أصبح متشدداً معهم بعد الهجرة، وبعد أن قويت شوكة الإسلام. وهذا سبب التشدد والتسامح مع أتباع الديانات الأخرى كاليهود في المدينة المنورة (استئصال بني قريظة من المدينة، عام 624م مثلاً). ونقرأ آيات مكيّة تمتدح اليهود مدحاً جماً، وآيات مدينية تذمهم ذماً قاسياً، مما يثبت أن القرآن كتاب تاريخي سياسي بجداره، في هذه الناحية.
7- الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا علمانية كليةً، ولم يبق لها من المسيحية غير اسمها، ولا تتقيد بتعاليم البابا ولا برجال الدين.
8- كلمة quot;شريعةquot; لم ترد غير أربع مرات في القرآن الكريم بصفة الفعل والمصدر، كما في (الجاثية:18)، وبمعنى مختلف عن معناها الآن. ومعناها اللغوي هو الطريق أو المنهاج. ومعناها في القاموس الإسلامي الطريق أو المنهاج أو الدين. ومعناها عند البدو العرب نبع الماء والطريق المؤدي إليه (وفي مدينة السلط الأردنية، نبع ماء غزير، يُبعد عنها حوالي 20 كم نحو غور الأردن، يطلق عليه quot;الشْريعةquot;) والشريعة لم تطبق إلا بعد الاستقلال العربي، وكان العرف والتقاليد القديمة هي السائدة. والشريعة بمعنى القانون الديني لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر، ضمن quot;تنظيماتquot; الدولة العثمانية.
9- الحدود لا تعني قوانين نهائية ينبغي تطبيقها، ولكنها تعني حدوداً للعقاب لا يجب تجاوزها.
10- وأخيراً، يجب أن نعترف ndash; كما يقول فرجاني ndash; بأن حرية الضمير والمعتقد هي أحدى فتوحات الحداثة الفلسفية الأوروبية، منذ عصر التنوير حتى اليوم. وحل الصراع الإسلامي ndash; الغربي، هو أن نقطع مع الماضي للعيش بسلام مع الآخرين. وهذا ما فعلته المسيحية الأوروبية، عندما أعلنت التصريح الختامي لمجمعها الكنسي (1962-1965) بأنها تحترم عقائد المسلمين، وتطوي صفحة الماضي، واللعنات اللاهوتية على مدار التاريخ. فالماضي ذهب بأهله وأحداثه، ونحن اليوم quot;أولادquot; اليوم الجديد. وتلك هي وسيلة أخرى للخلاص مما نحن فيه.
السلام عليكم.
التعليقات