لم ألتقِ بيوسف أبا الخيل (لن نُحرِّك هذا الاسم) قط. ولم أعرفه إلا من خلال ما يكتب من مقالات أسبوعية في جريدة quot;الرياضquot;. كذلك فإن الكثيرين بل الأغلبية من القراء العرب خارج السعودية لا يعرفونه. ولو عاش وكتب يوسف أبا الخيل في مصر مثلاً ndash; وهذا كلام سبق وقلناه عن المفكر التنويري السعودي الآخر إبراهيم البليهي ndash; لكان له شأن آخر. ولكن كتابة ما كتبه وما يكتبه يوسف أبا الخيل في مصر لن تكون بالأهمية نفسها وبالقدرة نفسها وبالشجاعة نفسها التي يكتب بها داخل السعودية، وفي أشهر وأكبر جريدة سعودية، وهي بمثابة جريدة quot;الأهرامquot; المصرية، وفي مقدمة الصحف الطليعية والتنويرية في السعودية، بما تضم من كوكبة كتاب سعوديين تنويريين مهمين. فالقوة على قدر المقاومة. وكذلك الأمر في الأوساط الفكرية والثقافية. فقوة الفكر وقوة الثقافة تتأتى من قوة المقاومة. والفكر تظهر قوته بالفكر الضد. والفكر الضدي في السعودية أقوى منه في مصر، وفي أي بلد عربي آخر. وقد سبق وقلت، أن السعودية الآن هي quot;بارومتر العربquot;، وكنتُ أعنى بذلك بأن أكبر صخرة للسلفية والأصولية المتعنتة والمتشددة تسدُّ مجرى نهر الحداثة والليبرالية في العالم العربي، هي الصخرة السلفية والأصولية السعودية، التي تُصدر عشرات الفتاوى بين الحين والآخر، تستنكر وتعادي فيها كل قيم العصر السياسية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية.
الكلُ مُهمٌ في بناء التاريخ
ولكن، يجب علينا أن لا ننفي الرأي والفكر الآخر، كما يحاول أن يفعل السلفيون والأصوليون بالليبراليين. فالكلُ مهمٌ في بناء التاريخ. والكل مشارك من جانبه في هذا التاريخ. وحسب فلسفة هيجل في التاريخ، كما عرضها رونالد سترومبرج في كتابه (تاريخ الفكر الأوروبي الحديث)، فإن الجميع من سلفيين وأصوليين ووسطين وليبراليين على الساحة السعودية والعربية يقفون إلى جانب الحق. فهم جميعاً محقون. ولكل مكانه وزمانه. وكل واحد منهم جزء من المركَّب النهائي. كذلك، فإن الثورات، والثورات المضادة، والحروب، والاضطرابات، جزء من مخطط ضروري. وبالتالي، فإن الإسلام السياسي، وأحزابه، وكتَّابه، والعمليات الانتحارية الإرهابية، التي دارت في العالم العربي وما زالت حتى الآن، والخيبة والاختلال العربيين، كلها جزء من مخطط ضروري لتاريخ العالم العربي المعاصر. ومن هنا نرى، أن هيجل في فلسفته للتاريخ، لا يُهمل أي عنصر من عناصر تكوين التاريخ، سواء كانت حقاً أو باطلاً.
الباطل لا يموت بإهماله
إن قول عمر بن الخطاب: quot;أميتوا الباطل بترك ذكرهquot; خطأ فادح، وغير مصيب، لأن الباطل لا يموت بإهماله، وعدم وذكره، ولكن الباطل يموت ndash; إن قُدِّر له أن يموت ndash; بالجدل والمناقشة والحوار بينه، وبين الحق. ففرز الذهب عن التراب، لا يتمُّ إلا بالنار. والنار هنا هي الحوار والجدل. والباطل لا يموت بالإهمال والتغييب. فلولا الباطل لما ظهر الحق. والعكس كذلك. والضدُ يُظهر صدقه وثباته الضدُ. ويظل هذا الباطل قائماً في التاريخ، إلى جانب الحق، كالذرَّة لا يُفني، ولا يُستحدث من عدم.
لا بُدَّ للفكر من سلطان
ولكي ينتشر الفكر، ويقوى، ويُحمى دعاته، سواء كان هذا الفكر تنويرياً أو ظلامياً، تقدمياً أو رجعياً، حداثياً أو قُدامياً، ثابتاً أو متحولاً، لا بُدَّ له من سلطان، لأن الله كما قال الخليفة عثمان بن عفان quot;ينزع بالسلطان، ما لا ينزع بالقرآنquot;. وفي التاريخ العربي/الإسلامي أمثلة كثيرة على حماية السلطان للفكر في ثباته، وتحوّله، وخاصة في العصر العباسي الأول، وفي عهد الخليفة الراشد المأمون، ومن بعده الخليفة المعتصم بالله، ثم الخليفة الواثق بالله، والذين احتضنوا المعتزلة. ثم جاء الخليفة المتوكل على الله (847-861م) الذي احتضن السلفية الحنابلة، وبدأ فجر الانسداد التاريخي، وانطفاء قناديل التنوير، يبزغ منذ عام 847م، إلى يومنا هذا.
من كان في ظهر فولتير؟
شخصيتان ساهمتا في نشر أفكار فولتير، وزيادة جرعة الشجاعة الفكرية لديه، وحمايته من اضطهاد رجال الدين، الذين كان يُطلق عليهم فولتير quot;طغمة الكهنوتquot; هما مدام دي بومباردو، ذات الشخصية النافذة، وصاحبة الصالون الأدبي المشهور في باريس، والملك الأكبر فريدريك الثاني (1740- 1786) ملك بروسيا (ألمانيا الحالية) الذي كان يقول إنه تلميذ فولتير. وقد عاش فولتير زمناً في قصر فريدريك الثاني للدلالة على حمايته، وتبنّي أفكاره.
فولتير وأبا الخيل والتسامح الديني
أصبح فولتير في القرن الثامن عشر، رسول التسامح الديني في فرنسا، وربما في أوروبا كلها كذلك. ويوسف أبا الخيل يلتقي معه في ضرورة التسامح الديني من أجل إعلاء بناء الحضارة الإنسانية. فيكتب أبا الخيل متبنياً رأي المفكرين الفرنسيين: بول ريكوار وجاك لوغوف، من أن التعصب يعني تسفيه عقائد الآخرين وقناعاتهم، أو احتقارها، ومنع الآخرين من التعبير عنها بالقوة. وأن التسامح الفعلي، ينبغي أن يسبقه تفكيك فكر التعصب، لكي يظهر عارياً على حقيقته، ويفقد مشروعيته.
لا تعددية دون تسامح
ويقول أبا الخيل أن التسامح لازم للتعددية. والتعددية دينية كانت سياسية، أو عرقية، أو مذهبية، تُشكِّل، أصلاً بنيوياً من أصول الاجتماع البشري. ويأتي القرآن الكريم مصدقاً لهذه التعددية في أكثر من سورة، وأكثر من آية ومنها:﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم...﴾ (هود: 118-119). ويفهم أبا الخيل هذه الآية الكريمة، على إنه طالما أن حال الناس في هذه الدنيا ستظل موشَّحة بالاختلاف، فستظل التعددية ملازمة لهم، حسبما اقتضت حالهم، وهو اقتضاء دائم لازم، لا ينفك أبداً.
التعددية خيار لا محيد عنه
والتعددية في رأي أبا الخيل، خيار وجودي لا محيد عنه. ولا يمكن لها أن تعيش باستقرار وطمأنينة، ما لم تكن مؤطرة بالتسامح. ويضرب لنا أبا الخيل أمثلة كثيرة من التاريخ العربي/الإسلامي على التزمت والتعصب وعدم التسامح الذي زعزع السلم الاجتماعي العربي/الإسلامي، ومنها مثال الاضطهاد والملاحقة التي جرت لأبي علي ابن الوليد شيخ المعتزلة في عصره، وكذلك لابن رشد في الأندلس، وسيطرة فقهاء المالكية المتزمتين على المشهد الثقافي والفكري الأندلسي، الذي تحدث عنه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابه: quot;جامع بيان العلم وفضلهquot;.
القتل لمن يخرج من الشرنقة الأرثوذكسية
ويضيف أبا الخيل بقوله: quot; إن هذه الملاحقات والتهديدات بالقتل والتصفية، لم تقتصر على المشتغلين بعلوم الأوائل وحدهم، بل تعدتهم إلى الفقهاء الذين حاولوا الخروج من شرنقة الأرثوذكسية الفقهية. فالإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله، تعرَّض لملاحقات مروعة من خصومه التقليديين، حتى دُبِّجت فيه الآثار التي تحذر منهquot;. وفي العصر الحديث تمَّ السلوك المشين نفسه. فقُتل فرج فوده، وحسين مروة، ومهدي عامل، وشنق جعفر النميري وحسن الترابي، محمود محمد طه المفكر السوداني، وكاد أن يُقتل نجيب محفوظ، وطُرد نصر أبو زيد من وطنه.. الخ.
ضرورة التسامح
ويُجمل أبا الخيل رأيه في التعصب (القاعدة) وفي التسامح (الاستثناء) بقوله:
أن إحلال ذلك التسامح، ضروريٌ لإقامة نسق اجتماعي قادر على هضم مكونات المجتمع المتعددة، دينية كانت، أو مذهبية، أو عرقية.(جريدة quot;الرياضquot;، quot;التعصب والتسامح: القاعدة والاستثناءquot;، 18/4-16/5/2009).
وما زلنا في أول الطريق، وسنكمل المشوار.
السلام عليكم.
التعليقات